شعار قسم ميدان

كيف فقدنا ذواتنا؟ الرأسمالية والاستبداد وتشويه هوية الشباب العربي

ميدان - الاغتراب

إن الإنسان في العصر الحديث أصبح منفصلًا انفصالًا حادًّا لم يسبق له مثيل، سواء عن الطبيعة، أو المجتمع، أو الدولة، أو الله، وحتى نفسه وأفعاله".

(محمود رجب، أستاذ الفلسفة بجامعةالقاهرة)

 

على الرغم من التقدّم الرهيب الذي أنجزه الإنسان الحديث في مختلف حقول المعرفة والإبداع، إلا أن الإنسان العربي -بصفة خاصة- يعيش حاليًا في سياق ثقافي عالمي ساهمت فيه المؤسسات والأنماط السائدة في إفقاره وتدجينه وتهميشه. تطرح أدبيات الاغتراب أن الإنسان الحديث فقد علاقاته مع العالم شيئًا فشيئًا حتى صار يشعر وكأنه "لا شيء" وسط هذا الركام الهائل من الأحداث اليومية الجديدة، وبدا أن الحلم الذي تبشّر به الرأسمالية الليبرالية صار كابوسًا للإنسان في الحقيقة، فنشأ عند الإنسان الحديث ما سمّاه علماء النفس: "الشعور بالاغتراب".

 

يقول الكاتب الفرنسي ج. م. دوميناك: "لو وجه علماء اللغة أجهزتهم لرصد ما يكتبه الباحثون والنقاد والفلاسفة في عصرنا الحاضر، فإنني لأراهن أن كلمة [الاغتراب Alienation] سوف تحظى بالأولوية من حيث تردادها"(1). ويوافقه أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة محمود رجب ويقول معلّقًا: "وهذا قول على قدر غير قليل من الصحّة، ويبعد إلى حدّ كبير عن المبالغة. فالواقع أن الكلمة كثيرًا ما ترِد في مؤلفات المفكرين حين يعرضون بالتحليل والتفسير لظواهر ومشكلات مثل الفجوة بين الأجيال، أو الحرية والاستعباد، أو الإيمان والإلحاد، أو الاستعمار والتحرر من الاستعمار"(2).

 

ما هو الاغتراب؟

ولأن المفاهيم يمكن أن تعرف بنقيضها، وبالتطرق لمفهوم "الانتماء" فإن هوريس إنجلش يعرفه بأنه "اتجاه يستشعر من خلاله الفرد توحّده بالجماعة وبكون جزءًا مقبولًا منها، ويستحوذ على مكانة متميزة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه"(3)، وفي مقابل ذلك فإن الاغتراب هو "انسلاخ عن المجتمع.. وإخفاق في التكيّف مع الأوضاع السائدة في المجتمع"(4).. فكيف ينعكس هذا الانسلاخ أو الإخفاق في نفسية الإنسان؟!

العجز المصاحب للاغتراب معناه أن الإنسان
العجز المصاحب للاغتراب معناه أن الإنسان "لا يستطيع أن يقرر مصيره بنفسه، كما أنه لا يمكنه أن يؤثر في مجرى الأحداث أو في صنع القرارات المصيرية الحياتية

توصّل عالم الاجتماع الأميركي ملفين سيمان إلى تحديد 5 مفاهيم للاغتراب أطلق عليها تسميات العجز، وفقدان المعايير، وغياب المعنى، واللاانتماء، والاغتراب عن الذات(5). أما الباحث الأميركي أنتوني ديفيز فقد أجرى بحثًا ميدانيًا في جامعة هارفارد توصّل من خلاله إلى أن مفهوم الاغتراب يصاحبه خمسة آثار مشتبكة وهي: التركيز على الذاتية، وعدم الثقة، والتشاؤم، والقلق، والاستياء(6).

 

كما يشير عبد اللطيف خليفة، أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، إلى أن العجز المصاحب للاغتراب معناه أن الإنسان "لا يستطيع أن يقرر مصيره بنفسه، كما أنه لا يمكنه أن يؤثر في مجرى الأحداث أو في صنع القرارات المصيرية الحياتية، وبالتالي يعجز عن تحقيق ذاته ويشعر بحالة من الاستسلام والخنوع"(7).

 

لماذا يشعر الإنسان بالاغتراب؟

يرى كارل ماركس أن الاغتراب صفة ملازمة وحالة عامة للمجتمعات الرأسمالية التي حوّلت العامل إلى كائن عاجز وسلعة بعد أن اكتسبت منتجاته قوة مستقلة عنه بل معادية له(8). وقال إن العامل في ظل النظام الرأسمالي "يهبط إلى مستوى السلعة ويصبح حقًا أكثر السلع تعاسة.. يصبح العامل سلعة رخيصة بقدر ما ينتج من سلع، وبتزايد قيمة الأشياء تتدنى قيمة الإنسان نفسه"(9).
 

 

أمّا الفيلسوف الوجودي سورين كيركجارد فقد رسم لوحة دقيقة تعبّر عن تجربة اغتراب الإنسان الحديث وما يصاحبها من أحاسيس القلق والعبث والغربة والعجز واللاانتماء، فقال: "أغرز إصبعي في الوجود لأكتشف أن لا رائحة له. أين أنا؟ من أنا؟ كيف وصلت إلى هنا؟ ما هو الشيء الذي يُسمى بالعالم؟ من هو الذي ضللني إليه وتركني هنا؟ كيف بدأت أهتم بهذه المغامرة الكبرى التي يسمونها الواقع؟"(10).

