شعار قسم ميدان

البيت بعيون أخرى.. كتب وروايات ممتعة بطلها المنزل

"طعم الحاجات.. بيعيش ساعات.. ويدوب قوام وقوام يفوت

جوه القلوب.. والذكريات.. ما يعيش غير.. طعم البيوت

جدران بتحضن.. جوه منها قلوب كتير

وأبواب بتقفل.. ع الجنايني و ع الوزير

شباك موارب من وراه واقفة الصبايا

قضوا النهار في الوقفة قدام المرايا

أسرار كتير عدد البيوت

في الشارع الطيب يا ناس"

(طعم البيوت، نصر الدين ناجي)

تُشكِّلنا البيوت التي نعيش فيها ونُشكِّلها، نترك آثارنا على كل ركن فيها وتترك آثارها علينا، تُشكِّلنا الجدران والروائح، وتنطبع في القلوب، سواء كانت بيوت الطفولة الأولى، البيوت التي لم نخترها لكنها ألِفتنا وألِفناها، احتمينا بأركانها من الوحشة، ورسم خيال طفولتنا وحوشا مختبئة بين نقوش جدرانها، أو كانت بيوتا اخترنا كل ركن فيها؛ كل تفصيلة وكل لون بحثا عن الأُلفة والأُنس.

والآن جميعنا يقضي ساعات طويلة في البيوت، لندرك كما لم ندرك من قبل أهمية البيت، بيت آمن تمنحنا جدرانه السكينة والحماية من عدو لا تراه العين، ويمنحنا سقفه براحا واسعا للتأمل لساعات دون هدف. ربما نُعيد ترتيب أركان البيوت، وربما نُعيد النظر في علاقتنا بها، أو ربما نقضي الوقت في استعادة ذكريات البيوت التي سكناها وسكنتنا، نتذكر الروائح، والأسقف التي تارة تعلو وتبتعد وتترك لنا براح جلسة هادئة، وتارة تنقبض علينا حتى لتكاد تنحني الرؤوس تحت ثقلها.

أحيانا يكون البيت هو القصة، هو بطل الحكاية، وساكنوه هوامش. وأحيانا أخرى يشاركهم البيت في قصصهم، يلاعبهم، ويأخذ دورا أساسيا في روايتها. لقد عرفت العديد من الأعمال الأدبية هذا الدور الأساسي للبيت. في هذا التقرير نُقدِّم مجموعة من الأعمال الأدبية التي لعب فيها البيت أو المكان دورا أساسيا في العمل:

قدر الغرف المقبضة: عبد الحكيم قاسم

undefined

البطل هنا هو المكان في المقام الأول، أو الأماكن إذا شئنا تحرّي الدقة، وهو ما يُشير إليه العنوان بوضوح. تتبع الرواية رحلة البطل عبد العزيز، بداية من غرفة في بيت طفولته بإحدى قرى الدلتا، ثم الإسكندرية، إلى أزقة القاهرة وشوارعها، مرورا بسجون مصر المختلفة وحتى انتقاله إلى برلين الغربية، متتبعة الغرف التي سكنها في كل هذه الأماكن والتي تنوعت بين مساكن مشتركة ومساكن تخصه وزنازين في سجون وغرفة في دير وأخرى في فندق. قد تبدو الحكاية للوهلة الأولى تقليدية، لكن ما يميزها حقا هو هذا التركيز على المكان وإبرازه إلى المقدمة، واستحضار تفاصيل كل غرفة لتمثل أمامنا نابضة بالحياة وكأنها هي البطل الرئيسي والبشر مجرد هوامش.

"يتذكر كل الأيام، كل السقوف التي نام تحتها والحيطان، كل الغرف. هل هذه نهاية المطاف؟… المؤكد أن الزنزانة -في سلسلة الغرف التي بلا نهاية- هي شيء مختلف، ليس ﻷنها أكثر قذارة أو أقل أناقة، بل ﻷن الرعب الكامن في جدرانها وشباكها وبابها شيء لا يحتمله قلب إنسان. إن الذل والإهانة في هذا المكان كائنان في تحول الإنسان إلى شيء مهيض يمكن سحقه في أي لحظة، بدون أن يكون في وسعه الفرار أو المناورة أو الدفاع عن نفسه".

