شعار قسم ميدان

السعادة ليست هدية.. هل يحزن الطيبون أكثر من غيرهم؟

"في هذه الأيام تكون في مزاج سيء، مستغرقًا في ذاتك، مستغرقًا في روحك التي انفتحت جراحها من جديد، فقط لتذكرك بأن لا شيء يضيع، لا شيء يختفي، حتى أقل الآلام والذكريات المريرة، إنها فقط تتراجع لبعض الوقت، تنسحب إلى عمق مجهول، تمامًا كما تتراجع وتنسحب هذه المرة، وسوف تنساها إلى أن تعود في وقت آخر"(1)

وسط كل هذه الآلام والإحباطات التي يواجهها الإنسان في حياته، فإنه يتوق للسعادة ويسعى لها، أملا في أن يخلّص روحه من تلك الجروح والأحزان، أن يضحك فرحًا، ليضفي على وجوده بهجة تنسيه ما ألمّ به من شقاء، باحثا عن نعيم في الحياة، سائرا في رحلة يرقب بها سبيل سعادة ليسلكه، وهذا ما وصفه الشاعر محمود درويش في قصيدته:

"نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا

 ونرقص بين شهيدين نرفع مئذنة للْبنفسج بينهما أو نخيلا

نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا
و نسرق من دودة القز خيطًا لنبني سماء لنا ونسيج هذا الرحيلا
و نفتح باب الحديقة كي يخرج الياسمين إلى الطرقات نهارًا جميلا"

يحكي عالم الاجتماع زيغمونت باومان(2) عن الشاعر الألماني غوته أنه سُئل ذات مرة سؤالًا: هل عشت حياة سعيدة؟ فكان جوابه: نعم، عشت حياة في غاية السعادة، لكن لا أتذكر أسبوعًا واحدًا سعيدًا. ويعلّق باومان أن هذا المفهوم للسعادة مختلف عن مفهومنا الحديث، حيث جعلتنا حضارة الاستهلاك والإعلانات نظن أن السعادة هي سعادة وقتية ومؤقتة يجب إشباعها هنا والآن وفورًا، وأن السعادة سلسلة غير منقطعة من المتع المحسنة باستمرار.
يرى بيغوفيتش أن الإنسان السعيد ليس لديه قصة حياة. ومن الممكن للمرء أن يقول: الأمر ممل مثل سيرة حياة رجل سعيد يعيش في وقت السلم
يرى بيغوفيتش أن الإنسان السعيد ليس لديه قصة حياة. ومن الممكن للمرء أن يقول: الأمر ممل مثل سيرة حياة رجل سعيد يعيش في وقت السلم

ويذهب باومان أن ما يقصده غوته هو أن السعادة ليست مجرد متع حسية آنية، ولا ما تقدمه لنا الحضارة الحديثة من موضة وإغراءات وفتن، وإنما هي التغلب على التعاسة، مواجهة المشكلات، فقد قال غوته في أحد أشعاره(3): "إن أسوأ كابوس هو سلسلة من الأيام المشمسة"، حيث تتحول هنا السعادة الظاهرة لنا إلى ملل وفقدان الإثارة وفقدان الغاية التي تسعى وتقاتل من أجلها في الحياة، ويؤكد الأديب إميل سيوران على تلك الفكرة عندما قال: "إن ما يجعل حياة الإنسان معتمة مظلمة هو خلو التاريخ من المعنى ووعوده التي لم تتحقق"

أما المفكر علي عزت بيغوفيتش فيذهب إلى أن(4) "الإنسان السعيد ليس لديه قصة حياة. ومن الممكن للمرء أن يقول: الأمر ممل مثل سيرة حياة رجل سعيد يعيش في وقت السلم. ولكن هل الأمر هكذا بالفعل؟ هل هناك رجل سعيد حقًّا؟ هل المواطن السويسري العادي سعيد اليوم فعلًا؟"

وينصحنا باومان أن نعتبر حياتنا كفاحًا طويل الأمد: تحل مشكلة، يعقبها أخرى، والأضرار الجانبية لها عادة ما تكون مزعجة، حيث أن مشاعر التجربة هي التي تبقى في أذهاننا وهي ما تُشكّل انطباعنا عن التجارب وعن الحياة بشكل عام، فما الذي يمكن أن يزودنا به العلماء عن تلك الفكرة، هل سعادتنا تكمن في الذاكرة أم في مشاعرنا المختزنة من التجارب؟

في محاضرة لـ دانيال كانيمان يتحدث دانيال عن أن هناك فخاخًا معرفية يقع فيها الإنسان عند تفكيره في السعادة. وأول هذه الفخاخ هو التردد حول الاعتراف بالتعقيد، حيث أضحت كلمة السعادة "ليست كلمة مفيدة بعد الآن لأننا نطبقها على الكثير من الأشياء المختلفة. فهناك معنى واحد محدد ينبغي أن نلتزم به، لكنه شيء سيتوجب علينا تركه وينبغي علينا تبنّي النظرة الأكثر تعقيدًا عن ماهية الرفاه"(5). حيث إن تقديم الحضارة الحديثة للسعادة على أنها فيما تملك وأن تريد أكثر، جعل مفهوم السعادة مختلطًا مع الرفاهية والجشع.