 

ويرى عبد اللطيف خليفة أن هناك أربعة أنواع من الاغتراب بجانب الاغتراب الاقتصادي، وهي: الاغتراب الثقافي الذي يعاني منه الإنسان العربي خصوصًا نظرًا لغزو الثقافة الغربية على مجتمعاتنا مما تسبب في حالة من "تشتت الهوية"، وطبقًا لخليفة فإن الواقع بكل تناقضاته "قد أفقدنا الإحساس بالاستمرارية والتقدير الإيجابي للذات"(11). والاغتراب النفسي التي تتعرض فيها وحدة الشخصية إلى الانشطار والضعف والانهيار بسبب حالة عدم التكيف مع المجتمع وغياب الإحساس بالتماسك وضعف أحاسيس الانتماء والقيمة والأمن(12). بالإضافة إلى الاغتراب السياسي، والاغتراب الديني.

 

وفي دراسة قام بها أستاذ علم النفس بركات حمزة حسن على أكثر من 600 طالب جامعي(13)، قاس فيها معيارين أساسيين هما الشعور بالاغتراب والتديّن، أسفرت الدراسة عن نتائج تفيد بأن الشعور بالاغتراب مرتبط ارتباطًا جوهريًا سلبيًا بالتدين، بمعنى أن الشعور بالاغتراب يقترن في الغالب بحياة خالية من الجانب الديني والروحي.
  
undefined 

كيف يتصرّف الإنسان إذا شعر بالاغتراب؟!

عندما يكون الإنسان عاجزًا ويعي عجزه في علاقاته بالمجتمع ومؤسساته، فما هي البدائل أو الخيارات السلوكية المتاحة له لتجاوز اغترابه؟ أو بكلام آخر: ما العمل؟

 

يرى عالم الاجتماع السوري حليم بركات أن الإنسان المغترب "قد يقبل بالوضع مضطرًا ويعايشه، ولكنه قد لا يقوى على تحمّله فيبحث عن مخرج بسبل مختلفة"(14). ويطرح بركات ثلاثة بدائل سلوكية: إمّا الانسحاب واللامواجهة والانعزال عن الأنشطة العامة والانغماس في الأنشطة الخاصة، وربما تشكل الهجرة خارج البلاد أفضل الحلول الممكنة بالنسبة لهذا الخيار، وفي الخارج ينغمس الإنسان في نشاطات التسلية التي تنسي المغترب معاناته(15).

 

أمّا الخيار الثاني -طبقًا لبركات- فهو الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع والتكيف معه ظاهريًا على الأقل، وهو ما يُعتبر "خيارًا آخر كثيرًا ما يلجأ إليه المغتربون بفعل اليأس والضعف، وقد تنتهي مسوغات التكيف مع الواقع، كالتملق والمجاملة والتحبب والتقية والتسويغ والتناول والمساومة، إلى الانسجام مع الواقع"(16). ويقوم الخيار الثالث على التمرّد ومواجهة الواقع سواء عبر العمل الثوري لتغيير النظام أو عبر المشاركة في الأنشطة والحركات التي تهتم بإصلاح المجتمع.

أزمة الشباب العربي

يعيش الإنسان العربي مأساة حقيقية، فقد اجتمعت لديه أنواع الاغتراب جميعها، فمثلًا عن الاغتراب الثقافي، يقول صلاح الدين الجماعي في كتابه: (الاغتراب النفسي والاجتماعي) إن الإنسان العربي "يعاني من الاغتراب الحاد، لعدم وضوح الرؤية أمامه، والازدواجية في الحياة التي يعيشها، الازدواج في القدوة والتربية، وجميع المجالات التي تسهم في تكوين شخصية الإنسان العربي ونسيجه الفكري"(17).

 undefined

 
ثمّ يركز الجماعي على حالة الاغتراب الثقافي التي يعيشها الشباب العربي تحديدًا فيقول: "يسمع الشباب العربي عن الدين وحقائقه وقيمه وضرورة قيام المجتمع على دعائمه، وفي المقابل يسمع عن العلمانية والاستعانة بالفكر المادي لحل كل مشكلة وتحرير كل أرض" ثمّ يضع يده على الأزمة بدقة قائلًا: "إن الشباب يلمس ويعيش هذا التناقض الخطير أينما ذهب: البرنامج التليفزيوني يبدأ بالقرآن الكريم وينتهي بفيلم أميركي. المجلة العربية تبدأ بالأخبار المحلية ثم صفحات عن الدين ثم صفحات حول آخر صراعات الموضة في باريس ولندن"(18).

 

أمّا حليم بركات فيرى أن الأنظمة السياسية العربية "هي أنظمة مغرّبة تحيل أفراد الشعب إلى كائنات عاجزة. إن الشعب -بكل بساطة- مغلوبٌ على أمره، مستلَب من حقوقه وممتلكاته -المادية والمعنية- ومنجزاته ومؤسساته، ومهدّد في صميم حياته وكيانه"(19). وفي سياق ثقافي هجين يعبّر أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري عن الغربة التي أصابت الدّين في العالم الإسلامي في القرن العشرين قائلًا: "فزال الورع وطوى بساطه، واشتدّ الطمع، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدُّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات" (20).

 

هكذا إذن يقبع الإنسان العربي تحت نيران الاغتراب الاقتصادي نتيجة لتوحش النظم الرأسمالية، وتتحكم في مصائر الإنسان العربي نظم سياسية استبدادية لا تقيم للمواطن وزنًا، ويعيش في ظل حالة اغتراب ديني نتيجة للتجريف الشامل وحالة السيولة المطلقة لكل القيم الدينية والروحية في الوطن العربي. إن الإنسان العربي يعيش في واقع هو للغربة أقرب منه للوطن، ويعبّر أبو حيان التوحيدي عن مأساوية هذا الوضع قائلًا: "إن أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه" (21).

المصدر : الجزيرة