شعار قسم ميدان

رغم نجاح رواياته.. لماذا ينبذ مجتمع المثقفين المصريين أحمد مراد؟

سيتعجَّب سُكَّان مدينة القاهرة من وضع بحيرة صناعية راكدة في قلب مدينتهم رغما عنهم، وسيُؤكِّدون انزعاجهم من آنٍ لآخر كلما مَرَّ بها مركب أو أُلقيَ فيها حجر يُذكِّرهم بوجودها، حينها يتعكَّر مزاجهم الشخصي الذي لن يمنع البحيرة من وجودها شئنا أم أبينا. لا يحمل هذا التشبيه أية إهانة، لكن الكاتب أحمد مراد يُشبه تلك البحيرة الراكدة، والمثقفون هم سُكَّان المدينة الأصليون المتذمرون من وجوده في قلب مجتمعهم مغلق الدائرة.

 

عنوان ميدان

يلتف شباب مدينة القاهرة حول تلك البحيرة تاركين العمارات القديمة والشوارع الأثرية التي تحمل تاريخ المدينة وأصالتها، أو دعونا نترك أمر البحيرة ونقول إنهم يلتفون حول أدب أحمد مراد ويتركون صفوة الكُتَّاب والأدباء المصريين. يرحب البعض بأحمد مراد باعتباره ظاهرة الكاتب الذي أعاد الشباب إلى القراءة من جديد وأعاد الرواج إلى سوق النشر، بينما يتذمَّر الكثيرون من الاحتفاء المبالغ فيه بمراد، وهو بالتحديد ما حدث قبل أيام قليلة عندما أُعلن عن غلاف العدد الجديد من مجلة "عالم الكتاب" الذي يحتل فيه جسد مراد الغلاف بأكمله، برداء أبيض ونظرة صارمة واسمه "مراد" وحيدا على الغلاف، وكأننا أمام ملصق دعائي يُمجِّده ويُعظِّم من شأنه ويضع هالة مقدسة حول رأسه.

 

انزعج عدد كبير من الكُتَّاب والقُرَّاء والمثقفين المصريين من تَصدُّر أحمد مراد غلاف واحدة من أشهر المجلات الثقافية المُموَّلة من وزارة الثقافة المصرية بطريقة احتفالية بكاتب لا يراه مجتمع الكتابة "واحدا من أهمهم"، ويراها آخرون سقطة من مجلة ثقافية حكومية تُنفق أموال الدولة للترويج للأدب السيئ الذي ينتمي إليه مراد، متناسين إمكانية تكريم عدد كبير من الكُتَّاب -مثل أحمد خالد توفيق أو نبيل فاروق- الذين يليق بهم أن يتصدَّروا أغلفة المجلات الثقافية المصرية عوضا عن مراد.

أحمد مراد عالم الكتب
أحمد مراد على غلاف مجلة عالم الكتب

في ظل حياتنا السائلة تغدو كل الأمور مُلتبسة، فمثلا تغمرنا الحيرة عند البحث عن الأدب الجيد والأدب الرديء، الأمر محير، ونسبي، ما الجيد وما الرديء؟ ينتهي حسم الأمر في ساحة معركة أطرافها لا ينتصرون إلا لآرائهم الشخصية دون حياد أو إنصاف، لكن أَمَا من مساحة لنتقبَّل فيها وجود الآخر المختلف عنا؟ لن نحبه ولن نقرأ له ولكن نتقبَّل أنه موجود، له جمهوره، ويُحقِّق أعلى المبيعات وآلاف الطبعات.

 

"النقد لا يقتل"، قالها الناقد الراحل رجاء النقاش فسار عليها البعض وانحرف عنها الكثيرون، أصبح النقد قرينا بالقتل المعنوي(1)، وما من مساحة عادلة ليُخبرنا قلم منصف لماذا يُصنَّف أدب مراد بالسيئ أو الجيد؟ تخفت الأصوات وتتراجع الأقلام ويصبح مقياسنا الأبرز هو القارئ العادي وأرقام المبيعات، حينها ينقلب المشهد ويتحوَّل إلى أدب حسب الأمزجة.

