شعار قسم ميدان

المقاومة الاقتصادية.. كيف مهد العمال لثورة 25 يناير؟

A riot police officer, on a armoured personnel carrier surrounded by anti-Mursi protesters (foreground), fires rubber bullets at members of the Muslim Brotherhood and supporters of ousted Egyptian President Mohamed Mursi along a road at Ramsis square, which leads to Tahrir Square, during clashes at a celebration marking Egypt's 1973 war with Israel, in Cairo in this October 6, 2013 file photo. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh/Files

undefined

يركز أغلب الصحفيين والباحثين عند حديثهم عن ثورة يناير التي أطاحت بمبارك على دور الحشود خاصة في جمعة 11 فبراير/شباط المسماة بـ"جمعة الرحيل"، بينما يغفل أغلبهم الدور الحاسم الذي أداه العمال والتنظيمات العمالية والنقابية في هذا اليوم وما سبقه من أيام عندما كان هناك خطر حقيقي على بناء الدولة المصرية بأكملها جراء استخدام القوة لإخلاء الميدان وغيره من الأماكن العامة من المتظاهرين، فقد تنامت موجة  من الإضرابات في أنحاء مصر حينذاك وهو العامل الحاسم الذي دفع مبارك للتنحي حفاظا على هيكل الدولة.

 

في 25 يناير/كانون الثاني 2011 -وهو ظرف استثنائي في تاريخ مصر الحديث- شجعت التظاهرات وحركة الحشود في شوارع مصر التنظيمات العمالية على الحشد والتعبئة، وتواصل بعضها مع بعض وكذلك مع المحتجين، وقد أدى ذلك إلى وجود درجة من التنسيق التي لم تكن موجودة من قبل بين أصحاب الأجندة السياسية الوطنية الواضحة وجماعات العمال ممن كانت مطالبهم -رغم تركزها في الغالب على شروط العمل والأجور-  تنطوي على ملابسات سياسية بشكل ما.
 

يدعي هذا التقرير أن الالتقاء بين الحراك السياسي والاحتجاج العمالي شكل تهديدا حقيقيا بشل الدولة المصرية مما جعل النظام حينها يدق ناقوس الخطر ويتخلى عن مبارك بدلا من انهيار النظام كله.
 

فكيف حدث ذلك؟ ومن أين أتت جموع العمال تلك التي  أطلقت الدعوة إلى إضراب عام في الثامن من فبراير/شباط؟ ثم ما هي الملابسات السياسية التي انطوى عليها تاريخ طويل من النضال العمالي في مصر؟
 

"فين الفطور يا بطل العبور؟" .. نبذة قصيرة عن المقاومة الاقتصادية

في يناير/كانون الثاني 1977 زلزلت "انتفاضة الخبز" القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن المصرية. سخر المتظاهرون حينها من الرئيس السادات بشعارات من نوع "فين الفطور يا بطل العبور؟"واضعين قوته العسكرية في كفة والارتفاع المفاجئ للأسعار الذي تسبب فيه برفع الدعم عن الغذاء من دون أي تمهيد في كفة أخرى.
 

كانت هذه الاحتجاجات علامة واضحة على الغضب الشعبي وتفاقمه لكنها ليست أحداثا جديدة فقد ظهر ما سماه تشارلز تريب المتخصص في التاريخ والسياسة في الشرق الأوسط بجامعة لندن بـ"المقاومة الاقتصادية"، حيث صنفها تريب كفعل مادي أو رمزي مرتبط بمقاومة الاستعمار، عندما بدأ هذا الفعل  شعبيا وبشكل واسع منذ بداية القرن العشرين. وفيما بعد ارتبط نمط المقاومة الاقتصادية بحياة الناس اليومية وطريقة تعاملهم مع السلطة والمؤسسات المالية وتصوراتهم نحو السلطة والنظام والسوق.
 

يشرح تريب كيف أن هذا الشكل من المقاومة ابتكره هؤلاء البسطاء الذين سيدمجون في الحركة الوطنية طرقا للاعتراض تارة على المستعمر ونظامه المالي عبر الاحتجاجات، وتارة على نظام العمل والأجور عبر الإضرابات والتخريب والحرق، وستظهر في أربعينات القرن العشرين النقابات والتنظيمات العمالية لتنظيم العمل والمطالبة بالحقوق .
 

