التجسس في الغرب.. انتهاك خصوصية الشعوب برداء ديمقراطي
هذا التقرير هو مُراجعة لكتاب "نعرف كل شيء عنك"، لمؤلفه أستاذ التاريخ الأميركي رودز جيفريز جونز، ويستعرض أساليب انتهاك الخصوصية في عصر التكنولوجيا والهواتف الرقمية، ووسائل المقايضة بين الأمن في مقابل الخصوصية، وشركات التجسس التي تحيطنا من كل جانب.
في عام 2013، بعد تسريب الآلاف من الوثائق بالغة السرية على يد إدوارد سنودن، المُتعاهد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، سارعت الإدارة إلى تبرير برامج المُراقبة واسعة النطاق التي كشفت عنها الوثائق. وفي محاولاتها لجعل برامج جمع البيانات أكثر شفافية وشرعية، شكََّلت إدارة أوباما مجموعة مراجعة خاصة، وأعادت تنشيط لجنة إشراف على الحفاظ على الخصوصية، وأصدرت أمرًا تنفيذيًا يتعهد باحترام حقوق الخصوصية لغير مواطني الولايات المتحدة. واتخذت شركات التكنولوجيا والاتصالات الأميركية – التي كشفت وثائق سنودن عن تورطها في هذه البرامج – وضعًا دفاعيًا، وسعت إلى الحفاظ على قاعدة مستهلكيها الدولية عن طريق تبرير تعاونها السابق مع الحكومة، ونأت بنفسها عن الممارسات الرقابية الحكومية. وفي 2015، دخل الكونغرس ساحة الصراع، وأصدر قرارًا بإنهاء ما يُعرف ببرنامج بيانات الاتصالات الهاتفية التابع لوكالة الأمن القومي، ومهمته جمع كافة بيانات أرقام الهواتف من المكالمات الصادرة والواردة، واستخدامها في رسم خريطة لعلاقات الأشخاص وارتباطاتهم.
في كتابه الجديد الشامل، "نعرف كل شيء عنك"، يضع رودي جيفريز جونز هذه النقاشات المعاصرة حول المُراقبة – التي يعرِّفها بـ"تجسسٍ على نطاقٍ جماعي" – في سياقٍ تاريخي مقارن. يحكي جيفريز جونز بتمكُّن قصة المُراقبة في الولايات المتِّحدة وبريطانيا من بداياتها في القرن الثامن عشر إلى اليوم. لكن ما يميِّز كتابه ليس وصف المُراقبة الحكومية الذي أسهب فيه كثيرون؛ وإنما تركيز الكتاب على دور الشركات الخاصة في هذه المنظومة.
كما يفصِّل جيفريز جونز في كتابه، المُراقبة امتياز لا تتمتع به الحكومات وحدها، بل تطوَّر وأخذ طابعًا مؤسسيًا على يد جهات خاصة كذلك. في الجنوب الأميركي قبل الحرب الأهلية، استعان ملَّاك المزارع برجالٍ بيض لمراقبة تحركات العبيد وجمع معلومات استخباراتية عن الانتفاضات المحتملة. وفي الشمال، بدأ تاجر في نيويورك يحمل اسم لويس تابان ما يُعتبر أول مكتب تحقيقات ائتمانية في عام 1841. بنت الشركة قاعدة بياناتٍ شملت أعراق العُملاء وأعمارهم وتاريخهم التجاري واستهلاكهم للمشروبات الكحولية، وحتى ميولهم الجنسية، بهدف تحديد جدارتهم الائتمانية.
ومع صعود موجة التصنيع، لجأت الشركات الخاصة إلى آلية المراقبة من أجل مُلاحقة الاتحادات العمالية. يحكي جيفريز جونز قصصًا مرعبة عن استعانة الشركات الأميركية والبريطانية بمحققين خاصِّين للتجسس على العمال ومُتابعة أنشطة المنظمات العمالية. الكثيرون خسروا كل شيء فور تتبع أنشطتهم. طردتهم الشركات من أعمالهم، ووضعتهم على قوائم سوداء تجعل من الصعب إعادة توظيفهم في أي مكانٍ آخر. وفي خمسينيات القرن الماضي، سهَّلت ستوديوهات هوليوود الماكارثية عبر إرشاد جهات التحقيق الحكومية إلى المخربين الشيعيين المزعومين، مما تسبب في تدمير المسيرة المهنية لعددٍ لا يحصى من كتاب السيناريو والمخرجين والممثلين.
حتى الصحافة لعبت لعبة المُراقبة. يتحدَّث جيفريز جونز عن صحيفة "أخبار العالم" البريطانية، التي تعقَّبت عائلة كانت تبحث عن ابنة مفقودة في 2002. تتبعت الصحيفة تحركات العائلة خفية، وصوَّرت وجوههم الحزينة، بل واخترقت أجهزتهم لتحصل على بريدٍ صوتي للطفلة المفقودة. يخلص جيفريز جونز إلى أن "الضرر الواقع على الناس بصورة يومية من المُراقبة الخاصة يفوق الواقع من نظيرتها العامة".