 

لم تختلف أسباب الاستهجان والعداء عن تلك التي تُذْكر كلما عبر أمامنا اسم مراد باعتباره واجهة سيئة للأدب المصري ركيك اللغة والسرد، لكن تلك المعركة الأخيرة اشتعلت بضراوة عندما تدخَّلت هيئة تحرير المجلة -وتحديدا مدير تحريرها سامح فايز- دفاعا عن غلاف العدد بلهجة تُلمح أن تلك الزوبعة ما هي إلا "نفسنة" و"غيرة" من مراد، وممارسة نوع من "الإرهاب" من قِبل مجتمع المثقفين وبعض الكُتَّاب الذين لم تُنشَر لهم كتابات في المجلة، والتأكيد بنبرة مزعجة أن مجتمع المثقفين وكُتَّاب وسط البلد لا يزال مغلقا ولا يدري أن هناك كُتَّابا غيرهم لهم قُرَّاء بالآلاف تتجاوز مبيعاتهم مبيعات هذا المجتمع المثقف المغلق على نفسه(2).

أحمد مراد
أحمد مراد

انقسمت الآراء، وتعالت النبرات العدائية المتعالية من كلا الطرفين (مؤيدي الغلاف ومعارضيه)، خاصة بعد الأوصاف الهجومية من قِبل هيئة تحرير عالم الكتاب عبر حساباتهم الشخصية على فيسبوك دفاعا عن الغلاف، وبين كلا الجانبين ثمة مساحة وسط لم يختر أحد الوقوف فيها تعبيرا عن ضرورة تقبُّل الآخر ونقد طبيعة الغلاف "الاستفزازية" بشيء من التعقُّل دون الهجوم والسب لشخص أحمد مراد الذي لا ذنب لكون صورته على واجهة غلاف مجلة ما. هنا استوقفني تصريح دكتور جابر عصفور وزير الثقافة السابق قائلا: "ليس لديّ أي مانع من تصدُّر أحمد مراد لغلاف المجلة… لأن أي كاتب يُوزِّع مليون نسخة من روايته في بلد لا يقرأ مثل مصر؛ فهذا أمر يستحق التهنئة؛ لأنه أمر مُفرِح بغض النظر عن رأي النقاد في أحمد مراد"(3)، وهو تصريح يحمل قدرا من الإنصاف ويضع الأعين من جديد للوقوف أمام ظاهرة أحمد مراد، كيف بدأت ولماذا وصلت إلى هذا القدر من العداء والهجوم؟

"المؤلِّف يكتب للقارئ، وطالما أن هذا القارئ مستمتع بالكتاب فهذا يكفي".

(أحمد مراد)

صدرت أول روايات مراد "فيرتيجو" عام 2007، وهو العام نفسه الذي صدرت فيه رواية "شيكاغو" لعلاء الأسواني، وفي العام التالي صدرت رواية "ربع جرام" لعصام يوسف. في هذه الفترة شهد سوق النشر الأدبي المصري انتعاشا نسبيا ملحوظا، وأضاف مصطلحا مستحدثا على القارئ ومكتبات ودور النشر وهو "الروايات الأعلى مبيعا" (Best Sellers) التي كان يتصدَّرها علاء الأسواني في تلك الفترة. ظهر اسم مراد على استحياء ولفت الانتباه، ولأنه العمل الأول فسيغفر له القُرَّاء والكُتَّاب والنقاد عثراته وإخفاقاته، لكنه حتما لن يُرحَم في الأعمال التالية.

رواية فيرتيجو لأحمد مراد

مضت بضع سنوات، اندلعت ثورة يناير، اتجه الأسواني إلى السياسة وبَعُد أميالا عن الأدب، واختفى عصام يوسف الذي صدرت روايته في واحد وثلاثين طبعة(4)، وفي هذه الأثناء كان مراد في صومعته الخاصة يكتب روايته الثانية "تراب الماس"، ثم الرواية الثالثة "الفيل الأزرق" التي تُعَدُّ الانطلاقة الأقوى في مسيرته الأدبية وطبع منها مليون نسخة(5) وتصدَّرت قائمة "Best Sellers"، وهي صدارة لم يشهدها سوق النشر من قبل ولم يتراجع فيها مراد بمرور الأعوام حتى صدور آخر روايته "لوكاندة بير الوطاويط" في يوليو/تموز من هذا العام التي لم تُكمِل أربعة وعشرين ساعة على صدورها حتى تعرَّضت للقرصنة الإلكترونية وانتشرت على المواقع كافة.