وذلك النمط من المقاومة هو ما استمر منذ أربعينات القرن العشرين وحتى نظام عبد الناصر، ثم انفجر في وجه نظام السادات فيما سُمي بـ"ثورة الخبز"، ثم تنامى بعد ذلك ليصل ذروته أثناء ثورة يناير 2011.
 
undefined
 

لكن إذا كان الأمر كما يشرح تريب في كتابه "السلطة والشعب" أن نمط "المقاومة الاقتصادية" هو ما تطور عبر الزمن ممهدا الطريق لثورة يناير؛ فلماذا تأخر هذا الالتقاء بين المطالب السياسية والاقتصادية؟

 

علاقة مضطربة بين الحراك السياسي والاحتجاج العمالي

في 1977 كان قرار الحكومة المصرية بإدخال بعض الإصلاحات المطلوبة في الأسعار برفع الدعم عن الدقيق والسكر والزيت والوقود والغاز مثيرا لرد فعل سريع وغاضب من مئات الآلاف من المصريين.
 

ففي 18 يناير أضرب عمال الحديد والصلب بحلوان وتجمعوا في ميدان التحرير وأماكن أخرى في القاهرة حيث انضمت إليهم آلاف أخرى واندلعت مظاهرات شبيهة في المدن الرئيسة بطول مصر وعرضها. أحرقت الحشود رموز الحكومة مثل مبنى الاتحاد الاشتراكي في الإسكندرية وقسم شرطة السيدة زينب في القاهرة.
 

وفي الوقت نفسه هوجمت البنوك وكذلك المحلات الفاخرة والكازينوهات في شارع الهرم الذي ارتبط لزمن طويل بالثروة التي يتمتع بها قلة من الناس. وجاءت الشعارات مضاهية للاتهامات المزدوجة من قمع الحكومة وانعدام التكافؤ "عاوزين حكومة حرة العيشة بقت مرة"، "هما بياكلوا حمام وفراخ واحنا الفول دوخنا وداخ". وفي اليوم التالي تدخل الجيش وفرض حظر التجوال تاركا ما يقترب من خمسين قتيلا وأكثر من 600 جريح، ورغم القبض على مئات المصريين وما تلا ذلك من محاكمات حاولت إلقاء اللوم على عدد قليل من "المحرضين" تراجعت الحكومة عن رفع الأسعار وأقرت بقوة الاحتجاجات.
 

لكن في فترة ما بعد ثورة الخبز -ورغم تصاعد وتيرة الاحتجاجات العمالية- لم يفلح النضال العمالي المتصاعد في  جذب انتباه القوى السياسية، فحسب "بوابة الاشتراكي" اقتصر الدعم السياسي المقدم للعمال على قوى اليسار التي حاولت بإمكاناتها المحدودة بلورة مطلب موحد حول الأجر والحد الأدنى للأجور، كما حاولت تنظيم الحركة من خلال دعم تأسيس النقابات المستقلة، بالإضافة إلى محاولة بناء جسر بين المعركة السياسية والمعركة الاجتماعية.

وبحسب أحد القيادات العمالية في حواره مع جريدة الاشتراكي فإن معظم القوى السياسية كانت تدين الاحتجاجات العمالية وتتهمها بالانتهازية والفئوية، وأنها لا تعمل لصالح الوطن. ما أدى إلى فجوة كبيرة بين السياسيين والعمال حيث سادت نغمة الاستقرار أثناء حكم مبارك مع المعارضة الجزئية التي لا تتجاوز الانتخابات البرلمانية.
 

كان هذا الانفصال بين الحراك السياسي والاحتجاجات العمالية متزامنا مع لحظة اعتبرتها القوى العمالية "لحظة ثورية" كما سماها الكاتبان مصطفى بسيوني وعمرو عادلي، تصاعدت وتيرة الاحتجاجات العمالية في حين بدا النظام مرتبكا حول ترتيبات المستقبل، وأثيرت تساؤلات حول صحة مبارك وملف التوريث وقدرة النظام على إدارة الأزمات، وفي تلك اللحظة استمر العمال في الضغط لأجل مصالحهم الفئوية والعمالية.

فيما بعد، جاءت نهاية 2006 تتويجا لحراك عمالي تصاعد منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، و امتد حتى قيام ثورة يناير، وقد بدأ في المحلة ثم انتقل بسرعة من  قطاع إلى آخر. وكانت أغلب الاحتجاجات في القطاع العام -سواء الصناعي أو الخدماتي-  أكبر بكثير منها في القطاع الخاص، وهو ما ركز المواجهة بين العمال والنظام السياسي.
 

 فحسب الكاتب مصطفى بسيوني كانت مطالب العمال تتلخص في تحسين الأجر المتغير وشروط العمل، وهي مطالب تختلف من موقع إلى آخر، ما أفقد الحركة الوحدة والتماسك، خاصة في ظل وجود تنظيم نقابي مكبل. لذلك أخذت الحركة العمالية شكل موجات متتابعة ولكن متباعدة تنتابها حالات مد وجزر. وهو ما جعل الدولة تتعامل مع هذه الاحتجاجات بشكل وقتي وموقعي، ما تسبب بالتالي في تصاعد وتيرة الاحتجاجات بدلا من احتوائها، حيث أصبحت المكاسب التي يحققها موقع أو قطاع تدفع الآخرين إلى المطالبة بالمعاملة بالمثل، كما كانت الوعود الكاذبة تزيد من احتقان العمال وتدفعهم إلى التصعيد.
 

