شعار قسم ميدان

دليل المبتدئ.. كيف تقرأ الفلسفة؟

midan - رئيسية فلسفة 21
اسمع للاستماع

   

قال سي. إس. لويس في مرة: "لا يمكن لك أن تجد كوب شاي كبيرا بما فيه الكفاية، أو كتابا ضخما بما فيه الكفاية، بحيث يمكن أن يناسبني"، بينما يضيف أوسكار وايلد في قفزة شاهقة إضافية أنه "إذا لم تستمتع بتكرار قراءة الكتاب نفسه أكثر من مرة بالقدر نفسه، فلا حاجة لك أن تبدأ بقراءته من الأساس"، هناك الكثير من التعليقات المؤثرة والممتعة لكبار أهل الفكر والثقافة على مدار تاريخنا عن القراءة، نتبادلها كثيرا حينما نتحدث عن الروايات الكلاسيكية الشهيرة، والمعاصرة الأكثر مبيعا كذلك، لكن حينما يأتي الأمر للفلسفة، فإن قدرا من البرود والرعب يتسلل إلى أرض الغرفة، ونتوقف عن الحديث.

 

ليس فقط لأن الفلسفة سيئة السمعة في مجتمعاتنا -والعالم كله في الحقيقة-، ولكن أيضا لأن الكثيرين يعتبرونها مادة مستحيلة الهضم، وكأنها مهنة يعمل بها مجموعة مخصوصة جدا من الناس، وتشبه كتبها طلاسم السحر القديم. الفلسفة ثقيلة بالفعل، لكن المشكلة بالأساس ليست في الفلسفة نفسها بقدر ما هي في الطريقة التي نرى بها الكُتب الفلسفية ونقرأها، فنحن نتصور أن الكتاب -أي كتاب- من المفترض أن يسير بسلاسة شديدة، فتستشعر أثناء قراءته كأنك في نهر جار.

   

undefined

   

إحدى عشرة مرة؟!

بالنسبة للفلسفة، والكثير من المجالات في الحقيقة، فإن ذلك غير صحيح. لا يوجد بالأساس ما يمكن أن ندعوه "قراءة سريعة"، إنّه "وهم" ابتكره البعض لكي يُخرج بعض الجنيهات من حافظتك كي تحضر مساقا للقراءة السريعة، كلما كان الموضوع معقدا وصعبا كان عليك أن تقرأ بتأنٍّ، بل ربما تحتاج إلى التراجع قليلا لتحقيق فهم أفضل، يقول أحد أساتذة الفلسفة لطلّابه: "نقد العقل المحض لكانط؟ هذا كتاب يمكن أن تقرأه 11 مرة، لكن لا تقلق، في المرة العاشرة سوف تشرع بفهمه"، بالطبع قد يكون مبالغا قليلا، لكنه يمسك بالفكرة المهمة هنا.

 

القراءة هي بالفعل مهارة تنمو مع الوقت وبالممارسة، لكن سرعتك فيها لا تتحسن بقدرات برمجية عصبية تصويرية كما يزعم البعض، ولكن في ثلاث حالات: الأولى أن تقرأ في الكتاب نفسه أكثر من مرة، سيتحسّن الحال بوضوح مع كل مرة، وهذه مشكلة رئيسية، فالبعض يظن أنه طالما أن القراءة الأولى كانت مستحيلة، فمثيلاتها ستكون كذلك، هذا غير صحيح.

 

أما الحالة الثانية فهي أن تقرأ في الموضوع نفسه لمرات متتالية، عندها سوف تتعود مصطلحاته ويكون الكتاب الخامس مثلا في المجال نفسه أسهل كثيرا وبفارق واضح من الكتاب الأول، أما الحالة الثالثة فهي أن تقرأ للكاتب نفسه أكثر من مرة، هنا سوف تعتاد أسلوبه في الكتابة، وفلسفته، والمفاهيم التي غالبا ما يكررها.