والفخ الثاني حسب دانيال هو الارتباك بين التجربة والذاكرة، بين أن تكون سعيدًا في حياتك وأن تكون سعيدًا حول حياتك أو سعيدًا مع حياتك. وهذان مفهومان مختلفان جدّاً، وكلاهما تم جمعهما في مفهوم السعادة. والثالث هو "تركيز الوهم، وهي الحقيقة غير السارة بأننا لا نستطيع التفكير حول أي ظروف تقوم بالتأثير على رفاهيتها بدون التشويش على أهميته". يحكي دانيال أنه سأل شخصًا عن تجربته، فقال إنه كان يستمع إلى سيمفونية، وقد كانت موسيقى متألقة جدًّا، وفي نهاية التسجيل كان هناك صوت صراخ مروع. ثم أضاف -بصورة عاطفية جدًّا- لقد فسدت التجربة برمتها. ويضيف دانيال أن ما أُفسد يتمثل في ذكريات التجربة، لقد مرّ بتلك التجربة، وقد استمتع بعشرين دقيقة من الموسيقى المتألقة، لكن هذه اللحظات لم تسجل في الذاكرة لأن الذكرى قد تم إفسادها.

ما يخبرنا به هذا، هو أننا ربما نفكر بأنفسنا وبقية الناس بأننا نملك نوعين من النفسيات، نفسية التجربة، التي تعيش في الحاضر وتعرف الحاضر، وقادرة على إعادة العيش في الماضي، لكنها في الأساس تملك الحاضر فقط. إنها نفسية التجربة التي يصفها الطبيب حينما يسأل "هل يؤلمك الآن عندما ألمسك هنا؟"، ثم هناك نفسية الذكرى التي تُبقي النتيجة، وتحافظ على قصة حياتنا، وهي التي يقترب منها الطبيب عند طرح السؤال، "ما الذي كنت تشعر به مؤخرًا؟" أو "كيف كانت رحلتك إلى ألبانيا؟". إنهما شيئان مختلفان جدًّا، نفسية التجربة ونفسية الذاكرة، والخلط بينهما هو جزء من الكارثة التي تعمل على تشويه مفهوم السعادة. تروي ذاكرتنا القصص ليس بما وقع حقيقة لكن بما انطبع داخل الذاكرة عن واقعة معينة، نحن لا نقوم فقط برواية القصص حينما نكون جاهزين لقص القصص، إن ذاكرتنا تخبرنا بالقصص، ذلك هو ما نحتفظ به من تجاربنا، القصة. 

يحكي دانيال عن دراسة قديمة(6) أجريت على مرضى حقيقيين يخضعون لإجراءات مؤلمة، وبعد فترة خف الألم، وقد طُلب منهم الإبلاغ عن آلامهم كل ستين ثانية وهم مريضون. وجاء في التسجيلات سؤال "مَن منهم عانى من الألم أكثر؟"وهو سؤال سهل للغاية. بكل وضوح، عانى المريض "ب" من الألم أكثر. كان قولونه أطول، وكل دقيقة من الألم عانى منها المريض "أ" كانت أكثر لدى المريض "ب".

لكن عندما تم سؤاله سؤالاً آخر: "كم يحس أولئك المرضى أنهم عانوا من الألم؟" كانت المفاجأة، وهي أن المريض "أ" لديه ذكريات أسوأ بكثير من القولون عن المريض "ب". ففي السؤال الثاني كانت القصص عن المرض مختلفة لأن جزءًا مهمًّا جدًّا من القصة يتلخّص في كيفية انتهائها، وليست أي من هاتين القصتين تدخل في دائرة الإلهام والعظمة، فتلك القصة التي كانت تمثل التجربة الأسوأ هي حيث كان الألم في ذروته في النهاية. ويضيف دانيال: "إننا نعرف ذلك من ذكريات المرضى عن قصص المرض والألم".