الباب: ماجدا سابو

undefined

تُقدِّم لنا الكاتبة المجرية ماجدا سابو العلاقة الفريدة بين الخادمة العجوز إيمرنس والكاتبة التي تعمل لديها، علاقة معقدة تتراوح بين التوتر والمقت أحيانا والتعاطف والحب الشديد. إيمرنس تدخل وتخرج من أبواب بيوت مخدوميها بحرية، بينما يبقى بيتها محرما على الجميع ولا تسمح ﻷحد أن يخطو وراء بابه. تحيط إيمرنس نفسها بالغموض، وتختفي حياتها الغامضة كاملة خلف باب بيتها المغلق في وجوه الجميع، حتى تأتي لحظة كان لا بد فيها من هتك أسرارها وهدم جدران الغموض لإنقاذ حياتها.

الكثير منا يعيش هذا التوتر بين حياة داخلية غامضة وحياة مختلفة يراها الجميع، وقد يكون باب البيت هو المكان الوحيد الذي نتمكّن خلفه من خلع الأقنعة بين جدران آمنة نعرفها وتعرفنا. رواية فريدة ومتميزة بشخصياتها الثرية والعلاقات الغامضة بينهم، ويقبع في الخلفية بيت إيمرنس وبابها كمحرك أساسي للأحداث. فما الذي تخفيه إيمرنس خلف بابها؟

حجرتان وصالة (متتالية منزلية): إبراهيم أصلان

undefined

البطل هنا أيضا هو المنزل، شقة صغيرة يسكن بها الأستاذ خليل وزوجته إحسان، وقد فرغت جوانبها بعد أن تزوج الأبناء ولم يبقَ سوى الزوجين المسنين، يتشاكسان في الفراغ المحيط بتفاصيل الحياة الصغيرة بعد أن هدأت تفاصيلها الكبيرة من حولهم. سترى بيتا بسيطا تلمح فيه أثرا شاحبا لحياة كانت صاخبة ذات يوم، سترى موت إحسان والفراغ الذي يُطبق على الأستاذ خليل، انتقاله إلى البيت القديم، تفاصيل الوحدة مع الشيخوخة، والأسئلة التي تبزغ فجأة في رأسه ورؤوس أصدقائه بلا إجابات واضحة. اللغة هنا بسيطة بلا زخارف لغوية، تحمل جمالها الكامن بلا صخب، لغة هادئة كهدوء البيوت التي تحكي عنها. يكتب:

"جلس في الصالة وفتح التلفزيون وأمسك بالريموت وجعل الصوت مسموعا بالكاد. وظل ينتقل من محطة ﻷخرى، وقام مشى لغاية المطبخ ولاحظ الثلاجة القديمة، وشرب وانتبه إلى الأشكال البلاستيك المتربة التي كانت زينت بها باب الثلاجة وجوانبها. كانت عناقيد العنب بلونها الأخضر الشفاف والأحمر معلقة في مشاجب صغيرة من السلك المثبتة في شرائح من البلاستيك الملصق بضغط الهواء… وتذكر كيف كان يتصرف عندما يفتح الثلاجة لسبب أو آخر ويقع شيء من هذه الأشياء. كان ينظر إلى الثمرة الملقاة على البلاط ويدفعها بمقدمة حذائه أو شبشبه ويخفيها تحت الثلاجة أو النملية. ثم شعر بالأسى أكثر وتذكر أيضا كيف كان يجلس في الصالة ويلتفت آخر الليل ويراها من باب المطبخ وهي واقفة تعيد تزيين ثلاجتها".

