الفلسفة الرواقية تقدم لك وصفتها لتكون سعيدا

ميدان - سعادة
مقدمة الترجمة

الهدوء والاتزان سمتان يسعى الإنسان لامتلاكهما، ولا شك بأن تحقيقهما ليس بالأمر السهل، وتحديدا للشخصيات التي تتصف بالاندفاع. لكنّ هنالك أخبارا سعيدة لأصحاب الشخصيات المندفعة والعصبية: الهدوء ليس مستحيلا، إنه أمر ضمن إطار سيطرتك ويمكنك تحقيقه. لمعرفة كيفية فعل ذلك فلتتعرف على المذهب الفلسفي الذي يطلق عليه "الرواقية". 


نص التقرير

 "اللهم ألهمني السكون لتقبّل ما لا أستطيع تغييره، والشجاعة لتغيير ما أستطيع تغييره، والحكمة لمعرفة الفرق بينهما" هذا النص عبارة عن استدعاء للصفاء والسكون، قام بكتابته الأميركي راينهولد نيبر عام 1934، وتقوم منظمة "مدمنو الكحول المجهولون" باستخدامه، وغيرها من المؤسسات العالمية.

النص ليس مجرد خطوة رئيسية نحو التعافي من الإدمان، بل وصفة للحياة السعيدة، حيث يمكننا الوصول إلى حياة يكتنفها الصفاء والسكون من خلال التحلّي برباطة الجأش في وجه صعاب الحياة.

undefined

إن الأفكار التي يحملها هذا النص قديمة جدا، إذ وُجِدت في مخطوطات بوذية تعود إلى القرن الثامن، إضافة إلى فلسفة يهودية من القرن الحادي عشر. لكن أقدم نسخة من مفهوم السعادة هذا -بإمكاني التفكير بها- يعود إلى الفيلسوف الرواقي أبكتيتوس الذي قال إن معين السعادة هو النفس لا الأشياء الخارجية.

والرواقية هي مذهب فلسفي أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيجومي، وهو يقول: "إن العالم كلٌّ عضويّ، تتخلله قوة الله الفاعلة، وإن رأس الحكمة معرفة هذا الكل، مع التأكيد أن الإنسان لا يستطيع أن يلتمس هذه المعرفة إلاّ إذا كبح جماح عواطفه، وتحرر من الانفعال". والرواقيون يدعون إلى التناغم مع الطبيعة، والصبر على المشاق، والأخذ بأهداب الفضيلة، لأن الفضيلة هي إرادة الله.

عاش أبكتاتوس في القرن الثاني في روما ثم نيكوبوليس في غرب اليونان، وكانت أهم تعاليمه الأخلاقية موجودة في نظريته حول الواجبات التي يضعها في ثلاثة أصناف هي: واجبات نحو الذات، وواجبات نحو الآخرين، وواجبات نحو الله. فقد قال:
إننا مسؤولون عن بعض الأمور، ولكن هنالك أمور لا نستطيع تحمل مسؤوليتها. الأولى تشمل حكمنا ودافعنا ورغبتنا ونفورنا (الكراهية) وملكاتنا العقلية، أما اللاحقة فتشمل الجسم والممتلكات المادية وسمعتنا ومكانتنا، بالمختصر أي أمر ليس في وسعنا السيطرة عليه. إذا كان لديك الفكرة الصحيحة حول ما يقع على عاتقك وما ليس كذلك فلن تخضع للقوى أو للمعيقات أمامك، ولن تلوم أحدا أو تنتقده أبدا، وأي أمر ستقوم به سيكون عن طيب خاطر وبإرادتك، لن ينافسك أحد ولن يؤذيك أحد لأنك متحصّن وثابت ضد أي شكل من أشكال الضرر.

أطلق على ذلك وعد أبكتاتوس: إذا ما استوعبت الأمور الواقعة ضمن إطار سيطرتك وخارجه وتصرفت بناء على ذلك فسوف تصبح منيعا نفسيا ضد متقلبات الحياة.

بالطبع إن الحديث أسهل من التنفيذ، يتطلّب الأمر ممارسة واعية، لكني أؤكد من خلال تجربتي الشخصية أن الأمر يُفلِح. على سبيل المثال، كنت في روما العام الماضي أعمل على كتاب عن الرواقية. في ساعة متأخرة من عصر أحد الأيام، توجهت إلى محطة مترو الأنفاق بالقرب من الكولوسيوم. عندما استقللت عربة القطار المكتظة بالناس حيث شعرت بمقاومة كبيرة بالتحرك إلى الأمام، كان هنالك شاب صغير أمامي يحجب طريقي، لم أتمكن من فهم سبب ذلك في تلك اللحظة. أدركت السبب بعد فوات الأوان، فبينما كان تركيزي منصبا على هذا الشاب، انسلّت يد شريكه في جيب بنطالي الأمامي سارقا محفظتي حيث انطلق خارج عربة القطار حيث تبعه شريكه. أغلقت العربة أبوابها، أمسيت بلا نقود ولا رخصة قيادة، ولا بطاقات ائتمان التي يتحتّم عليّ الآن إلغاؤها واستبدالها.

undefined

كانت ستكون هذه التجربة سيئة للغاية قبل بدئي في ممارسة الرواقية، وربما كانت ردة فعلي سيئة، كنت سأشعر بالضيق والغضب. كان من شأن مزاجي أن يتعكر طيلة المساء، وربما دامت صدمتي من الحادثة -الخفيفة نسبيا- لأيام بنوبات مدمرة من الغضب والندم.