دعت حركة 6 إبريل في 2008 لإضراب عام في البلاد، اشترك فيه عمال غزل المحلة وبعض القوى السياسية، منها حركتا كفاية و6 إبريل وجماعة الإخوان وحزب الكرامة ومجموعة من النشطاء أصحاب المدونات، وانتشرت الدعوة كالنار في الهشيم عن طريق الإنترنت والرسائل القصيرة، وكانت هذه هي بداية التوافق بين العمال والحراك السياسي.

 

 

التحام الشباب والعمال وتهديد الدولة المصرية

حسب كريم رضا المتحدث باسم اتحاد عمال البترول الحر فإن الحركة العمالية كانت سببا في ثورة 25 يناير وخلع حسني مبارك بعدما كسرت حاجز الخوف عند المصريين بالوقفات والاعتصامات والإضرابات وخاصة إضراب عمال المحلة والضرائب العقارية.
 

فابتداء من 2008 بدأت القوى السياسة في الالتحام مع العمال مجددا مشكلين وجهة جديدة للحركة الوطنية، وبدأت لأول مرة دعوات لإسقاط مبارك وحكومته ورفض التوريث.
 

ويذهب تشارلز تريب إلى أن  أحداث تظاهرات يناير منحت العمال المصريين فرصة تشكيل تنظيم نقابي مستقل، ففي 30 يناير/كانون الثاني 2011 عقدت مجموعة من العمال من عدة صناعات وقطاعات في أنحاء مصر (نسيج- معادن – دواء- موظفو حكومة) مؤتمرا صحفيا في ميدان التحرير للإعلان عن تشكيل الاتحاد المصري للنقابات المستقلة. وأعلن المتحدثون باسم الاتحاد تأييدهم للمطالب السياسية الرئيسة للمحتجين وكذلك تشكيل لجان في المصانع على صعيد مصر من أجل التنسيق لإضراب عام والتخطيط لتنفيذه.
 

دفع التراكم النضالي للعمال على مدار سنوات أعدادا ضخمة منهم إلى الميادين، ويجيب أحد القيادات العمالية في حوار مع مجلة أوراق اشتراكية بأن سبب ذلك أن عشرات الآلاف منهم خاضوا نضالهم ضد النظام في مصانعهم ومواقع عملهم من قبل، وأدركوا الفساد والظلم بشكل مجسد ومباشر، وعرفوا بالخبرة أن الاصطفاف يشكل ضغطا قد يحقق المطالب، وكان عمال مصنع الحديد والصلب بالسويس أول من أعلن الإضراب مبكرا حتى سقوط النظام، كما كان بيان العاملين بوزارة الصحة أول وثيقة تطلق لفظ "ثورة" على ما يحدث بعد موقعة الجمل. ثم  ظهر دور الطبقة العاملة لحسم الموقف وبدأت الإضرابات تتوالى والدعوة لإضراب عام تتجسد في الواقع. وهو ما أرعب النظام ودفعه للتخلي عن مبارك حتى لا تتحول الثورة السياسية إلى ثورة اجتماعية.
 

وفور الإعلان عن نجاح الثورة بدأت تحركات سياسية كثيرة لترتيب الأوضاع بعضها في العلن وأغلبها في السر، ويعلق بسيوني بأن العمال لم يحضروا هذه الترتيبات لأنهم لم ينضموا إلى الميادين بشكل منظم ومؤسسي، ولأن النظام ظل متماسكا ومصرا على عدم إجراء تغييرات جذرية على المستوى السياسي والاجتماعي.
 

فرقة وخصام.. بداية ضياع الثورة

في الأسابيع التي تلت الإطاحة بمبارك استمرت الإضرابات عبر جميع قطاعات الاقتصاد المصري، وكان من الواضح -كما يشرح تشارلز تريب-  أن مقاومة العمال لم تكن ببساطة ضد حكومة أو حتى نظام بعينه بل ضد تحول جوهري ومنظم في اقتصاد مصر السياسي.
 

فالاتحاد المصري للنقابات المستقلة المؤسس حديثا، والذي تألف مبدئيا من أربع نقابات مستقلة وشجع على تشكيل أخرى كان له دور أساسي في السعي إلى الدفاع عن حقوق العمال في تغيير مشهد السياسة المصرية. ومثلما أشار مؤتمره في مارس/آذار 2011 أن أحد أهدافه الأولى كان الاتحاد الرسمي الذي تديره الدولة.
 

