كيف ننتمي؟ المتعة كبديل للملحمة

لكنها ليست انتماءات قديمة مثل الانتماء لدين معين أو عرق محدد أو قبيلة أو قومية معينة، وليس انتماء لجيش إمبراطوري يستعد لغزو روما، ولسنا أمام جماعة البيورتانين ولا فرسان المعبد، إنه ألتراس كرة القدم في القرن الحادي والعشرين.
هذه الانتماءات الحديثة ربما تعتبر بديلا معاصرا للانتماءات القديمة والسرديات الكبرى كالأديان والإيديولوجيات والتنظيمات السياسية والدينية والأيديولوجية، فما مظاهر تلك الانتماءات؟ وكيف تحول الانتماء من أجل النضال قديما إلى انتماء من أجل المتعة حديثا؟
"عمري ما أحب غير الأهلي
ولا في غيره يفرحني
دايما معاه ولآخر الكون
عمري علشان الأهلي يهون"
– من أغنية لألتراس أهلاوي
استطاع عالم الاجتماع البولندي الأصل زيغمانت باومان اختصار بعض السمات الرئيسة التي تميز تلك الانتماءات الحديثة بمصطلح "جماعات غرف المعاطف".
وسيلة مثل فيس بوك أتاحت أن يكون مفهوم التضامن مفهوم درامي ومسرحي عن طريق التفاعل الكلامي أو الصور بدون أي نتائج حقيقية. |
حيث يبين باومان أن الجمهور الذي يذهب لمشاهدة عرض ما ويرتدي ثيابا محددة ويلتزم سلوكا محددا يتميز عن أنماط السلوك التي يسلكها كل يوم، هذه المناسبة تجعل الجمهور الزائر يبدو طوال مدة الحدث أكثر تقاربا مما هو عليه في الحياة خارج مبنى العرض، فالعرض وحده هو من أتى بهم جميعا هنا على اختلاف مآربهم ومشاربهم بالنهار.
ويذهب باومان إلى أن العروض المثيرة صارت تحل محل "القضية المشتركة التي اتسم بها القرن المنصرم وهذا يحدث اختلافا كبيرا في طبيعة الهويات الجديدة، حيث تحول شكل الجماعات الحقيقية الأصيلة إلى شكل "مستنسخ ساخر ومضحك"، كما تعمل هذه الانتماءات على تشتيت الطاقة البكر التي تحفز الوجود الاجتماعي لا تكثيفها، مما يسهم في إدامة حالة الوحدة والعزلة التي يسعى الأفراد باستماتة لتعويضها بروابط أخرى وتنسيق متناغم مع الآخرين.

لكن القصة لم تنته بعد، ففي عصرنا الذي يعزز الاختيارات الشخصية صارت تلك الاختيارات والأهداف الفردية الخاصة هي عناوين الملاحم الحديثة. فقد كتب أحد المهتمين بكرة القدم مقالا طويلا يسرد فيه الملحمة الشخصية للاعبي كرة القدم تحت عنوان "بيان النصر.. لأن الله قد ينصرنا أحيانا" يعرض فيه مسيرة حياة لاعبي الكرة كنوع من الملحمة والنضال الشخصي يكافح فيه البطل/اللاعب ليصل إلى مجده وختم مقالته بعبارة:
"أعزائي الباحثين عن منطق وسبب لما حدث، توقفوا قليلا عن البحث واستمتعوا بكل لحظة بهذه الحكاية القادمة من الجنة مباشرة، لا تبحثوا عن أرقام وأسباب وتحليلات، حاولوا فقط أن تنقشوا كل تفاصيلها في أدمغتكم، لأننا سنرويها يومًا ما لأجيال لن ترى مثل هذا الخيال أبدًا"
يبدو هنا أن الملاحم الحديثة أضحت تدور حول المسيرة والمجد الذاتي للشخص دون اعتبار للقيم الكبرى التي كانت الملاحم قديما تدور حولها، وأصبح العالم الحديث يصنع ملاحمه الشخصية متخففة من ثقل القيم الكبرى والتضحيات، سرديات لها شعائرها الخاصة وأماكن الحج الخاصة بها، فقد أمست ملاعب كرة القدم والتنس وكرنفالات الموسيقى ومهرجانات الطعام وحتى المؤتمرات العلمية الضخمة هي العرض المثير الذي وصفه باومان. وهذه العروض تشد لها الرحال من أقاصي العالم في حالة شعائرية خاصة.
فمشجعو الكرة على -سبيل المثال- يسافرون ليحضروا نهائيات كأس أو بطولة متشحين بقمصان الفريق ومعاطف التشجيع الخاصة التي تحدث عنها باومان، يسيرون في جماعات ويرددون شعارات الولاء والتشجيع ويحملون لافتات المؤازرة.

ويعلق باومان أن تلك العروض سواء كانت مباريات كرة قدم أو غيرها تكسر رتابة الوحشة اليومية، وتطلق العنان للغضب المكنون وتسمح للمحتفلين باحتمال الروتين الذي لا بد أن يعودوا إليه بعد انقضاء وقت المرح. وكما تقول تأملات الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين في الكآبة فهي "تترك كل شيء كما كان".
لكن بسبب كثرة المتاعب اليومية والقلق الذي يسببه الروتين المكتبي والمهام المتراكمة أصبحت تلك العروض غير كافية، هنا أتت ألعاب الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية لعلاج وتنشيط العمل في عالم مليء بالإحباط.