صحيحٌ أن جيفريز جونز يوثِّق قدرًا هائلًا من الضرر الذي أحدثته المُراقبة الخاصة، لكن من المُبالغة الدفع بأنها قد أحدثت ضررًا أكبر من التلصص الحكومي. وحدها الدولة يمكنها استخدام معلوماتٍ تحصلت عليها من أنظمة المُراقبة في حبس الأشخاص بل وقتلهم في إطارٍ قانوني. وعلى أي حال، لا يهم أيهما أسوأ. ما يهم حقًا هو حقيقة أنظمة المُراقبة العامة والخاصة، ومخاطر إساءة استغلال القطاع العام والخاص لها، والتداخل بينهما.
لقرارات القطاع الخاص أثرٌ هائل على نطاق المُراقبة الحكومية بكل تأكيد. فالشركات تقرر كل يومٍ أي بياناتٍ ستجمعها، ومواضع تخزينها، وما سيتم تشفيره، وما إن كانت ستذعن لمطالب الحكومة بتسليم المعلومات أو تقاومها، ومتى تفعل ذلك. كل هذه القرارات تشكِّل ملامح المعلومات المتاح جمعها للحكومة.
علاوة على ذلك، يُظهر جيفريز جونز أن الصلات بين القطاعين العام والخاص تسمح بتبادل التقنيات بينهما. على سبيل المثال، طوَّر ضابط بالجيش الأميركي كان مُتمركزًا في الفلبين في أواخر القرن التاسع عشر، يُدعى رالف فان دامين، نظام فهرسة وتصنيف يمكن لقيادات الجيش استخدامه في التعرف على المتمردين في الميدان. وبعد أن غادر الحكومة، استغل رالف مهاراته في مُراقبة أعضاء الاتحادات العمالية لحساب أقطاب التصنيع بولاية كاليفورنيا، وكان يُرسل رجاله أحيانًا إلى اجتماعات الاتحادات ليتجسسوا على العمال ويبعثوا بتقاريرهم. وحين مات فان ديمان، تجاوز عدد مثيري القلاقل المزعومين على قائمته أكثر من 125 ألفًا.
ثمَّ تأتي قصة ويليام ريجينالد هول، ضابط الاستخبارات البريطاني الذي أدار وحدة لفك الشيفرات في الحرب العالمية الأول. بعد استغناء الحكومة عن خدماته، أسس ويليام مجموعة عُرفت فيما بعد باسم العصبة الاقتصادية. كانت العصبة عبارة عن رابطة غامضة من أقطاب الصناعة لها نفوذها، تعقبت نُشطاء الاتحادات العمالية لحساب القطاع الخاص، ووضعتهم على قوائمه السوداء. وفقد بسببها عدد لا يُحصى من العمال وظائفهم أو فرصهم في التوظيف.
يذكر جيفريز جونز القراء بمُجريات الشراكة بين القطاعين العام والخاص. في 1919، رفضت شركة وسترن يونيون في بداية الأمر منح الغُرفة السوداء – وكالة فك الشيفرات الأميركية والتي خلفتها وكالة الأمن القومي – ولوجًا إلى رسائل التلغراف المطلوبة في أثناء عبورها المحيط الأطلنطي. لكن بحلول نهاية العام، نجحت الحكومة في الحصول على موافقة وسترن يونيون وشركات التلغراف الأخرى على مخطط المُراقبة.
بعدها توقَّف التعاون مؤقتًا في المدة بين الحربين العالميتين، ثم جرى استئنافه في الأربعينيات، ليتمخض عن مشروع يُعرف باسم "شامروك" (SHAROCK). يُمكِّن المشروع الإدارة الأميركية من قراءة مئات الآلاف من رسائل التلغراف بين سكان الولايات المتحدة وبين مُستقبلي الرسائل الدوليين. استمر شامروك لعقود حتى أوقفته وكالة الأمن القومي في السبعينيات بعد أن كشفت عنه لجنة فرانك تشرش، عضو مجلس الشيوخ آنذاك. كان المشروع إيذانًا بشكل علاقة القطاع الخاص بأنظمة المُراقبة الحكومية بعد الحادي عشر من سبتمبر، إذ قدَّمت الشركات تعاونها الكامل مع الحكومة في البداية، ولم تتراجع إلا بعد خروج وثائق سنودن إلى النور.