بقايا اليوم: كازو إيشيجورو

undefined

الرواية الفائزة بجائزة البوكر عام 1989 والتي تحوّلت إلى فيلم عام 1993 من بطولة أنتوني هوبكنز وإيما تومسون. تدور الرواية حول مستر ستيفنز رئيس الخدم في أحد القصور العريقة، قصر "دارلنجتون هول"، مستر ستيفنز الذي يقدس عمله كرئيس خدم، ويضحي بكل شيء من أجل تلبية مهام وظيفته والعناية بأدق تفاصيلها ليحافظ على مكانته في سعيه الدائم لكي يكون رئيسَ خدم "عظيما". تنطلق أحداث الرواية من رحلة السيد ستيفنز في إجازته إلى الريف ليقابل زميلته السابقة مس كنتون التي تركت القصر منذ عشرين عاما، بعد فترة من وفاة اللورد دارلنجتون وانتقال القصر إلى ملكية سيد أميركي. في رحلة رغم أنها تستغرق ستة أيام فإن ستيفنز يستعرض خلالها حياته السابقة في رحلة أخرى داخلية، ومن خلال الذاكرة يضع كل شيء موضع المساءلة:

عظمة اللورد الذي خدمه بإخلاص، ومعنى حياته التي انعزل عن كل شيء سوى وظيفته بين جدران هذا القصر المهيب. لقد دارت العديد من الأحداث ذات الخلفية السياسية المهمة بين جدران هذا القصر، تحت سمعه وبصره إلا أنه لم يكن يرى منها شيئا تقريبا، منشغلا بسعيه الحثيث في إتمام مهامه على أكمل وجه. هل يمكن أن نحيا بين جدران نراها ولا نراها؟ على الرغم من ابتعاد مستر ستيفنز في رحلته عن القصر وجدرانه فإنه يظل حاضرا في الحكاية كبطل أساسي شكّلت الأحداث التي دارت بين جدرانه حياة ستيفنز وتاريخه الشخصي. إن البطل كلما كان يبتعد عن القصر، كان يقترب من فهم حياته التي قضاها بين جدرانه.

تدبير منزلي: مارلين روبنسون

undefined

صدرت الرواية عام 1980 وفازت بجائزة "PEN/Hemingway" كأفضل رواية أولى، وفي عام 2003 انضمت لقائمة الغارديان ﻷفضل 100 عمل روائي. البيت هنا هو مركز الرواية، المحور الثابت الوحيد لعائلة آخذة في الزوال. تدور الرواية حول روث ولوسيل، شقيقتان يتيمتان عاشتا مع عدة أجيال من العائلة في منزل الجدة، لتستقر معهما أخيرا الخالة سيلفي، ورغم اعتقادهما أنها لن تبقى طويلا فإن سيلفي تُقرِّر البقاء من أجل الحفاظ على المنزل. فهل تنسجم الحياة بينهم في بيت واحد؟ وهل يبقى البيت كما أرادته سيلفي؟ أم تضطرم النيران فيه؟ البيت هنا ليس مجرد جدران، والتدبير المنزلي لا يقتصر على ترتيب المنزل والعناية به بقدر ما هو إعادة ترتيب الحياة، وخلق "بيت" حقيقي، سكن للروح في وجه الخسارات المتكررة. تكتب روبنسون:

"…فجميع العادات والأنماط والممتلكات التي استقرت حولها، الحوالات الشهرية من المصرف، والبيت الذي عاشت فيه منذ كانت عروسا، والأيكة المليئة بالأعشاب البرية التي تسور الباحة الخارجية من ثلاثة جوانب حيث تسقط كل عام ثمار التفاح والخوخ والمشمش أصغر حجما وأكثر عفونة من العام السابق، كل هذه الأشياء فجأة تصير سائلة، قادرة على اتخاذ أشكال جديدة، وكلها ستنتقل ملكيتها لي وللوسيل. كانت تقول لنا وقد لاحت عليها الجدية والحكمة: فلتبيعا الأيكة، لكن احتفظا بالبيت. ما دمتما تعتنيان بصحتيكما، وتمتلكان السقف الذي يظلّلكما، فأنتما آمنتان بقدر أي إنسان آخر".

الرواية مليئة بالتفاصيل الحميمة، بروائح البيت، ربما لم تقضِ طفولتك في أحد بيوت الغرب الأميركي، لكنّ شيئا ما هنا سيعيد إليك رائحة البيت.

