مذكرات عربجي.. حين كشف الأُسطى حنفي فساد السياسيين في مصر بعد ثورة 1919

فكم راكب في المركبات تجرُّه *** ولو تُنصفُ الأيام كان يجرُّها

مرَّت مصر في تاريخها الحديث الذي يبتدئ مع صعود محمد علي باشا إلى سُدة الحكم سنة 1805 بالعديد من الحوادث والوقائع السياسية العنيفة، على رأسها عملية التحديث التي قام بها محمد علي نفسه، وإنشاء الجيش المصري لأول مرة من أبناء مصر، وعملية التوسُّع العسكري المصري في الشام والجزيرة العربية والسودان وحتى منابع النيل، بل وحتى عمق الدولة العثمانية في الأناضول.

لكن أبناء محمد علي وأحفاده وقعوا بصورة كبيرة تحت تأثير المستشارين الأوروبيين، وظنَّ بعضهم أن التحديث يعني جعل مصر قطعة من أوروبا دون مراعاة الأوضاع الثقافية والاقتصادية، ودخلت مصر منذ عصر الخديو إسماعيل حفيد محمد علي باشا في دوامة من الديون جرّت عليها الاحتلال البريطاني فيما بعد، وهو ما حال دون استلام المصريين لزمام السلطة، وأدَّى إلى فشل الثورة العُرابية سنة 1881، بل واتهام أصحابها بالتخريب والإفساد، وعاد عُرابي من منفاه لا يعرفه الناس، بل ولا يريدون أن يدينوا له بفضل أو مكانة.

بسبب هذه السياسات، دخلت مصر في دوامة جديدة من الكبت السياسي والعنف الذي مارسه الاحتلال البريطاني طوال أكثر من ثلاثة عقود حتى انفجرت ثورة 1919 ضد المحتل، دفاعا عن القادة الذين رأى الشارع فيهم مُمثِّلا شرعيا لهم وعلى رأسهم سعد زغلول ورفاقه من الوفد الذي طالب بالاستقلال والتحرُّر، وفي كل هذه السنوات الطويلة وما صاحبها من تغيرات اجتماعية عميقة داخل مصر كان هناك مؤرخون على قدر من الموضوعية، وصحافة تتابع الوقائع اليومية، وترصد جوانب الفكر والثقافة والسياسة وسوسيولوجيا المجتمع المصري الذي كان يمر بحالة كبيرة من التطوُّر، صاحب ذلك تطوُّر آخر لافت في طريقة الكتابة الصحفية والإبداعية والأدبية، تجلَّت في ظهور صحف كبيرة مثل "المؤيد" و"المنار" و"الأهرام" و"الكشكول" وغيرها.

إعلان

في مجلة "الكشكول" المصرية، وبعد أشهر قليلة من ثورة 1919، فوجئ القراء بسلسلة مقالات كتبها رجل يزعم أنه من "العربجية" أصحاب عربات الحنطور، وسيلة النقل الأساسية آنذاك بجوار "الأوتومبيلات" الغربية الجديدة على مجتمع المصريين، فوجئوا به يكتب مذكراته بأسلوب رشيق، ولغة فكاهية ترصد بدقة أخطر التغيرات الاجتماعية التي كان يمر بها المصريون آنذاك، وكان هذا "العربجي" شاهدا عليها عبر زبائنه الذين اعتبرهم بمنزلة "حالات للدراسة".

فما حقيقة تلك المذكرات؟ ومَن كاتبها؟ وما أهم ما جاء فيها؟ وإلى أي مدى يشبه الأوضاع في مصر اليوم؟

في حي السيدة زينب بالقاهرة، وفي عام 1892 بالتزامن مع اعتلاء الخديو عباس حلمي الثاني نجل الخديوي توفيق العرش في مصر، وُلد سليمان نجيب بن مصطفى نجيب لأسرة محافظة ميسورة الحال. اهتم الوالد الأديب الشهير آنذاك مصطفى نجيب بابنه سليمان، فربَّاه على حب العلم والأدب والقراءة ومُطالعة الأخبار ومعرفة السياسة، وكان خاله أحمد زيور باشا الجركسي الأصل خريج كلية الحقوق في فرنسا قد عاد إلى مصر مُنخرطا في السلك السياسي ومُتنقِّلا ما بين العمل محافظا للإسكندرية إلى تقلَّد وزارات المعارف فالمواصلات، ثم رئاسة مجلس الشيوخ وغيرها من الوظائف الرفيعة في مصر آنذاك.

