شعار قسم ميدان

لماذا يتحول الإنسان إلى حشرة؟.. قراءة في رواية التحول لكافكا

في ليلة شتوية ممطرة في براغ، في عام 1912، خطرت للروائي الشاب فرانز كافكا فكرة رواية جديدة، بطريقة مباشرة وكعادة أدبية عند كافكا كما ظهرت في روايته الأولى "الحُكم" وكل رواياته اللاحقة، يدخل كافكا إلى لحظة تأسيسية في حياة أبطاله وشخصياته الروائية من الجملة الأولى، يبدأ كافكا روايته "إذ استيقظ (غريغور سامسا) ذات صباح، على إثر أحلام سادها الاضطراب، ووجد أنه قد تحوَّل وهو في سريره إلى حشرة عملاقة. كان مستلقيا على ظهره، الصلب مثلما درع، ولما رفع رأسه قليلا، رأى كرشه منتفخة، داكنة، تُجزِّئها خطوط مقوسة جاسية، والغطاء بالكاد ممدود على أعلاها، ويكاد أن ينزلق عنها كلية. وكانت قوائمه العديدة، والدقيقة بشكل فادح بالنظر إلى ضخامة بدنه، ما تنفك تهتز، في حركة يراها ولا يستطيع إزاءها شيئا"، هكذا في منتهى البساطة والاعتيادية، يستيقظ غريغور سامسا ليجد نفسه فقد هيئته الإنسانية.

 

أي مصيبة، وأي ورطة وجودية، يُمكن أن تحل بالمرء أبشع من أن يتحوَّل من إنسان إلى حشرة، جَسَّد كافكا هذا التحوُّل بعادية رهيبة، بحيث جعل الأحداث تسير كأنها طبيعية لا يشوبها أدنى عجب، كأنه طبيعي أن أي واحد منا في هذا العالم قد يتحوَّل إلى حشرة دونما سبب أو تبرير، لا يتساءل غريغور "ماذا وقع لي؟"، بل لم يكن هناك أي اعتراض من جانبه على هذا التحوُّل، كل ما يميز هذا التحوُّل أنه أدركه ووعى به بشكل إنساني، أي إن غريغور يحتفظ بوعيه الإنساني داخل جسد حشرة، ربما هنا تحديدا كانت كل مأساة غريغور سامسا.

رواية التحول لكافكا

عنوان ميدان

للوهلة الأولى، أول ما طرأ على ذهن غريغور في هذا الصباح المرعب هو أنه يحتاج إلى التحرُّك للحاق بقطار السابعة كي لا يتأخر عن موعد عمله، كانت المشكلة الأساسية عنده كيف يتحرك في جسده الجديد؟ بعد عدد من المحاولات الفاشلة في النهوض من سريره ومحاولة الوقوف، "خطر له فجأة كيف كان الأمر في منتهى اليُسر لو قَدِم إليه من يُساعده. إن شخصين قويين -فكَّر في أبيه والخادمة- ستكون فيهما الكفاية، ولن يكون عليهما سوى إدخال أذرعهم تحت ظهره المقوس لإخراجه من السرير، وبعدها ينحيان بحملهما ويتركونه، ويتأنيان حتى يستقيم واقفا على الأرضية، حيث سيكتسب وجود القوائم الصغيرة، فيما يأمل، معنى ما، لكن، وبغض النظر عن كون الأبواب كلها موصدة، أكان يَجمُلُ به حقا أن يُوجِّه نداء طلبا للمُساعدة؟ وإذ عنّت له هذه الفكرة، لم يستطع أن يَكبح ابتسامة، رغم الضيق الشديد الذي كان فيه".

 

لم يكن غريغور يحب عمله مندوبَ مبيعات مُتجوِّلا، بل كان ينتظر اليوم الذي يُقدِّم فيه استقالته، ليتفرَّغ للقيام بالأشياء التي يحبها، ربما يتعلّم الموسيقى، لكن عائلته بالتحديد هي التي تحتاج إلى عمله، خاصة بعد خسارة والده لتجارته وتراكم الديون على العائلة وإيجار المنزل ومصاريف أخته الصغيرة، كل هذا دفعه للاستمرار في وظيفته، فبحسب غريغور وعائلته كذلك فإن وظيفة غريغور هي أهم شيء يملكونه، ومن ثم كان الجميع قلقا من رد فعل الشركة على هذا التأخير، الأول تقريبا، منذ التحق غريغور بالعمل في تلك الشركة قبل خمس سنوات.