يخبرنا بون أن وسائل الترفيه مُرَمَّزة بالخطاب الرأسمالي، ففي حين يسعى الأشخاص للإفلات من مشاكلهم اليومية ومقاومتها تصبح تلك الوسائل شكلا من أشكال الانسياق والتوكيد على هذا الخطاب الذي نعتقد أننا نقاومه، فعلى سبيل المثال تأتي وسائل التواصل مثل: يوتيوب وفيسبوك وانستجرام ليولدوا لدينا شعورا فوريا بالرضى عندما نقوم بمشاركة فكرة جوهرية أو أمر إنساني دون الحاجة إلى المشاركة الفعلية في الموضوع.
فمشاركة افتراضية لراديكالي مثل ثيودور أدورنو أو ميشيل فوكو هي عبارة عن محاولة هؤلاء الأشخاص لإقناع الغير وإقناع أنفسهم بأنهم راديكاليون ثوريون جذريون، وبأنهم يغيرون العالم حولهم، فيما يعتقد بون أن فكرة الراديكالية والثورية أصبحت مجرد سلعة، فالرأسمالية قادرة على امتصاص وهضم أي فكرة وتحويلها إلى سلعة وبيعها للجمهور الذي يرغب في استهلاكها.
أغنية "gangam style" ما هي بالنسبة لألفي بون إلا "نوعا من التمتع الجنسي الذي يصاحبه تدمير ذاتي"، ورغم عدم رضى البعض عنها فإنهم لا يستطيعون مقاومة ألحانها الضاربة. |
يتحدث بون عن لعبة كاندي كراش كمثال، فهذه اللعبة -في ظنه- ليست إلا وسيلة استهلاكية لهدر الوقت في مكان العمل، هذا التشتت والإلهاء في مكان العمل هو ما يجعل ما نقوم به مهما وواقعيا. فكاندي كراش أكثر من مجرد تسلية، ويحلل بون الفكرة كما يلي: "عندما نلعب كاندي كراش فإننا نشعر بالرضى من تحقيق النظام المطلوب فيها، الأمر الذي نرفضه في العمل"، ويعتمد بون على والتر بينجامين وجان بورديار فيؤكد أن هذا التشتت يعد درعا لنا من علاقتنا بعملنا والتي غالبا ما تكون متشظية وغير متماسكة، فإذا وجدنا أنفسنا مجبرين على العمل دون إلهاء فقد نقع ضحايا لاغتراب عميق فلا نتمكن من تقبل الواقع، ومن ثم فهذا الإلهاء نابع من ضرورة.
وفي معرض حديثه يستخدم بون نظرية "الآخر الكبير" لـجاك لاكان فيعرِّف الآخر بأنه من يكون "كالإله الذي يراقبنا ولديه القدرة على ضمان انسياقنا لمجرى الأمور"، ويتفق بون مع زيجمانت باومن في أن وسائل التواصل ما هي إلا فخ فيقول:
"في بعض الحالات قد لا يُلاحظ ما نضعه على وسائل التواصل الاجتماعي ولا يُنظر إليه أصلا ولكننا نشعر بأن ذلك "الآخر الكبير" المتخيل قد نظر إليه ووافق عليه، فعندما ننشر شيئا ما للعموم فإننا نتخيل موافقة الآخرين عليه. قد يكون ذلك "الآخر الكبير" وهميا، ولكنه مزيج من عدد لا نهائي من الآخرين الذين نحاول استمالتهم"
وفي سياق آخر يحلل بون شعبية مسلسل "صراع العروش"أو"Game of thrones"، فيقول: إن عنف هذا العرض يعد نوعا من السادية وحب التلصص، ويرتبط بتاريخ كامل من العروض الدموية في التلفاز والأفلام، فالصور الجنسية الصريحة يمكن النظر إليها على أنها انعكاس لرغبة جسدية"، ومن ثم فإن مشاركتنا لمشاهدة هذه العروض ما هي إلا متعة سادية دون وسيلة ودون غاية.
تكمن الفكرة في معرفتنا أن هذه الألعاب والمسلسلات وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي مضيعة للوقت ولكنها تجعل عملنا يبدو مثمرا ومهما أكثر مما هو عليه في الواقع. وعندما نقوم بهدر خمس دقائق على لعبة تافهة فإننا نشعر بالذنب ونقوم بأداء عملنا بشكل أفضل، ومن ثم فإنها تقوم بتجديد حماسنا لعمل قد لا نحبه، كما أن وسيلة مثل فيس بوك أتاحت أن يكون مفهوم التضامن مفهوم درامي ومسرحي عن طريق التفاعل الكلامي أو الصور بدون أي نتائج حقيقية، وبدون الجرعة اليومية أو الأسبوعية من كل ذلك يشعر الشخص بغربة عميقة تجاه العالم والمجتمع والناس، وتصبح الحياة كلها مملة لحد الموت.

على صعيد آخر يذهب كثير من المراقبين النفسيين للعبة وأثرها إلى أنها تسكن القلق والاكتئاب لكن بشكل لحظي يأتي بعده إرهاق مضاعف، كما أن اللعبة تساعد الشباب والمراهقين على الخروج ولكن تبقيهم داخل هواتفهم الذكية وتعرضهم للسرقة والابتزاز بواسطة أشخاص مخادعين يستدرجونهم لأماكن معينة، فتزيد الفجوة بينهم وبين العالم ويفقدون الثقة في الآخرين.
ورغم ما أحدثته لعبة Pokémon go من طفرة في عالم الألعاب الرقمية يظل نمط الانتماء الحديث و"جماعات غرف المعاطف" حاضرا بشدة، حيث فتحت اللعبة بابا لمن يريد أن يبدأ ملحمته الخاصة المتخيلة بالترحال وجمع الكرات والوحوش الرقمية، ومثلها مثل باقي الألعاب والعروض والملهيات تساعد على التحليق في فضاء متخيل والانفصال عن الواقع.