بول ريكور.. الفيلسوف الذي يقف وراء إمانويل ماكرون

هذه مادّة مهمّة، تثير مسألة الأيديولوجيا واليوتوبيا عند الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور، وتأثّر الرئيس إيمانويل ماكرون به، الذي عمل معه لسنتين. إنّها نظرةٌ إلى السياسة بعين الفلسفة، الريكوريّة تحديدا.
إنّ بول ريكور هو واحد من هؤلاء الفلاسفة القاريين الذين يجب أن تقرأهم وبإحدى يديك معجم وباليد الأخرى قهوة قويّة، فهو "عصيّ على التصنيف"، كما يشير عمل مرجعيّ عنه إلى ذلك بذكاء. لذا؛ من غير المحتمل أنّه مرشّح لتقديم المادّة لكبح مسيرة الشعبويّة في أوروبا.
ومع ذلك، فإنّ طالبه الأكثر شهرة إيمانويل ماكرون له الفضل في القيام بذلك، بعدما حاز على الفوز الانتخابيّ الذي هدّأ الأمور في بروكسيل وبريطانيا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيّ.
ولا يزال ما سينفذه ماكرون بالتحديد غير واضح، لكن لا شكّ أنّه قد تأثّر بريكور الذي عملَ معه لعامين قبل مغادرته للأكاديمية ويصبح -أي ماكرون- مصرفيّا استثماريّا.

كان ريكور -الذي مات عام 2005- مشهورا بأسلوبه التوليفيّ -أي بحثه عن الوحدة بين وجهات النظر التي لا يمكن التوفيق بينها ظاهريّا-، في ذلك يحمل ماكرون المُعتدل تشابها سطحيا، وهناك اتصال عميق تقديم الرئيس الفرنسيّ لرؤية مؤمِّلة ومركزيّة أوروبيّا لدولته لإحداث ثقل أمام أيديولوجيا اليَمين.
وبينما بقيَ ريكور بعيدا عن السياسة الحزبيّة، إلّا أنّه فهمَ أهميّة الأيديولوجيا، فقد كانت الأيديولوجيا بالنسبة له ضروريّة وغير ناجعة في آن، فهي تشوّه الحقيقة وتوفّر أيضا دافعا للإصلاح الاجتماعيّ "على مستوياتها الثلاثة -التشويه، والشرعنة، والترميز- فللأيديولوجيا مهمّة أساسيّة: هي التنميط، والدمج، وتوفير النظام لمسار العمل"، كما كتبَ ريكور.
ولمزيد من التوضيح، ولمحاولة فهم ما إذا كان ريكور وماكرون رفقاء فكريين، تشرح ذلك إيلين برينان، وهي متخصّصة في الفلسفة الفرنسيّة ودكتورة الجمعيّة الدوليّة للدراسات الريكوريّة.
-إيلين برينان: نعم كان لديه، فقد كان اشتراكيا، وكشابٍّ شاركَ في مسيرات الجبهة الشعبيّة سنة 1936، وأيّد قرار حكومة الجبهة الشعبيّة بالانضمام إلى بريطانيا كمحاولة للتفاوض مع هتلر. بيد أنّه قام بذلك بعاطفة قويّة لأنّه شعرَ إحساسا عميقا بالتضامن الدّوليّ مع شعب تشيكوسلوفاكيا الذي غزته ألمانيا النازيّة.
وقد استُدْعِيَ للخدمةِ العسكريّة في سنة 1939 ورأى مباشرة العواقب الرهيبة لسياسة ثانية كان قد أيّدها، ألا وهي سياسة نزع السّلاح (disarmament)، فلم يكن لدى وحدته مدفعيّة ولا دعم جويّ، ورغم أنّ رجاله قاتلوا ببسالة منقطعة النظير فإنهم كان عليهم أن يستسلموا في نهاية المطاف.

أجبرته هذه التجربةُ على ما وصفه لاحقا باعتبارها إعادة تعليم سياسيّة، وحافظَ -بعد ذلك- على التزامه بالاشتراكية، لكنّه لامَ نفسه بسبب المواقف السياسيّة التي اتخذها في الماضي ولم يعد يشعر أبدا بالقدرة على الثقة بحكمه السياسيّ مرّة ثانية.
ومع ذلك، ما يجعل ريكور مثيرا للاهتمام حقّا ليس الأيديولوجيا السياسيّة التي تبنّاها بقدر تصوّر الأيديولوجيا السياسيّة التي طوّرها، فللأيديولوجيا وظيفة بنائيّة وإبْقائيّة غير مقدَّرة، وبغياب الأيديولوجيا فإنّ الأفراد والجماعات ربّما لن يكونوا قادرين على صياغة هويّة، أو لن يكونوا قادرين على أن يصبحوا مندمجين ويبقوا على مرّ الزمن.
والحال أنّ ريكور خَلُصَ إلى هذا التبصّر بفضل عمل كليفورد غيرتز حول الوظيفة الرّمزيّة للفعل، ولأنّه كانت لديه وجهة نظر معيّنة حول الأيديولوجيا، فإنّه لم يشارك تصوّر يورغن هابرماس بشأن التحرّر. أمّا بشأن قلقه، فليس من المرغوب فيه ولا حتّى من الممكن أن نقصي الأيديولوجيا لا من الخطاب السياسيّ ولا من الممارسة السياسيّة.
آمنَ ريكور أنّ الخطاب السياسيّ والممارسة السياسيّة ينطويان على عنصرٍ ثانٍ غير مُنتهٍ، وهو العنصر الذي لديه السّلطة على تحدّي وتصحيح الآثار المشوِّهة للأيديولوجيا، إنّه الفكرُ اليوتوبيّ أيضا، وهو الذي عادة ما يتمّ الحديث عنه بلغة تحقيريّة، بيد أنّ تخيّل الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة -كما تصوّرها ريكور- التي هي مرغوب فيها بصورة أكبر من التي نمتلكها الآن، تخيّل ذلك يؤدي وظيفة نقديّة مهمّة.
إنّ تصوراتنا اليوتوبيّة للعائلة والحكومة وأشكال السّلطة غير المُمَأسَسَة… إلخ، تشيرُ إلى ما هو خاطئ في النماذج الحالية، وتسمح لنا بوصف ما يجب أن يحلّ محلّها.