 

لم يزل غريغور في غرفته يُعاني تحكُّمه في جسده الجديد، حتى أوفدت الشركة كبير موظفيها إلى منزل عائلة غريغور التي قابلته باحترام ومهابة بالغة، حيث أكّدت أم غريغور، السيدة سامسا، أكّدت لكبير الموظفين أنه منذ ابتدأ العمل بالشركة لم يكن يفعل أي شيء على الإطلاق سوى العمل، وفي الليل إذا تيسّر له أن يقرأ شيئا، فقد كان يقرأ خطط سير القطارات التي يستخدمها بحكم وظيفته مندوبَ مبيعات مُتجوِّلا، الشركة بدورها كانت لا تسمح لأي موظف بالغياب على الإطلاق، وإذا حدث وبرَّر أحد الموظفين غيابه بالمرض، فإن الشركة تُرسل طبيبها الخاص، الذي كان كل الناس بالنسبة إليه أصحاء، ليس ثمة مرضى أبدا، وإنما ثمة كسالى على الدوام.

رواية التحول لكافكا

مع إصرار كبير الموظفين وإلحاح العائلة وبكاء الأخت الصغيرة، خوفا من أن يفقد غريغور وظيفته وتنهار العائلة، تحامل غريغور على نفسه حتى استطاع أن يخرج من غرفته، ويقف أمامهم بهيئته الجديدة، ليقابله الجميع بمزيد من الرعب والاشمئزاز، انصرف كبير الموظفين في رعب، وتسمَّرت والدته وأخته، بينما اندفع الأب مهاجما غريغور مرغما إياه على العودة لغرفته، وهناك داخل غرفته من جديد، حيث لن يخرج منها مرة أخرى، أدرك غريغور لأول مرة وبشكل واضح عمق الأزمة التي وجد نفسه فيها.

 

عنوان ميدان

فقد غريغور وظيفته، وانهار مستقبله المهني تماما، وأصبح عالة على عائلته بعد أن أفنى حياته وصحته في سبيلهم، ومنذ تلك اللحظة بدأ غريغور في التعامل مع نفسه ليس كونه مجرد فرد عاطل في عائلة تكافح من أجل البقاء، بل كونه حشرة، بعُنف واشمئزاز بالغ تجاه الذات، فحين امتنع والده عن التعامل معه تماما، كانت والدته وأخته مُتردِّدتين بين الحنان والنفور تحاولان إدخال الطعام إلى غرفته، كان غريغور يحاول الاختباء أسفل الأريكة، حتى لا يزعجهم بمظهره، وهم يحاولون أن يبقى على قيد الحياة.

"لو أن غريغور كان على الأقل قادرا على التحدُّث إلى أخته وتقديم الشكر لها على كل ما كانت تفعله من أجله، لاستطاع أن يتقبَّل خدماتها بكامل الارتياح، أما والوضع على ما هو عليه، فقد كانت تلك الخدمات تجعله يتألم".

(التحوُّل)