لكني كنت أمارس الرواقية لعدة سنوات عند حدوث ذلك، لذا كان أول ما فكرت به هو وعد أبكتاتوس. لم أتمكّن من السيطرة على اللصوص في روما، ولا أستطيع العودة بالزمن وتغيير ما حصل، من ناحية أخرى، أستطيع تقبّل ما حدث وحفظه كتجربة مرجعية في المستقبل مع التركيز على قضاء وقت لطيف خلال بقية إقامتي. فكرت في الموضوع على أنه لم يكن حدثا مأساويا في نهاية المطاف، وأفلح تفكيري بهذه الطريقة. انضممت إلى رفقائي في المساء، سردت ما حدث وشرعت في الاستمتاع بالفيلم والعشاء والحديث معهم. أصيب أخي بالدهشة كوني تعاملت مع الموضوع بهذا الاتزان والهدوء، ولكن هذا تحديدا هو قوة تجسيد الرواقية في ازدواجية التحكم والسيطرة (dichotomy of control) (استيعاب ما يقع ضمن إطار سيطرتنا وما يقع خارجها).

لا تقتصر فعالية الرواقية على المتاعب البسيطة في الحياة كما في الواقعة التي وصفتها للتّو. مثلا، تم إطلاق النار على جيمس ستوكديل -وهو قائد طيارة مقاتلة- خلال حرب فيتنام، وقضى سبع سنوات ونصف في سجن "هوا لو" في فيتنام حيث تعرّض للتعذيب وكثيرا ما تم وضعه في الحبس الانفرادي. ينسب نجاته من هذه المحنة إلى أبكتاتوس من خلال تطبيق ازدواجية التحكم والسيطرة على الوضع المتطرف الذي كان يعيشه كأسير. لم ينقذ هذا الأمر حياته فقط، بل سمح له بتنسيق انقلاب داخل السجن حيث كان أحد كبار الضباط عندما وقع في الأسر.

معظمنا لا نجد أنفسنا في مأزق ستوكديل، لكن فور إمعان النظر ستدرك أنه يمكن تطبيق ازدواجية التحكم والسيطرة على عدد لا يحصى من المواقف اليومية في حياتنا، وجميعها ترتبط باتخاذ خطوة حاسمة وتحويل أهدافك من نتائج خارجية إلى إنجازات داخلية.

أفضل نصيحة يمكن أن أخبرك بها عندما لا تسير الأمور كما تشاء بأن تلملم شتات نفسك وتمضي قُدما
أفضل نصيحة يمكن أن أخبرك بها عندما لا تسير الأمور كما تشاء بأن تلملم شتات نفسك وتمضي قُدما
 

على سبيل المثال، لنفترض أنك تحضّر سيرتك الذاتية للحصول على ترقية وظيفية محتملة، إذا كان هدفك هو الحصول على الترقية، فأنت تهيئ نفسك لخيبة أمل محتملة. ليس هناك ما يضمن أنك ستحصل عليها، لأن النتيجة ليست (بالكامل) تحت سيطرتك. بالتأكيد، لك تأثير في الحصول عليها، لكنه يعتمد أيضا على عدد من المتغيرات المستقلة عن جهودك، بما في ذلك المنافسة المحتملة من الموظفين الآخرين، أو ربما حقيقة أن مديرك لا يحبك لأسباب غير مفهومة. لهذا يجب أن يكون هدفك داخليا (لتحقيق إنجازات): إذا اتبعت الأسلوب الرواقي ستكتب أفضل ما عندك في سيرتك الذاتية وستبذل جهدك في ذلك، ثم تجهز نفسك نفسيا وعقليا لقبول النتيجة مهما كانت باتّزان، مع العلم أن الكون سيكون في صفك في بعض الأحيان وفي أوقات أخرى لن يكون كذلك. ما الذي ستكسبه جراء القلق بشأن أمر لا تستطيع التحكم فيه (ليس ضمن إطار سيطرتك)؟ أو الغضب على نتيجة لم تكن من فعلك؟ ببساطة، إنك تضيف ضررا ذاتيا للوضع مما يهدد سعادتك وسكونك.

هذا ليس نصح بالقبول السلبي، فللتو أوضحت أن هدفك بذل جهدك في كتابة سيرتك الذاتية على أفضل نحو ممكن. مما يميز الشخص الحكيم أن يدرك أن الأمور لا تسير على الدوام بالطريقة التي نرغب بها. أفضل نصيحة يمكن أن أخبرك بها عندما لا تسير الأمور كما تشاء بأن تلملم شتات نفسك وتمضي قُدما.

هل تريد الفوز بمباراة التنس تلك؟ هذا خارج سيطرتك، ولكن لعبك أفضل ما يكون هو ما يقع تحت سيطرتك. هل تريد أن يحبّك شريكك؟ هذا خارج سيطرتك، ولكن هنالك العديد من الطرق التي يمكنك من خلالها إظهار حبك لشريكك وهذا ضمن سيطرتك. 

هذه الجوانب من حياتك تقع تحت سيطرتك؛ إذا نجحت في تحويل أهدافك إلى أهداف داخلية فلن تلقي اللوم على أحد أو تنتقد أي شخص مطلقا، ولن يكون لديك أي منافس لأن ما يفعله الآخرون خارج نطاق سيطرتك إلى حدٍّ كبير، وبالتالي ليس أمرا يستحق القلق بشأنه. سوف تكون النتيجة اتزانك ورباطة جأشك في وجه تقلبات الحياة مما يؤدي إلى حياة أكثر هدوءا واطمئنانا.

__________________________________________________________

مترجم عن: أيون


إعلان