وفي ظل هذه العائلة نشأ سليمان نجيب بين حُبّ الأدب والشغف بالسياسة، وحرص والده على أن يتخرج ابنه في كلية الحقوق التي كانت مفرخا لتخريج القادة والساسة وكبار المحامين والقُضاة في مصر آنذاك، لكن سليمان كان يحب الأدب والتمثيل المسرحي، وكان أيضا "ابن بلد" محبا للروح المصرية المرحة في كل تفاصيلها، التي ستتبدَّى فيما بعد في العديد من أفلامه ومسرحياته، لكن قراره بالاتجاه إلى التمثيل صدم أسرته التي كانت تراه -كما المصريين آنذاك- عملا لا يليق بأبناء العائلات المحترمة من الطبقة المتوسطة والأرستقراطية.

ولهذا السبب دفعته أسرته إلى العمل بالسلك الدبلوماسي من أجل إبعاده عن التمثيل، فعمل بالسلك السياسي وترقَّى ليصبح مديرا لمكتب وزير العدل، ثم عمل قنصلا لمصر في إسطنبول وسكرتيرا لمجلس الوزراء حتى وزارة علي ماهر، ولم يعد إلى التمثيل إلا بعد وفاة أمه احتراما لها. ثم عُين رئيسا لدار الأوبرا عام 1938، حيث نجح في عمله وآثر في الوقت ذاته أن يبتعد عن الزواج وتكوين عائلة إيمانا منه بأن الزواج بامرأة لإتعاسها بسبب الفقر وتقلب الأحوال أمر شنيع، فكرَّس حياته للأفلام والمسرحيات حتى وفاته سنة 1955. (1)

سليمان نجيب

على أن ما يلفت النظر في مسيرة الفنان والممثل المصري سليمان نجيب، الذي لعب الأدوار الأرستقراطية في السينما المصرية ببراعة وخفة دم لافتة، أنه رصد بدقة التغيرات العميقة التي كانت تتعرَّض لها الطبقات الاجتماعية المصرية عقب ثورة 1919، سواء في النواحي الأخلاقية بسبب دعاوى التغريب وتحرير المرأة وغيرها، أو في الفضاء السياسي الذي شهد صعود طبقة من المنتفعين والآكلين على كل الموائد إلى ذروة الهرم السياسي؛ حيث كان هؤلاء يتقربون من سعد زغلول وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت تارة إذا رأوا في ذلك مصلحة لهم، وكانوا يبتعدون عنهم تارة أخرى إذا وجدوا في القُرب منهم مثلبة ومهلكة لأنفسهم ومصالحهم.

ولم يكن رصده لهذه التحوُّلات الناتجة رصدا جافا أو حياديا كما تفعله الصحافة الخبرية، بل أراده أن يكون حيا على لسان "عربجي" هو الأسطى حنفي أبو محمود، من عربجية الحناطير التي كانت تملأ شوارع القاهرة ومصر آنذاك، ممن ينقلون الركّاب من شارع إلى آخر، ويعرفون طبيعة وثقافة وأغوار الراكب من جلوسه أو كلامه أو حتى قلة كلامه.

إعلان

حوَّل نجيب بقلمه العربجي إلى شاهد على عصره، ولسان صدق على التحولات الغريبة واللافتة التي طرأت على المجتمع المصري، التي لا يزال بعضها صالحا لوصف مجتمعنا اليوم رغم مرور مئة عام على كتابة المذكرات التي دوّنها "سليمان" أو "الأسطى حنفي" في سلسلة حلقات في مجلة "الكشكول" المصرية، وجمعها في كتاب بتقديم المفكر والأديب المصري المعروف فكري بك أباظة عامَيْ 1922-1923. (2)

يرصد الأسطى حنفي أبو محمود طبائع الركاب الذين يرافقونه ومعادنهم وأخلاقهم، فمنهم الانتهازي الآكل على كل الموائد، ومنهم القواد، ومنهم الكاذب، ومنهم "الأونطجي"، ومنهم الشمّام والمتعاطي للمخدرات، يقول: "وبما أن عربة الواحد منا كبُرج بابل طالما امتطاها الآلاف، فقد تعودتُ بنظرة واحدة للزبون أن أعرف قيمته الأخلاقية، وبما أن حُكمي هذا أصدرته عن تجربة واختبار، فاقرأه -أيها القارئ- بعين العظة، واسمعه بأُذن الاعتبار: "فكم راكبٍ في المركبات تجرُّه *** ولو تُنصفُ الأيام كان يجرُّها". (3)

رصد الأسطى حنفي بقلمه مواقف السياسيين الانتهازيين، وفي مقدمتهم مسؤول دخل عالم السياسة مناديا باستقلال مصر من الاحتلال البريطاني، رافعا شعار "لا رئيس إلا سعد"، في إشارة إلى سعد زغلول، قبل أن يتحوَّل إلى شعار "عدلي فوق الجميع"، قاصدا عدلي يكن، رئيس وزراء مصر الأسبق والمنافس الأشرس لسعد زغلول، ثم انتقل إلى مرحلة ثالثة شعارها "لا حياة إلا لثروت"، في إشارة إلى عبد الخالق ثروت رئيس وزراء مصر الأسبق، قبل أن يؤكد الأسطى حنفي ساخرا أن نهاية هذا المسؤول ستكون على الأرجح بشعار "لا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال".