 

دعنا هنا نتأمل رينية ديكارت، والذي قدم لنا، في كتابه "مقال في المنهج"، آلية مفيدة ومهمة لقراءة الفلسفة تمر بأربع مراحل، قدمتها لنا الفيلسوفة كيمبرلي بليسنج من جامعة ولاية بافلو الأميركية (ترجمتها الزميلة فرح عصام من قسم الترجمة هنا في منصة "ميدان" ويمكن أن تقرأ التقرير كاملا من هذا الرابط 

 

القراءة الأولى: اقرأ الكتاب ككل، وبسرعة، كما لو كنت لتفعل مع رواية، الهدف هنا هو فقط التقاط الفكرة العامة التي يقوم عليها الكتاب.

القراءة الثانية: اقرأ الكتاب مرة ثانية، لكن اهتم هذه المرة بالحجج التي يطرحها الكاتب، في تلك النقطة تناول قلما واترك علامة عند الأجزاء التي لم تفهمها، في ورقة منفصلة أو على جوانب الكتاب.

القراءة الثالثة: اقرأ الكتاب، ولكن أبقِ على الأسئلة والمشكلات التي دونتها في الخطوة الثانية حاضرة في ذهنك. سيساعدك هذا على رؤية الحلول والصعوبات التي واجهتها.

القراءة الرابعة: أعد قراءة الكتاب إن ظل شيء من تلك الصعوبات معك، ستكون تلك القراءة الأخيرة كافية لإتمام المهمة.

   

undefined

   

ورقة وقلم وخمس عدسات

في تلك المرحلة من حديثنا معا يتدخل دانيال كوفمان أستاذ الفلسفة من جامعة ميزوري، والذي يشدد على إحدى النقاط المهمة التي أشار إليها ديكارت حينما يقدم، في أول محاضراته كل عام دراسي، نصيحة مهمة لطلبة الفلسفة المبتدئين، وهي أن الفلسفة لا تُقرأ دون ورقة وقلم أبدا. هناك -في الحقيقة- فكرة خاطئة تماما عن القراءة تقول إنك -لهضم بعض المواد التي تمتلك درجة من التعقيد- يمكن أن تجلس جانبا على الأريكة وتستمتع بانسياب المعلومات إلى دماغك، لكن ذلك بالطبع غير صحيح، يمارس هذا الثنائي (الورقة والقلم) دورين في قراءة الفلسفة.

 

فهو يضيف إحدى حواسك لعملية التفاعل مع المادة التي تحاول قراءتها، وهذا مفيد حقا في هضم تلك المادة، وكذلك فإنه يساعد في تنظيم عملية فهمك للمادة الفلسفية، هنا يمكن أن نتعلم طريقة مهمة لفهم النص الفلسفي يقدمها الثلاثي البارع جيرالد جونز وجيرمي هايوارد ودان كاردينال في مرجعهم المبسط "AQA AS Philosophy" والمقدم لطلبة المرحلة الثانوية وامتحانات التقديم للجامعات في المدارس الإنجليزية، تسمى الطريقة بـ "العدسات الخمس"، والفكرة ببساطة هي أن تستخدم كل عدسة منهم -بالترتيب التالي نفسه- لتفحّص النص الفلسفي من أجل تحقيق أفضل فهم له.

 

الأولى، عدسة السياق: من الذي كتب هذا النص؟ ولماذا كتبه؟ ومتى كتبه؟ سيساعدك البحث عن السياق الذي كُتب فيه هذا النص في فهم الكثير من دلالاته.

الثانية، عدسة الاصطلاحات: ما الكلمات التي تُستخدم بأسلوب اصطلاحي؟ ما الذي تعنيه؟ تفتح تلك الاصطلاحات بابا للانطلاق في بحث أوسع، وتمثل علامات الطريق المرورية في أي كتاب فلسفي، قف عندها وتأملها قليلا.

الثالثة، عدسة المفاهيم: ما الفكرة الرئيسية التي تتكرر في هذا النص؟ ماذا يقصد كاتبه؟ ما علاقة ذلك بالاصطلاحات؟ الآن، عبر العدستين الأولى والثانية، يمكن أن تكوّن فكرة عن الموضوع.

الرابعة، عدسة الحجج: ما الحجة التي يطرحها الموضوع؟ ما الذي يحاول الكاتب أن يثبته؟ وبأي طريقة؟ ابحث عن الفواصل التي بها كلمات كـ "لهذا السبب" و"نستنتج أن" و"بناء على ما سبق"، إلخ، حاول أن تستخرج الحجة التي يبنيها الموضوع بعلاقات متتالية (بما أن .. إذن .. من هنا يمكن أن نقول).