يُحسِن جيفريز جونز وصف أنظمة المُراقبة التابعة للحكومة والقطاع الخاص. لكن ما ينقص كتابه هو تقييم لأنواع المُراقبة، أيُّها مقبول وأيُّها متجاوز، وكيف يُمكن تحديد هذا في عالمٍ رقمي متصل بصورة متزايدة. في هذا العالم كل تحركات الأشخاص وتفاعلاتهم واهتماماتهم تعرفها شركات خدمات الهواتف الجوالة وشركات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث التي تجعل الحياة الحديث ممكنة.
إحقاقًا للحق، لا يهدف الكتاب إلى تقديم هذا النوع من الأحكام المعيارية. لكن يجب أن يقدمها أحدهم. في هذا الصدد، لم يخطيء جيفري جونز حين لاحظ أن "تبني التعديل الرابع على الدستور الأميركي لم يحسم جدال المُراقبة". وينبغي أن يكون هذا متوقعًا، بما أن التعديل الرابع لم يُقصد منه الوقوف في وجه المُراقبة الحكومية، ولا يتعرض من الأصل للمُراقبة من جانب القطاع الخاص. كان الهدف من التعديل الرابع هو ضمان صدور مذكرات التفتيش والاعتقال لأسباب وبإجراءات "معقولة". المعقولية مصطلح براغماتي لين، يضع في حسبانه حاجة الحكومة إلى المعلومات في محاربتها الجريمة وتحقيق الأمن من جانب، ومخاطر تجاوزات السلطة من جانب آخر. ببساطة، المُراقبة الحكومية معقولة أحيانًا، وغير معقول في أحيانٍ أخرى. والمهمة الصعبة هي رسم هذا الخط الفاصل بين المعقول وغير المعقول.
تبقى الكثير من الأسئلة الصعبة التي تثار حول كيفية احترام الخصوصية، وتوفير الأمن، والحماية من الانتهاكات في العالم الرقمي الحديث |
هذه هي المهمة التي تواجهها الجهات التشريعية في الولايات المتحدة، إذ يتناول الكونغرس الفقرة 702 من قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية، المقرر انتهاء العمل بها في ديسمبر. وافق الكونغرس في 2008 على برنامج الفقرة 702 الذي يسمح لوكالة الأمن القومي بجمع رسائل البريد الإلكترونية ووسائل التواصل الأخرى الصادرة من – والواردة إلى – الأجانب المتواجدين خارج الولايات المتحدة دون الحاجة إلى تصريح، طالما أن الغرض هو جمع "معلومات استخباراتية أجنبية"، والإجراءات العامة المتبعة خاضعة لموافقة محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية، وهي هيئة خاصة من القضاة الفيدراليين. لكن القرارات المحددة حول من وماذا يتم استهدافه متروكة للجهاز التنفيذي، ولا تتطلب أكثر من أن يكون الهدف مواطنًا أجنبيًا يمتلك معلوماتٍ استخبارية مطلوب حيازتها. تحت مظلة برنامج الفقرة 702، تجمع الحكومة مئات الملايين من بيانات الاتصال كل عام، حسب تقديراتٍ محافظة.
حين التعرض لمثل هذه القضايا، يجب مراعاة مصالح الجانبين. تحتاج وكالات الاستخبارات وفرض القانون الولوج إلى المعلومات من أجل تأمين الناس. لكن في الوقت نفسه، كما أدرك الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، هناك خطرٌ حقيقي يتمثل في أن يطيح الأمن بكل القضايا الأخرى. من هنا تأتي الحاجة إلى ضمانات إجرائية وجوهرية تُبقي المُراقبة الحكومية في إطار المعقول.
يسري الشيء نفسه على القطاع الخاص. فمع أن الشركات لا تمتلك سلطة حبس المواطنين، لكن يمكنها استغلال المعلومات في تدمير حيواتهم، كما يوثق جيفريز جونز في كتابه. وستزداد كمية المعلومات الشخصية المتاحة للشركات الخاصة مع الوقت، إذ يسجل كل شيء البيانات الرقمية، من جهاز التلفاز إلى منظم الحرارة. وستؤثر قرارات هذه الشركات بخصوص ما يجري حفظه والولوج إليه ومشاركته من البيانات في حجم ما يعرفه عنا القطاع الخاص وما تعرفه عنا الحكومة.
تبقى الكثير من الأسئلة الصعبة حول كيفية احترام الخصوصية، وتوفير الأمن، والحماية من الانتهاكات في العالم الرقمي الحديث. وبتركيزه على المخاطر التي تواجه الخصوصية وتاريخ انتهاكاتها، يوضح كتاب جيفريز جونز مجموعة من المخاوف بالغة الأهمية التي ينبغي أن نضعها في الحسبان. وعلينا الآن التوفيق بين هذه المخاطر وبين الاحتياج المشروع من جانب الحكومة إلى الولوج إلى المعلومات، من أجل سلامتنا.
______________________________________________
التقرير مترجم عن: فورين أفيرز