الوحوش الضارية (2).. الدولة وعالم "فرانكنشتاين"
لم يكن نظام مبارك نظاماً أيديولوجياً، وإنما كان مكتفيا -بحسب الدراسة- على الحد الأدنى من الشرعية، ومصمماً على فض الناس عن السياسة، حتى أجهزته الأيديولوجية (الصحافة والتلفزيون والجامعات) لم تكن تثير حماس الجماهير للاقتناع بفكر الزعيم؛ بل كانت مكتفية باستجداء شعور عام بالرضا عن النظام؛ وكانت لطبيعة النظام "العصابية" المبنية على شبكة علاقات لذوي النفوذ من أصحاب المال أو النافذين في الأجهزة الأمنية؛ كان لهذه الطبيعة الأثر في انعزال النظام عن الطبقات المتوسطة، وصعوبة اختراقها من قِبل المتحمسين للنظام والمدافعين عنه من أبناء الطبقة الوسطى المتطلعين للترقي الاجتماعي.
بحسب الدراسة فإن حالة "السبات الأيديولوجي" تلك تغيرت مع صعود وتيرة الاحتجاجات كرد فعل دفاعي من النظام؛ فخرج إلى النور جمال مبارك كوريث لعرش أبيه وأصبحت شعارات مؤتمرات الحزب الوطني تحمل مضموناً تجديدياً "الفكر الجديد ومحاولة الإصلاح"، "الفكر الجديد والعبور للمستقبل"، "فكر جديد.. وانطلاقة ثانية نحو المستقبل"، "مصر بتتقدم بينا"، "من أجلك أنت"..
يختلف خطاب الدولة /الجيش بعد الثورة عن خطاب الدولة /نظام مبارك في أنه خطاب تعبوي يريد حشد الجماهير من حوله؛ لتقوية شرعيته. أيضاً من أهم سمات خطاب الجيش هو أنه انتزع شرعيته من قلب ميدان التحرير! والتي سحبها على البلد كلها، بحسب الدراسة فإن "انحياز الجيش المتأخر للثورة وانقلابه على مبارك كاف في نظر التيار العام المؤيد للثورة للثقة به، وكان الجيش نفسه، كجيش، كافياً لدى أنصار الاستقرار والدولة، وعموم البيروقراطية؛ لينال الشرعية" وهو ما أنتج ثالث أهم السمات لخطاب الجيش وهي (التوافق). يكمل الكاتبان "وبالتالي كان خطابه حريصاً على التقاطع مع الرافدين الأساسيين: خطاب الدولة المهزوم -لكن المبتعد عن الدفاع مباشرة عن مبارك- وخطاب الثورة المنتصر".
أثر هذا التوافق على شكل علاقة الجيش بالثورة والنظام القديم؛ فمن ناحية كان يسجن رموز النظام القديم ويحاكمهم، ومن ناحية أخرى يمارس عنفاً ضد قوى ثورية. كان الجيش يضرب الجميع ولا يعادي أحداً! ضربات سريعة وليست جذرية؛ وهو الأمر الذي جعل -أغلب- القوى السياسية لا تدخل في مواجهة مفتوحة وجذرية مع الجيش؛ لأنه لم يبادر بمواجهة من هذا النوع.
بلغت أزمة الإخوان السياسية ذروتها مع فض اعتصام المعارضة عند قصر الاتحادية -من قِبل شباب الجماعة- ووقوع قتلى وجرحى من الطرفين، اتسم خطاب المعارضة في هذه الأزمة بتقاطع الخطابات، خطاب الثورة مع خطاب الدولة (فلول الحزب الوطني والجيش) نعت الكاتبان هذا التقاطع بـ(عالم فرانكنشتاين) المسخ، "كان استدعاء القوى الثورية للجيش أقرب إلى بعث الروح في "فرانكنشتاين"، المخلوق المعذب والمشوه، الذي يعلم خالقه أنه سيدمره تمامًا في لحظة ما، ولكنه بمأساوية أبطال الأساطير الإغريقية يتابع مساره القدري في خلق قاتله"!
وعن السبب وراء وصول خطاب الثورة لهذا التقاطع، توضح الدراسة أن خطاب الثورة وعلى الرغم من اختلافه عن الخطاب الاحتجاجي في أن الأول خطاب ينتظر منه التحدث عن شكل الدولة، والسلطة، ونوع الحكم، وغير ذلك من التفاصيل الأكثر من احتجاجية، بينما الخطاب الثاني خطاب سلبي لا ينتظر منه أكثر من حشد الجماهير الغاضبة؛ لمطلب التغيير، أو محاربة الفساد، ولا ينتظر منه إجابة على أسئلة من نوعية شكل الدولة والحكم.