في ذلك الوقت ظهرت الدعوات التي كانت موجودة قبل الثورة مجددا والتي ترفض ما سمته بـ"المطالب الفئوية"، كما دعت أغلب القوى السياسية لتهدئة الأوضاع وإعادة تشغيل "عجلة الإنتاج"، ورغم الاستياء الواضح من الحكام الجدد لمصر ممثلين في المجلس العسكري الذين حذروا دون مواربة من خطر الإضرابات؛ رغم ذلك استمرت تحركات العمال وأنشطتهم.
 

 ويذهب تريب إلى أنه كان واضحا أن المجلس العسكري ينوي إعادة تشغيل الاقتصاد لا إعادة هيكلته، فقد كان للجيش مصالح اقتصادية مرتبطة بالوضع القائم آنذاك. وفي حين كانت الحركة العمالية بشكل عام تقاوم القانون الجديد الذي صدر في مارس 2011 يُجرم الاحتجاج العمالي ويصادره كانت الحركة السياسية بالتوازي تتعرض لهزائم متوالية وتفقد الزخم الشعبي والقدرة على الحشد.
 

 يضيف بسيوني وكذلك أحد القيادات العمالية على بوابة الاشتراكي أنه عندما جاءت أحداث شارع محمد محمود وأحداث اعتصام مجلس الوزراء أدركت القوى الثورية أهمية العمال كقوة عددية في مواجهة العسكر. وهو ما تبلور بعد ذلك في تبني عدد من القوى السياسية والثورية دعوةً للإضراب العام في ذكرى رحيل مبارك. ولم تحاول هذه القوى السعي إلى العمال ونشر الفكرة ومناقشتها معهم، ولم تضع مطالب العمال نصب أعينها ولا حتى ضمن أهداف الإضراب العام. وبالطبع لم يقبل العمال على الفكرة التي اقتصرت على القطاع الطلابي، مما جعل الفجوة بين الحراك السياسي والاحتجاج العمالي تتسع مرة أخرى وينفصل الجسدان بعدما كانا قد التحما أثناء ثورة يناير.
 

مصلحة الجيش الاقتصادية وأفق المقاومة


undefined

لا تهمني النظريات الاقتصادية. يهمني فقط سعر كيلو اللحم والسكر وزجاجة الزيت وعلبة الدواء وفاتورة الكهرباء، وأن كل جنيه في جيبي صار ثلاثين قرشًا. لقد انتهت حقبة اليوفوريا ورقص السيدات أمام لجان الانتخاب لتأتي لحظة الحقيقة.

– أحمد خالد توفيق
 

حسب الباحثة شانا مارشال المديرة المساعدة لمعهد دراسات الشرق الأوسط؛ فقد اكتسب الجيش المصري نفوذاً غير مسبوق منذ أن أشرف على الإطاحة برئيسين مصريين هما حسني مبارك في 2011 ومحمد مرسي في 2013. ومع تهميش أبرز المنافسين السياسيين والحصول على أكثر من 20 مليار دولار من المساعدات الخليجية ودعم محلي واسع النطاق للمشير عبد الفتاح السيسي الذي أصبح رئيسا.

مع كل ذلك استأنفت القوات المسلحة المصرية عملياتها الصناعية المتهالكة وضمنت السيطرة على مشاريع البنى التحتية الضخمة، وأدخلت الجنرالات إلى مناصب الحكم كافة تقريبا، وقلصت الهيمنة الاقتصادية للجيش من فرص نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة، في ظل أن المقربين فقط هم من يمكنهم الفوز بعقود مربحة والتعامل مع نظام التصاريح. وهذا بدوره يؤدي إلى اقتصاد غير رسمي كبير قائم على المقربين ويترك العديد من المصريين يعيشون في فقر مدقع.
 

في ظل هذا الوضع، ومع دخول مصر لحالة الكارثة الاقتصادية -كما تصفها نعومي كلاين- يظهر التساؤل عن أفق ما سماه تشارلز تريب بالمقاومة الاقتصادية.
 

هل سيعود شكل المقاومة الاقتصادية ونمطه الاحتجاجي ليندمج مرة أخرى مع الحراك السياسي، وينتج حالة رفض ومقاومة جذرية ليس فقط للنظام الحالي بل للتوجه الاقتصادي الذي سارت عليه الدولة المصرية منذ عهد السادات،حيث أن أي حراك الآن لا يضع الامبراطورية الاقتصادية للجيش نصب عينيه أثناء التفكير في مطالب سياسية تضمن الحقوق الأساسية للشعب سينتج تجديدا في دماء النظام الحاكم كله فقط، أم أن القمع الذي طال الحراك السياسي والاحتجاج العمالي معا قضى على إمكانية اندماجهما من جديد؟!

المصدر : الجزيرة