إحدى اللحظات المفصلية في الرواية تبدأ حين تُقرِّر الأم والأخت تفريغ غرفة غريغور من الأثاث وكل متعلقات غريغور القيّمة حين كان في صورته الإنسانية للاستفادة من ثمنها، لمساعدة الأسرة في سد بعض الأعباء المالية، يختبئ غريغور تحت الأريكة حين دخولهم إلى الغرفة كما اعتاد، ومع بدء عملية تفريغ الغرفة يتردد غريغور هل هذا ما يرغب فيه فعلا، "أكان يرغب حقا في أن يترك الغرفة الدافئة ذات الفراش المريح الذي ورثته عائلته تنقلب إلى كهف، ولكنه سينسى فيه أيضا، وبشكل سريع، ماضيه الإنساني بأكمله؟ ذلك أنه في الواقع على وشك أن ينساه"، ليُقرِّر بعدها أن يحتفظ بإحدى الصور المُعلَّقة على الحائط لتُذَكِّره بأيامه القديمة، على أمل أن يعود إليها، تأتي أخته ووالدته التي تفقد وعيها بمجرد رؤيته مرة أخرى وهو يزحف على الحائط باتجاه الصورة، يتدخل الأب بقسوة، محاولا قتل غريغور، كما يقتل أي حشرة في البيت، وبعد مطاردة عنيفة بين الأب والابن، حدثت فيها إصابات بالغة لغريغور، "كان آخر ما أمكنه أن يراه هو انفتاح باب غرفته بعُنف، وخروج أمه منها في عجلة، صوب الأب مباشرة، لتحيطه بذراعيها، متوحدة معه كلية، وكانت كفاها موضوعتين على عنق الأب -إذ ذاك فقد غريغور متأثرا بإصابته قدرته على الإبصار- تتوسل إليه بأن يُبقي على حياة غريغور".

رواية التحول لكافكا

استمرت معاناة غريغور ومعاناة عائلته كثيرا، وتكرّرت حوادث سوء الفهم والاشمئزاز بكثرة، فمع تهوُّر وضع العائلة المالي كان الثقل النفسي يزداد أكثر وأكثر على الأخت والأم، قامت العائلة في واحدة من محاولاتها للتماسك بتأجير إحدى الغرف لأغراب عابرين، أملا في زيادة في الدخل، وفي إحدى السهرات، تجمعت العائلة مع المستأجرين في الصالة، قامت الأخت بالعزف على الكمان لتسلية المستأجرين، الذين بدا عليهم أمارات اللا مبالاة وعدم الرضا، مما أحبط الأخت الصغيرة، لاحظ غريغور ذلك من خلف باب غرفته فحاول الخروج لتشجيع أخته، يراه المستأجرون ويُعلنون عن فسخ عقد الإيجار نظرا لظروف العيش المقيتة في هذه الشقة ويرحلون فورا، هنا أُسقِط في يد الجميع، لتُعلِن الأخت نفسها التي خرج غريغور لمواساتها أن على العائلة التخلُّص من غريغور.

"والدايّ العزيزين، لا يمكن أن يدوم الحال على هذا المنوال. أنتما، ربما، لا تُدركان ما يلزمنا القيام به، أما أنا، فعلى العكس! أنا لا أريد، أمام هذا الوحش، أن أتلفظ باسم أخي، ولذا علينا أن نحاول التخلُّص منه. لقد قمنا بكل ما في مستطاع كائنات بشرية من أجل الاعتناء به، واحتماله، وتحلّينا بالصبر اللازم لذلك، وما من أحد، في اعتقادي، يمكنه أن يوجه إلينا أدنى لوم… إنها على حق ألف مرة، قال الأب، ولم تُعقِّب الأم".

(التحوُّل)

فقد غريغور آخر ما تبقى له في الحياة، حب أخته وأمه، عَمَّته رغبة عارمة في التلاشي والاختفاء بعد أن سمع هذا الحوار العائلي ورأى بعينيه رغبة أخته وأبيه في التخلُّص منه، وموافقة أمه، دخل بصعوبة بالغة إلى غرفته، وأدرك "أنه الآن قد أضحى عاجزا تماما عن الحركة. لم يدهشه ذلك، بل إن ما بدا له غير طبيعي تماما هو أنه حتى هذا الوقت كان بمستطاعه أن يتنقل على قوائمه تلك، الصغيرة والناحلة جدا. وفيما عدا هذا فإنه شعر ببعض الارتياح. حقا كان الألم مستشريا في سائر جسده، لكن كان لديه انطباع بأن حِدَّة آلامه كانت تخف تدريجيا وتتضاءل وأنها آيلة في نهاية المطاف إلى التلاشي كلية. وكان قد فقد الإحساس إلى حدٍّ بعيد بالتفاحة المهترئة المنغرسة في ظهره وبالمنطقة الملتهبة فيما حولها، والتي كان يغطيها غبار دقيق. واستذكر عائلته بحنان وحب. وكانت فكرة ضرورة اختفائه قد أضحت أكثر ترسُّخا لديه ربما منها لدى أخته. واستمر في تأملاته الغامضة في حال من السكينة، إلى أن أعلنت ساعة البرج الثالثة صباحا. وشهد الضوء وقد بدأ ينتشر في الخارج، أمام النافذة، ثم هوى رأسه أرضا رغما عنه ومن منخريه، انطلق، في وهن، آخر أنفاسه".