 

لا يتصدَّر أحمد مراد قوائم الأعلى مبيعا فقط، بل إن اسمه يتصَّدر أيضا شباك التذاكر في السينما المصرية، خاصة بعد الثنائية التي صنعها اسمه كونه "سيناريست" مع صديقه المخرج مروان حامد، وهو نجاح تتدخَّل فيه أيضا لغة الأرقام والإيرادات، وإن كان الكثير من النقد يُوجَّه للكتابة أكثر منه للإخراج فإن مراد أثبت دون شك نجاح اسمه في استقطاب شباب الجمهور له سواء في قاعة السينما أو بين صفحات رواياته.

 

عنوان ميدان

 

يقف أحمد مراد وحيدا في أرض بعيدة لا تزورها الشمس، يعرفه الشباب ويحبون حكاياته، لكن قلما نجده بين دوائر الأدباء والمثقفين، المساحة التي ينتمي إليها رغم اعتراض الكثيرين، في النهاية هو كاتب وأديب، تحتل روايته رفوف المكتبات إلى جوار نجيب محفوظ وإبراهيم أصلان وإيمان مرسال وآخرين، وتتجاوز روايته الواحدة مئة ألف نسخة، ويحل ضيفا على أهم البرامج التلفزيونية الحوارية وندوات معرض الكتاب، نراه يتجوَّل كونه ابنا وحيدا مدللا يُسلَّط عليه الضوء ويلفت له الأنظار لكنه لا يستحق كل هذا الاهتمام، لأنه كما وصفه الكثيرون "كاتب الأدب السيئ"، وهذا الاهتمام المبالغ فيه يسحب الضوء من كُتَّاب آخرين يستحقون الاحتفاء أكثر منه.

 

بدأت شرارة العداء الأولى لمراد عندما رُشِّحت "الفيل الأزرق" للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية إحدى أهم الجوائز الأدبية العربية على الإطلاق، لم تهدأ الأقلام ولم تتوقف الأفواه عن التذمُّر، كيف لرواية تشويق ورعب أقل من عادية أن تُرشَّح للبوكر؟ كان الترشيح بمنزلة طعنة للمثقفين بينما اعتبرها بعض الصحافيين أكثر دورات الجائزة بؤسا(6). لا شك أن مراد يُنصِت ويُراقِب كل الآراء التي تتناوله بالسلب أو الإيجاب، لكن السلبي قاسٍ أيضا، هناك العشرات من المقالات التي تُصنِّف أدبه على غرار "كيف تصل لـ «الأكثر مبيعا» بأسهل طريقة!"(7)، والطريقة بسيطة: خلطة تمزج بين أدب التشويق + اللغة الركيكة + قُرَّاء غير محترفين. مع إضافات تكسب الخلطة مذاقا مختلفا: فكرة فانتازية مُسلية، وبعض المشاهد الصادمة، كتابة سريعة لن تستغرق أشهرا قليلة فيصبح لديك رواية جديدة كل عام.

"الفيل الأزرق" للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية

على صفحات موقع الكتب والقراءة "جودريدز" يتكرَّر تعليق واحد بصيغ مختلفة على روايات مراد: "رواية مسلية، لم أُرِد لها أكثر من ذلك، فقط حكاية مسلية دون عمق أو إبداع"(8)، وهذا هو سر الخلطة التي تُرضي جمهور مراد، حكاية مسلية لا أكثر ولا أقل.

 

عنوان ميدان

قبل وفاته لم يحظَ أحمد خالد توفيق بالتكريم الكافي الذي يليق به، يراه بعضهم "كاتب الشباب والمراهقين"، وآخرون لم يعرفوا مَن هو توفيق الذي عَمَّ الحزن والفقد كل مواقع التواصل فور إعلان وفاته. يملك توفيق جمهورا من القُرَّاء المخلصين، مدافعين عنه، يقفون حُرَّاسا له وللنوستالجيا التي يغرقون فيها كلما ذُكِر اسمه أو اسم سلسلته الأشهر "ما وراء الطبيعة"، إنها علاقة شديدة الخصوصية بين كاتب وقُرَّائه، أو كما وصفها سامح فايز: "علاقة لم تستوعبها الصحافة الثقافية في القاهرة ولم يستوعبها النقاد"(9)، وهو ما يؤكده فايز من وجود فجوة بين مجتمع المثقفين وبين القُرَّاء الحقيقيين، الشباب الذين تغيب لغة التواصل بينهم وبين صفوة المثقفين.