الخامسة، عدسة البنية: كيف يمكن تقسيم هذا الموضوع إلى مجموعة من المقاطع المكتوبة بطريقتك؟ سيتضمن كلٌّ من تلك المقاطع فكرة، رقّمها بالطريقة البسيطة 1، 2، 3، 4، إلخ. هنا تكون قد استطعت عمل ملخّص كامل لموضوعك.

   

undefined

   

حينما تقرأ الفلسفة، ضع تلك العدسات الخمس في خلفية أفكارك، واستخدمها مع النص كأنك مُحقق يود الحصول على دليل الجريمة. تهدف تلك الطريقة البسيطة إلى تنظيم عملية القراءة. النصوص الفلسفية، والموضوعات والأفكار الفلسفية كذلك، معقدة بطبيعتها، وغير سهلة بالمرة، ذلك لأنها بالأساس مبنية على مجموعة من الأفكار الممتدة في نطاقات زمنية وفكرية منفصلة، كما أن الحجج الفلسفية تبني نفسها ببطء، وتتنقل بين مراحل عدة، لذلك من المهم أن تفهم دائما كيفية بناء تلك الحجج بالبطء نفسه وبدرجة من التأني لا تجدها أثناء قراءة رواية أو كتاب خفيف.

 

كذلك فإنه يمكن لورقة كبيرة من المقاس A1 أن تساعدك في عمليات الربط بين الفلاسفة أو الأفكار الفلسفية بصورة أفضل، خاصة حينما تحاول قراءة الكتب التي تشرح الفلسفة العامة أو تلك التي تقدم للفلسفة، هنا يمكن لشجرة بسيطة على تلك اللوحة، تكتبها وترسمها بيديك، أن تجنبك الكثير من الخلط وتعطيك صورة عامة حينما تجيبك بشكل لحظي عن أسئلة عامة مهمة: من يتفق مع من في تلك النقطة؟ ومن يختلف مع من فيها؟ ومن استخدمها بصورة مغايرة لما كانت عليه؟ كيف طوّر فيورباخ وماركس أفكار هيجل؟ كيف تبدأ ما بعد الحداثة من بروتاجوراس قبل أكثر من ألفي سنة؟، إلخ.

 

إلى عالم الإنترنت الرحب

من جهة أخرى فإن الكتاب ليس وحده أداة المعرفة، خاصة مع المواد المعقدة. في اللحظة التي تتعرف فيها إلى الاصطلاحات الرئيسية التي تواجهك، ولا تفهم تحديدا طبيعتها أو ما يمكن أن تقصده من معانٍ، وفي كل عدسة من العدسات الخمس، يمكن أن تخرج لعوالم الإنترنت الرحبة لمساعدتك بثلاث طرق:

أولا: ابحث في الموسوعات الفلسفية المتاحة على الإنترنت، أو في المقالات المتاحة من مصادر أخرى، عن هذا الاصطلاح لتحقيق فهم أفضل له، غالبا ستجد مقالا مبسطا لفيلسوف ما أو طالب فلسفة يشرح تلك الفكرة التي تبحث عنها تحديدا، المقالات واحدة من أهم طرق التعلم، ذلك لأن الكتب في بعض الأحيان قد تحوي درجة من التكرار للأفكار نفسها.

ثانيا: انطلق إلى يوتيوب، يمكن لحلقة بسيطة، أو محاضرة طويلة لكن مبسطة، مثلا، أن تُعينك على فهم ما تبحث عنه، في الحقيقة فإن المحاضرات في بعض الأحيان تكون أفضل كثيرا من المادة المكتوبة، وقد تختصر الكثير من الوقت في القراءة، ذلك لأن طريقة المحاضر ولغة جسده تنقل أضعاف البساطة عن الكتابة. 

ثالثا: انطلق إلى صديق أو زميل أو مجموعة على فيسبوك تهتم بالفلسفة للنقاش في تلك الفكرة أو ذلك المفهوم، ستساعدك تلك النقاشات على فهم بعض الأفكار، كذلك ستحفّزك للاستمرار بشكل أكبر.