نحن في الواقع لا نقوم بالاختيار بين التجارب، نحن نختار من بين ذكريات التجارب، وحتى عندما نفكر بالمستقبل فنحن لا نفكر بالمستقبل عادةً كتجارب، نحن نفكر بمستقبلنا كذكريات متوقعة
نحن في الواقع لا نقوم بالاختيار بين التجارب، نحن نختار من بين ذكريات التجارب، وحتى عندما نفكر بالمستقبل فنحن لا نفكر بالمستقبل عادةً كتجارب، نحن نفكر بمستقبلنا كذكريات متوقعة

ويُظهر ذلك تناقضًا مباشرًا بين نفسية التجربة ونفسية الذكرى، وأي تخفيف أو تعديل بسيط في تجربة شخص ما ينتج عنه تخفيف الألم سيغير من انطباع الشخص عن تجربته بالكامل، وذلك ينطبق على القصص التي ترسلها الذاكرة لنا، وكذلك القصص التي نصنعها. فالقصة هي التغييرات، اللحظات المهمة والنهايات، النهايات مهمة جدًّا، وفي هذه التجربة طغت النهاية.(7) تعيش ذاكرة التجربة حياتها بصورة مستمرة، واحدة تلو الأخرى، ولو سُئل أحدنا: ماذا يحدث لهذه اللحظات؟ يكون الجواب: إنها تضيع إلى الأبد، فمعظم اللحظات في حياتنا خلال فترة الحياة لا تُخلّف أثرًا، معظمها يتم تجاهلها كليًّا بواسطة نفسية الذكرى، ومهما عشنا من لحظات يتوقف الأمر على ما يبقى في ذاكرتنا.

والفرق بين نفسية الذكرى والتجربة -حسب دانيال- هو أن نفسية الذكرى تقوم بأكثر من التذكر وإخبار القصص، إنها في الواقع التي تتخذ القرارات، لأنه إن كان لديك مريض مرّ بفحصين للقولون مع جراحين مختلفين، وقد حان القرار لاختيار أي منهما، عندئذ فالفحص الذي سيختاره هو المرتبط بالذكريات التي تمثل المستوى الأقل سوءًا، كما أن الجراح الذي سيتم اختياره هو من يملك معه الشخص ذكريات أفضل. نفسية التجربة ليس لديها قرار في هذا الخيار، نحن في الواقع لا نقوم بالاختيار بين التجارب، نحن نختار من بين ذكريات التجارب، وحتى عندما نفكر بالمستقبل فنحن لا نفكر بالمستقبل عادةً كتجارب، نحن نفكر بمستقبلنا كذكريات متوقعة.

"والنفسيتان تبرزان فكرتين حول السعادة، أن هناك مفهومين للسعادة التي نقوم بتطبيقها، مفهوم لكل نفسية. فنحن قادرون على أخذ فكرة جيدة للغاية للسعادة من خلال نفسية التجربة عبر الزمن، حيث إن سألت عن سعادة نفسية التجربة فإنها تكون مختلفة كليًّا. هذا الأمر لا يتعلق بشخص يعيش بسعادة، إنما يرتبط بمستوى الرضا أو السعادة عندما يفكر الشخص بحياته".

ويضيف دانيال(8): "نحن نعرف شيئًا حول ما يقوم بالسيطرة على رضا نفسية السعادة، نحن نعرف أن المال مهم جدًّا، والأهداف مهمة جدًّا، نحن نعرف أن السعادة عامةً يتم تحقيقها مع الناس الذين نحبهم بقضاء الأوقات معهم. هناك مُتع أخرى، لكن هذا هو المهيمن. إذًا إن كنت تريد زيادة سعادة النفسيتين، فإنك ستصل في نهاية المطاف لفعل أشياء مختلفة كليًّا. إن خلاصة ما قلته هنا هو أننا لا ينبغي أن نفكر بالسعادة كمرادف للرفاهية، إنها مفاهيم مختلفة كليًّا."

الأشخاص اللطفاء يعطون بسخاء غير محسوب، وهذا جيد ويساعد على شعورهم بالسعادة، لكن عندما يعطي الإنسان دون حساب في مقابل إهماله لنفسه تمامًا فإنه يترك ذاته في حالة فوضى
الأشخاص اللطفاء يعطون بسخاء غير محسوب، وهذا جيد ويساعد على شعورهم بالسعادة، لكن عندما يعطي الإنسان دون حساب في مقابل إهماله لنفسه تمامًا فإنه يترك ذاته في حالة فوضى
في حوار مع السيد حسين نصر يتحدث نصر عن أن السعادة في المفهوم الإسلامي لا يوجد في القرآن إلا مقرونًا بالجنة وبوضع النعيم الأخروي، أما الحياة فهي سعي ومكابدة وقتال وهم وجهد وتعب وألم، ورغم أن الحياة مكابدة فإنها سعي نحو السعادة، ليس للشعور بالسعادة بل الحصول على السعادة. فالإسلام لا يعد الإنسان بالشعور بالسعادة، بل بالرضا والطمأنينة، ويأتي الوعد بالسعادة والنعيم الأبدي مرتبطًا بالآخرة، ولكي يحصل ذلك الإنسان على السعادة الأخروية يجب عليه أن يعرف نفسه أولًا، ولا يتحقق ذلك إلا بالابتلاء والألم والمعاناة.