 

عنوان ميدان

رواية التحول لكافكا

كان غريغور شابا متفانيا في عمله، في خدمة عائلته، وهب نفسه ووقته وصحته واستقراره النفسي ليكون مثاليا أمام سُلطة العمل والأسرة والمجتمع بصفة أعم، لكن جوهر هذه العلاقات الإنسانية بين غريغور ومجتمعه كانت علاقة نفعية، قائمة بالأساس على فائدة غريغور الاقتصادية لعائلته وشركته، ولا يوجد أي قيمة لوجود غريغور في الحياة خارج الاقتصاد، فالعائلة التي تتكوَّن من الوالدين سامسا والأخت غريتيه تناست أن هذا الكائن هو غريغور نفسه، كلما اقترب منهم ابتعدوا عنه فارّين من مظهره المُوحش.

 

يطرح كافكا إشكالية تحوُّل العلاقات الإنسانية من علاقة قائمة على تبادل المنفعة، تستمد قيمتها من قدرة الإنسان على خدمة المجتمع، إلى علاقة متوترة تنحو نحو العداوة بعد تآكل الفاعلية الاقتصادية لنفس الإنسان، وانحطاط قيمة وجوده إلى مرتبة الحشرات، والحشرات لا دور لها في سيرورة الحياة، هنا تظهر رؤية كافكا للإنسان، في زمن قد يتحوَّل فيه الإنسان إلى حشرة لا قيمة لها في المجتمع البشري، فقد عشنا مع هذا البطل قساوة التحوُّل وتجريده من إنسانيته، والقذف به في تلك الغرفة التي أصبحت حفرة مظلمة يعيش فيها الاغتراب الوجودي والصراع بين حاجته الفطرية إلى الحب والحياة واحتقاره لذاته ورغبته في الموت والتلاشي.

 

تطرح الرواية شكلا من أشكال الاستلاب الاقتصادي للإنسان في أسرة تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة داخل مجتمع صناعي، حيث يأتي تحوُّل غريغور الجسماني بمنزلة علامة على تمرُّده الفردي أو عدم اندماجه بالأحرى مع حياة مُستَلبة فقدت قيمتها الحقيقية، لكن ما يظهر لنا من نهاية غريغور وتجاوز أسرته له أن عدم الاندماج أو التمرُّد الفردي لا يُجدي شيئا، وينتهي بصاحبه إلى مزبلة التاريخ، فيما تبقى الأوضاع الاجتماعية نفسها على ما كانت عليه، إلا أنه لا يجب أن نغفل أن مصير الإنسان في عالمنا ما زال دائما مُهدَّدا بالسقوط في أي لحظة إلى الحضيض، فيصبح هو نفسه حشرة دونية، مأساة غريغور سامسا ليست في تحوُّله إلى حشرة، بل في غياب الإيمان بقيمة الحياة والأمل، حيث عزمت أسرته على التضحية به، من دون أن يتبادر إلى أذهانهم أنه هو الذي ضحى بكل شيء من أجلهم، من دون أن يُفكِّروا في أنه سيعود يوما إلى طبيعته، فقط يحتاج إلى القليل من الوقت والأمل وبعض الحب.

__________________________________________________________

المصادر

  1. التحول، فرانز كافكا، ترجمة مبارك وساط، منشورات الجمل
  2. البعد الوجودي للإنسان في رواية «التحول» لفرانز كافكا، إيمان الصغير، صحيفة القدس