 

هذه الآليات الثلاثة تفتح لك بابا أفضل لهضم النص أو الموضوع الفلسفي الذي تود فهمه، كذلك فإن تنويع آليات التعلم يساعد كثيرا في هضم الفكرة، وتوضيحها، ويحيطك بأجواء الفلسفة فتألفها سريعا، يشبه الأمر الوجود في حالة كاملة ما (جشطالتية)، حينما تندمج في الفلسفة وعوالمها ومحبيها واهتماماتهم، سواء تضمن ذلك الكتب أو النقاشات أو حتّى الأفلام، فإن ذلك يوجّه أدواتك الإدراكية لتركيز انتباهها بشكل أكبر على الفلسفة.

   

undefined

   

اللذة الحقيقية

في النهاية فإن هدف القراءة هو أن تفهم، لا أن تعد الكتب التي أنهيتها هذا الشهر في منشور على فيسبوك أو تغريدة على تويتر، لا يهم أن تنتهي من كتاب كل أسبوع و50 صفحة في الساعة، في الحقيقة يمكن أن نعتبر حكاية "المعدل الثابت" وهما آخر، في بعض الأحيان قد تمر صفحات الكتاب بسهولة، لكن في البعض الآخر قد تقف قليلا مع صفحة واحدة، وقد ترغب في العودة للخلف، وقد تعيدها أكثر من مرة، من أجل تحقيق فهم واضح لها.

 

كذلك فإنك في بعض الأحيان قد تختار كتابا أثقل من مستواك. يحدث ذلك كثيرا حينما تتخبّط في البدايات، فتشتري كتابا أكثر تخصصا من قدراتك، إذا كنت مهتما بالفعل بذلك الموضوع فلا حاجة الآن إلى الاستمرار في المقاومة مع الكتاب خاصة إذا ظهرت المشكلات مع كل سطر. دع الكتاب جانبا ولتبدأ بالبحث عن الموضوع الأعم لموضوع كتابك، إذا كنت مثلا تهتم بفلسفة كارناب فعد للخلف قليلا وتعلم ما تعنيه الوضعية المنطقية، إذا كنت مهتما بفلسفة توماس كون فهناك حاجة إلى معرفة الحجج التي صاغها بيير دوهيم ومن بعده ويلارد كواين، وهكذا. في تلك النقطة يمكن أن تستفيد مما يقوم به بعض الهواة -غالبا على المحتوى بالإنجليزية- حينما يقوم بعمل ما يشبه "مدخل" لقراءة بعض الكتب المهمة على يوتيوب أو على مدونة ما، حينما تحاول البدء مع كتاب شهير كـ "نقد العقل المحض" مثلا أو مع مقال مهم لبوتنام أو كواين سوف تساعدك تلك المقدمات كثيرا كبداية.

 

الآن دعنا، قبل أن ننتهي، نضع إضافة مهمة تتعلق تحديدا بالمحتوى العربي. حيث حينما تبدو الترجمة معقدة يمكن أن ترجع للنص الأصلي، تواجه الكثير من الترجمات العربية أزمة حقيقية، لذلك سوف تحتاج دائما إلى تحسين لغتك الإنجليزية -على الأقل- لتحقيق فهم أفضل لبعض المقاطع وربما كتب بأكملها، حينما تجد صعوبة مع كتاب مترجم ليكن اقتراحك الأول هو "سوء الترجمة" لا "عدم قدرتك على الفهم"، في كثير من الأحيان ينجح الاقتراح الأوّل.

 

في النهاية، فإن المتعة الحقيقية ليست في القراءة نفسها، بمعنى أوضح: لا يحدث أن تشعر بدرجات واسعة من اللذة وأنت تقرأ نصا فلسفيا أو في موضوع فلسفي، لا يشبه الأمر أن تأكل قطعا من الشيكولاتة الممتعة وأنت في حالة نشوة كما يحدث في الإعلانات التلفزيونية، بل يبعث ذلك على الملل في بعض الأحيان، وقد يتسبب في غضبك من صعوبة ما تحاول فهمه، لكن المتعة الحقيقية ليست في القراءة نفسها، ولكنها المعرفة التي تتحصل عليها في نهاية رحلتك لفهم موضوع ما، تلك هي اللذة الحقيقية.