ومن ناحيته، عندما سُئِل مراد عن رأيه في الانتقادات اللاذعة التي تُوجَّه لرواياته بشكل خاص وكتابات "الأعلى مبيعا" بشكل عام، قال: "المؤلِّف يكتب للقارئ، وطالما أن هذا القارئ مستمتع بالكتاب فهذا يكفي. بالإضافة إلى أنه لا يمكنني القول إن كل ما يتصدَّر قوائم الأكثر مبيعا شعبي أو مبتذل أو سطحي". يعرف مراد كيف يُمسِك العصا من منتصفها وينأى بنفسه عن خوض حروب تُنذِر بشر، ويتعامل مع الانتقادات القاسية حول كتابته بشيء من التعقُّل والرزانة الواضحة، لا يتذمَّر ولا يغضب، بل يتقبَّل الجميع، لكنه في النهاية يختار أن يقف في صف القارئ المخلص له، ويبعد عن دوائر الكُتَّاب والمثقفين، منبوذا ووحيدا.

 

تكرَّر مشهد العداء من جديد عندما فاز مراد بجائزة الدولة للتفوُّق عام 2017، وفي حين اعتبرها مراد أغلى التكريمات، رمقه مجتمع المثقفين بنظرة جافة تحطُّ من قيمته لأنه في نظرهم عديم الموهبة والقيمة، ولم يترك أثرا ثقافيا حقيقيا ليستحق تكريما كهذا، وكأن في الأمر تعمُّد لسحب البساط من تحت أقدام عشرات الكُتَّاب الواعدين ليوضع تحت أقدام مراد. إنها المعركة الأبدية بين الجماهيري والفني، الجاد والمبتذل، الجيد والسيئ، معركة لا ينتصر فيها إلا الزمن الذي يُغربِل ويُنصِف في النهاية مَن يستحق أن يُخلَّد اسمه للأبد.

 

في سياق مختلف يُذكِّرنا أحمد مراد بمحمد رمضان، بطل الأرقام الأعلى مشاهدة وأجرا، الذي يلتف الجمهور حوله ويسحب الأضواء من فنانين آخرين وأعمال أخرى أكثر فنية من أعماله المبتذلة المُكرَّرة، وإذا أردنا أن نكون مُنصفين فعلينا أن نفصل بين النجومية المبالغ فيها وبين سحب البساط من الآخرين، الساحة مفتوحة أمام الجميع للكتابة والنشر والوجود في المناسبات الأدبية والجوائز ومعارض الكتاب والندوات، علينا أن نقبل أن نجلس متجاورين في طاولة واحدة، أن ننتصر بالكتابة، وحده الزمن قادر على أن يُغربِل كل الكُتَّاب والكتب. ستفنى الأجساد وتُنسى الأسماء وتبقى الكتب إلى الأبد، الكتب وحدها هي الأثر الباقي الذي يُعلِن موت الأديب أو حياته بين الأجيال المتعاقبة، وكأنه وليد الأمس.

________________________________________________________________

المصادر

  1. كلمة عن أحمد مراد.
  2.  7 موضوعات.. تفاصيل ملف أحمد مراد المثير للجدل في “عالم الكتاب”.
  3. بين دعاية للأدب السيئ وضجة مفتعلة.. القصة الكاملة لأزمة غلاف أحمد مراد بمجلة "عالم الكتاب".
  4. "1/4 جرام" رواية تحارب الإدمان!
  5. سامح فايز، كتاب البست سيلر.
  6. أحمد مراد.. كيف تصل لـ«الأكثر مبيعًا» بأسهل طريقة؟
  7. المصدر السابق.
  8.  أحمد مراد.
  9. كتاب بست سيلر: حكايات عن القراءة.