لكنّ الفكر اليوتوبيّ يحمل مخاطره الخاصّة، حيث يتذبذب باعتباره يقوم بين تدميرٍ فوضويّ لكلّ الممارسات السياسيّة الموثوق بها واستبداد الحكمة العليا المأمولة، وإذا أريدَ له أن تكون له الشرعيّة، وفي الواقع إذا أريد له أن يعطي أيّ معنى سياسيّ، فإنّ الفكر اليوتوبيّ يجب أن يدرك اعتماديّته على الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في شكلها الحالي، كيف يمكن إذن أن يتحدّث المرء عن إعادة التوصيف والإصلاح؟
كان ريكور واعيا بعمق لحقيقة أنّ هذا الديالكتيك الاستثنائيّ للأيديولوجيا واليوتوبيا يجعل السياسة هشّة من حيث الجوهر.
إيلين برينان: أجدُ أنّه من الناجع عند الإجابة عن هذا السؤال أن نفكّر مرّة أخرى في عدد من الأشياء التي قِيلت مؤخرا في باريس حول هذا الارتباط، وقد قدّم أوليفير أبيل بعض الملاحظات المثيرة بشكلٍ خاصّ في هذا السياق، حيث يشير إلى أنّ الموضع الأول للبحث عن خطّ التأثير يكمن في الخطاب السياسيّ لماكرون.
ويلفت أبيل انتباهنا إلى التكرار المتعمّد للغاية لماكرون لعبارة "وفي الوقت نفسه" عندما يعلن عن خططه للقيام بأمرين متناقضين على ما يبدو، مثل تحرر سوق العمل وحماية هؤلاء الذين يشغلون وظائف غير آمنة.
فبالنسبة إلى أبيل، يتفقُ هذا المخطّط (البلاغيّ/الخطابيّ) تماما مع المسؤوليّة الأخلاقية لدى ماكرون المستوحاة من ريكور، ويقول إنّ ماكرون يسعى جاهدا إلى الاندماج، وذلك في سيرورة المبادرات السياسيّة، وهو انعكاس على الطريقة التي ستؤثّر بها مبادرة مقترحَة على حياة الناس الهشّين.

ويستخدمُ أبيل مصطلح ريكور المستعار "الحكمة العمليّة" لالتقاط المهارة المنطوية في هذا الضّرب من ضروب تشكّل السياسات، وينظر إلى ريكور بالتأكيد على أنّه شخص يمتلك هذه المهارة، وأعتقدُ أن أبيل محقّ بشأن ذلك.
إنّنا بحاجة إلى التفكير في ماكرون لا كوسَطيّ وإنّما بالأحرى كنوعٍ من الشّخص الراديكاليّ بعض الشيء، كشخصٍ يريد الإمساك بجذور الحياة السياسيّة والاجتماعيّة الفرنسيّة من أجل حماية الهويّة المُتقاسَمة الهشّة |
ومع ذلك، هناك عدد من المساحات التي ربّما تؤدي بشخصٍ عند قراءة ريكور أن يكتشف خطأ لدى ماكرون، فيشيرُ أبيل إلى إحدى المشكلات في الخطاب والممارسة التي أثارها، ألا وهي غياب أيّ شيء شبيه بالفكر اليوتوبيّ. وهذا بالتأكيد نقد معقول في حال كنتَ تتخذ من أيديولوجيا ويوتوبيا ريكور مرشدَك الخاصّ، لكنّ ريكور لا يقول سوى النّزر القليل بشأن الفكر اليوتوبيّ في كتابه "الذاكرة والتاريخ والنسيان"، وهو الكتاب الذي حرّره ماكرون له، ومع ذلك، هناكَ بعض من العبارات المثيرة للاهتمام بشأن الأيديولوجيا في هذا الكتاب.
يَصفُ الكتابُ ثلاثة مستويات يُفترض أنّ الأيديولوجيا تعمل على أساسها، وأعتقدُ أنّ هذا قد يكون المفتاح الرئيس للإجابة عن سؤالك. هناك المستوى السّطحيّ حيثُ نجد الأيديولوجيات المتضاربة لليسار واليمن، وهذه ستكون تشويهات للواقع، ولكن لنحفر إلى المستوى الأعمق، ويمكننا أن نتوقّع إيجاد وظيفة لا تشويهيّة ودمجيّة للجماعة.
وأعتقدُ أنّ هذا المستوى هو المستوى الذي كان ماكرون يحاول أن يبحث عنه عندما اختار وزراء من مختلف أنحاء الطيف السياسيّ، لقد أرادَ ماكرون هذا الفعل لترميز الوساطة فيما هو فرنسا مقسّمة بشأنه الآن، وأودّ القول إنّ ذلك نهج ريكوريّ للغاية.
ومع ذلك، إذا كنتُ محقّة في ذلك، فإنّنا بحاجة إلى التفكير في ماكرون لا كوسَطيّ وإنّما بالأحرى كنوعٍ من الشّخص الراديكاليّ بعض الشيء، كشخصٍ يريد الإمساك بجذور الحياة السياسيّة والاجتماعيّة الفرنسيّة من أجل حماية الهويّة المُتقاسَمة الهشّة.
========================================
المقال مترجم عن: هذا الرابط