كذلك يتفق سيد حسين نصر مع زيغمونت باومان أن السعادة كفاح(9)، والسعادة تنبع من داخل الإنسان وليس من محيطه، فمهما كان محيط الإنسان سعيدًا ومرفّهًا لا يشعر الإنسان بالرضا إلا عندما ينبع من داخله، وهذا ما يمكن أن نراه إذا ما قارنّا أحوال الناس في البلدان الأفريقية البسيطة وفي بلاد وسط آسيا بأحوال آخرين في المدن الكبرى في أوروبا وأميركا.

حيث كلما اقترب الناس من بساطتهم وحريتهم شعروا بالسعادة، لأنه -حسب السيد حسين نصر- كلما اقترب الإنسان من فطرته التي خُلق عليها شعر بالرضا والطمأنينة والسعادة، فالحالة الفطرية كانت حالة فردوسية، لذلك فالسعادة هي أن نكتشف من نحن، وهنا يعيد السيد حسين نصر طرح فلسفة الإمام أبي حامد الغزالي عن كيمياء السعادة ومعرفة حال القلب والحواس، وأن القلب هو سيد الحواس وسعادته في التقرب من الله ولمس الحقيقة الروحية. وفي مقال على جريدة "ذا مايند جورنال" (the mind journal) يطرح الكاتب ستة أسباب لعدم شعور الأشخاص الطيبين بالسعادة:

أولها: أن الأشخاص الطيبين يملكون أيضًا رغبات سواء جسدية أو روحية، فحرمان الأشخاص الطيبين لأنفسهم من الرغبات والفناء في إسعاد الآخرين لا يجعلهم بالضرورة يشعرون بالسعادة، وإنما يفشلون في ذلك.

ثانيها: أن الأشخاص اللطفاء يعطون بسخاء غير محسوب، وهذا جيد ويساعد على شعورهم بالسعادة، لكن عندما يعطي الإنسان دون حساب في مقابل إهماله لنفسه تمامًا فإنه يترك ذاته في حالة فوضى،، بجانب أن الإنسان يعطي بلا حساب لكنه ينتظر في مقابل كل ذلك العطاء والجهد أن يرد له الناس الجميل، وهذا ما لا يحدث غالبًا، فيصاب بالإحباط.

   undefined

ثالثًا: "اعتقادك أن العالم سيعاملك بلطف لأنك إنسان طيب يشبه اعتقادك بأن الأسد لن يأكلك لأنك شخص نباتي" وبسبب عطاء الأشخاص الطيبين فإنهم يملكون توقعات عالية تجاه العالم، فكلما أعطوا فإنهم يتوقعون أن العالم سينتبه لهم ويكافئهم ويرد لهم الجميل، وهذا غير حقيقي وغير واقعي، فيصابون بالإحباط الشديد وعدم الجدوى.

رابعًا: اعتاد الناس الطيبون على سلوك معين تجاه الآخرين، اعتادوا على التضحية بأوقاتهم ونومهم والعمل بجد لتوفير الوقت لمساعدة الآخرين، لكن ربما تكون نقطة ضعفهم أحيانا أنهم لا يستطيعون التحكم في ذلك السلوك وإيقافه في الوقت اللازم.

خامسًا: عدم الرضا عن النفس بعد القيام بأعمال الخير، فبعض الناس يهلكهم شعورهم الدائم بتأنيب الضمير رغم بذلهم جهدًا للعطاء والمساعدة، وذلك يعود لسبب أن من حولهم لا يقدّرون عطاءهم ومساعدتهم، فيظن هؤلاء الأشخاص أن عطاءهم لم يكن بالصورة الكافية، ليستمر بذلك انعدام الشعور بالرضا.

أخيرًا فإن الأشخاص الأذكياء الطيبين يصابون غالبًا بالحزن والاكتئاب لأنهم حين لا يبذلون جهدًا في مساعدة الناس وتقديم الحل الأمثل لجميع المشكلات فإنهم يذهبون لتحليلات أعقد للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يسبب لهم الألم والاكتئاب والحزن، فقوة عقولهم تسبب لهم المعاناة والضغط النفسي.(10) يحكي السيد حسين نصر أن حكيمًا صوفيًّا في خراسان سُئل: ماذا تريد؟ فقال "أريد ألا أريد"، ويعلّق نصر أن هذا هو لب السعادة، فالسعادة حالة روحية وصوفية للروح نسعى إليها لننالها في الآخر، فارفق بنفسك، واعمل ما عليك، وتوكل على الله.

المصدر : الجزيرة