إلا أن الخطاب الاحتجاجي أورث الخطاب الثوري سماته وأثّر فيه؛ وذلك بسبب انتقال رموز وكوادر الخطاب الاحتجاجي إلى الخطاب الثوري، أوضح هذه السمة، وليد شوقي -عضو حركة 6 أبريل وعضو المكتب السياسي بالحركة سابقا- حيث أكد أن "التجريب" كان أحد العوامل التي شكلت ملامح عمل الحركة على مدار أكثر من ثماني سنوات، يكمل شوقي: (إن محاولتنا أن "نجرب"، مع اعتماد طريقة التجربة والخطأ، هو حق إنساني؛ ولكنه كان الطريق الأصعب، والذي لم نملك سواه. لم تنقصنا الشجاعة، وأحيانًا لم ينقصنا الحظ أيضًا، ولكن كثيرًا ما كان ينقصنا الوعي.) حتى عندما حاولت الحركة تحديد هوية أيديولوجية لها، أصدرت (الأيديولوجيا الأبريلية) كانت بحسب شوقي (أقرب لمانيفستو منها لرؤية واضحة متكاملة، كان الاهتمام الأكبر دائمًا بالوجود والظهور كحركة احتجاجية، لا كأيديولوجيا، وهو المصطح الذي لم تقدم له الحركة شرحًا وافيًا). وهو الأمر الذي عبر عنه شوقي في النهاية بـ(الوجود قبل الماهية، أو اركب وبعدين نشوف)!
وعن وظيفة ودور (الجناح الديمقراطي) فبحسب الدراسة، كانت مهمة (الجناح الديمقراطي) في تحالف 30/6 (هو تحويل العنف إلى سلطة؛ أي صياغة معاهدة استسلام الإسلاميين) أي أن الجيش وقتها كان ينظر للجناح الديمقراطي بوصفه الطرف الذي سينادي بترشيد العنف، ويندد باستخدامه المفرط ضد الإسلاميين (ومع فشلهم في هذه المهمة، واستخدام الجيش للعنف الأقصى، في مذبحة فض رابعة، لم يعد لوجودهم أي معنى) يكمل الكاتبان أنه وبعكس المفترض كان رهان الجناح الديمقراطي نفسه على العنف وليس على أي شىء آخر!
يتضح ذلك من خلال المزايدات التي أطلقها أشخاص محسوبون على التيار المدني، أو الجناح الديمقراطي، مزايدات طالبت الجيش باستخدام عنف أكثر ضد جماعة الإخوان، نذكر هنا -على سبيل المثال- ما تحدث به الناشط الحقوقي مالك عدلي من أن (وجود جماعة "الإخوان المسلمين" هو جريمة، وللدولة أن تتعامل معها كيف شاءت) وجّه عدلي تساؤلاته (لوزير التضامن الاجتماعي، فيما السكوت حتى الآن -27/8/2013- عن إعلان تنظيم الإخوان تنظيماً إرهابياً مخالفاً للقانون، وزارة الداخلية، لماذا عدم السيطرة على مقرات "الإخوان المسلمين" حتى الآن).
في ذات السياق، فعلى الرغم من أن الموقف الرسمي لحركة 6 أبريل كان رافضاً للتفويض، الذي طلبه السيسي من الشعب! معتبراً أنه إذنٌ للنظام في استخدام العنف الكامل مع الإسلاميين؛ فإن الحركة شهدت خلافاً عميقاً بشأن هذا الموقف؛ وفي تصويت داخلي لأخذ القرار الرسمي بشأن التفويض كانت نسبة 45 % داعمة للتفويض، وذلك بحسب عضو سابق بالحركة -رفض ذكر اسمه لابتعاده عن العمل السياسي الآن- وهو الأمر الذي أكده وليد شوقي في اتصال هاتفي مع معد التقرير -ذكر وجود خلاف كبير؛ لكنه لم يذكر النسبة بالتحديد-.
في نهاية الدراسة رصد الكاتبان ما اعتبراه (انتصارات وهمية) للجناح الديمقراطي الذي عبر عن سعادته من ارتداء بعض الوزيرات في الحكومة الجديدة وقتها لـ(جيبة فوق الركبة)! وعن محمد البرادعي الذي (بدا غارقاً في برجه العاجي، في همومه الأمريكية عن ضرورة تعديل الدستور، بينما الدبابات تحتل كل مداخل العاصمة وشوارعها، والجماهير تملأ الشوارع، بعضها يطالب بإعدام وزير الدفاع، والأكثرية تطالب وزير الدفاع بإعدام هذا البعض).
ما بعد هذه اللحظة هو ما نعيشه الآن! من انطلاق مسخ "فرانكنشتاين" على الجميع، وانهيار تام للمجتمع المدني الذي أُخرج الإخوان منه قسراً، وشملت حالة الاستثناء -التي طبقها النظام على الإخوان- جميع حلفاء 30/6 وتحولت حالة الاستثناء إلى أيديولوجيا يحكم بها النظام الحالي، تصنع شرعيته وسلطته على المجتمع.