يصف العربجي في مذكراته صنفا آخر من السياسيين قائلا: "أمثال هذا الآدمي تراهم في أوجه المجالس، يلبسون أنظف وأليق الملابس، ساعاتهم ذهبية، وخواتمهم ماسية، جيوبهم دائما عامرة، كأن لهم ريعا ينفقون منه ولا ريع، ينامون إلى منتصف النهار، ويسهرون الليل، إذا سألت عن الواحد، قيل لك: هذا خدام إخوانه، جدع ومهاود، خبير في الجنس اللطيف، وبالاختصار نسميه نحن (مفتاحجي)". (5)

إعلان

كما يرصد الأسطى حنفي سلوك بعض كبار الملاك من العُمد الذين انتفعوا بفوائد ثورة 1919 فأصبحوا يبيعون القطن بالأسعار العالمية بعدما عاشوا لعقود في قهر من الاحتلال، وبدا أثر النعمة عليهم، قائلا: "والبيك هذا أيها الزبون الأديب عُمدة من العُمد الملآنين، يربو سنّه على الستين، وجيه وجاهة قروية خشنة، انتفع بأحلام سنة 1919، فعرف كيف يستفيد، وامتلأت الخزانة على سعتها، واضطرته كثرة الخيرات أن يتزوج مرة ثانية فتزوّج، وما أسهل الزواج لمثله، والمال مبرر لكل جريمة، والمسكينة من خريجات الثانوية السنية منذ عام، لم تتجاوز ستة عشر عاما.. ولا أصف لك فصل الوداع الأخير، والحزن الذي استولى على نفسي ساعة رأيتُ "الكتكوتة" التي كنتُ أراها منذ سنتين تقفز أمامي إلى مدرستها، وهي ساهمة مفكرة حزينة، تركبُ عربتي إلى منفاها كما تظن" (6)، إذا قرر العُمدة الغني أن يأخذ زوجته الصغيرة إلى عزبته في الأرياف.

على أن أكثر ما لفت نظر الأسطى أبو محمود هي التغيرات الأخلاقية الخطيرة التي طرأت على المجتمع المصري مثل انتشار القمار والمخدرات، بل ومشاركة النساء في لعب القمار، ومنهن مَن خرجنَ من الأحياء "الوطنية" على حد وصفه، وربما يقصد بها الأحياء الشعبية التي امتازت النسوة فيها بلبس الملاية اللف والنقاب.

أما المخدرات، فيرصد انتشار الكوكايين تحت سمع الحكومة وبصرها، وهي التي تُدمِّر الشباب عماد المستقبل على حد وصفه، يقول: "ألم ترَ كيف يفترس الثعبان فريسته؟ يُضيق عليها الخناق إلى أن تقع لكهرباء عينيه فتلاقي حتفها.. تلك النهايات مجتمعة أقل أثرا في نفسي وأخف روعة في قلبي من الموت بالكوكايين، الشباب الناضر، الخدود اللامعة، والعيون البراقة، القد المعتدل، والذكاء الفياض، النفس التي تسيل حنانا، والوجه الذي يستحي أن يُراق ماؤه… في زمن أكثر رفاقي فيه أصحاب مراكز تسمح لهم أن يُنادوني قائلين: استنى يا أسطى، نزل الكبّوت، دُور على شبرا، فوت على الخياط، أقسم لكم أني كثيرا ما وقفت بزبائن لي على دخاخنية ومحلات ماني فاتورة وقهاوي تُباع بها هذه المادة السامة جهارا نهارا، ادفع الثمن تاخد الجرام، والحكومة تسمع وترى، لكن العين بصيرة واليد قصيرة". (7)

إعلان

تلك بعض من ملامح مذكرات عربجي التي رصد فيها الممثل المصري سليمان بك نجيب أبرز مشاهد المجتمع المصري عشية ثورة 1919، مُقدِّما رؤية نقدية لشؤونه السياسية والاجتماعية والأخلاقية، التي لا شك أنها تشبه في نواحٍ كثيرة ما تعيشه مصر في يومنا، هذا على الرغم من مرور مئة عام على كتابة هذه المذكرات الخفيفة والطريفة والصادقة في آنٍ واحد!

__________________________________________________________

المصادر:

  1. الموسوعة العربية، سليمان نجيب (1892- 1955م)
  2. مذكرات عربجي، مقدمة فكري أباظة
  3. مذكرات عربجي ص12.
  4. محمد عبد الرحيم، مذكرات عربجي، القدس العربي.
  5. مذكرات عربجي
  6. مذكرات عربجي ص43.
  7. السابق ص54.
المصدر : الجزيرة

إعلان