ذهب مع الريح: مارجريت ميتشل

undefined

"ذهب مع الريح" هي الرواية الوحيدة لكاتبتها مارجريت ميتشل، ورغم ذلك فقد عمّت شهرتها الآفاق خاصة بعد تحولها إلى فيلم سينمائي عام 1939 من بطولة النجوم كلارك جيبل وفيفيان لي. الرواية طويلة في أكثر من ألف صفحة من الأحداث المتشابكة أثناء الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب الأميركية، وهي واحدة من أشهر الروايات الأميركية، تحكي حكاية سكارليت أوهارا الفتاة الثرية المدللة التي تعيش في مزرعة تارا في ولاية جورجيا، على خلفية أحداث الحرب الأهلية الأميركية، تتناول الرواية تقلبات حياتها، ودائما تبقى مزرعة تارا هي المركز، منها وإليها تعود سكارليت، تبقى تارا البيت الأول، العماد الرئيسي الذي تبذل سكارليت كل جهودهاللحفاظ عليه، على مدار الأحداث نشاهد الأحداث تتوالى على مزرعة تارا وكأنها شخصية أساسية من شخصيات الرواية.

"كان كل شيء يبدو أخضر نضرا نديا صامتا. وبعث بها منظر حقول القطن دفقا من الفرح والعزاء لقلبها الكليم، فلقد كانت تارا تبدو عند الشروق مكانا محببا، معتنى به، مطمئنا. رغم أن سيدها كان على فراش الموت… غير أن الذي كان يوجد من تلك المزرعة الفخمة الآن كان في حالة جيدة، كما كان من الممكن أن تستصلح الفدادين المتروكة دون زراعة منها عندما تتحسن الظروف، وعندئذ ستكون أكثر خصبا بسبب استراحتها من الإنتاج".

ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان ﻵخر: علاء خالد

undefined

يطالعنا الإهداء في مقدمة الرواية بتصدير البيت: "إلى سلوى.. بيت ذكرياتك هو السبب". رواية مليئة بالحكايات المتتالية والمتشابكة، تمتد على مدار خمسة أجيال، والثابت الوحيد الذي تدور فيه الحكايات هو البيت؛ بيت العائلة بكل ما فيه من تفاصيل، وكل ما شهدته جدرانه من حكايات طويلة. البيت هنا بطل أساسي، والبيوت المجاورة أيضا تظهر وتعيش وكأنها شخصيات أخرى من لحم ودم، ببيت أبو السعود الذي يتتبع الراوي تاريخه منذ سكنته عائلة يهودية وحتى آل إلى أن يُطلق عليه بيت "الأشباح"، وبيت عمو نجيب بحميميته وعشوائيته المحببة. البيوت هنا تحيا حياة ساكنيها، تمتلئ جنباتها بالحياة ثم تشيخ وتكبر معهم. "الحكاية علامة شفاء الراوي"، هكذا عنون الكاتب أحد الفصول، وفي حكايات هذه الرواية شفاء كثير. يكتب علاء خالد:

ترانيم في ظل تمارا: محمد عفيفي

undefined

آخر ما كتب محمد عفيفي وآخر كتاب في هذه القائمة، هذه قطعة من الرقة مكتوبة بلغة شديدة العذوبة، خواطر لرجل يجلس على كرسيه العتيق تحت ظل شجرة في حديقة منزله ويشاركنا خواطره وأفكاره. تفاصيل البيت هنا شديدة الإنسانية، حتى الأشجار لها أسماء تمنحها شخصياتها المميزة، ستتعرف على الشجرة تمارا، والشجرة زهيرة، والكرسي القش الأصفر العتيق، والقطة موني، والفوتيه اللبني الذي كان أزرق. كتاب مؤنس بتفاصيله بلا أحداث صاخبة، بلغة غاية في الرقة والرهافة، ورسوم بديعة لحلمي التوني.

يكتب عفيفي:

"هذا الكرسي محتاج إلى الإصلاح السريع وإلا فسوف أندم، عندما تنكسر ساقه الخلفية فجأة فأجد\ني مستلقيا به على النجيلة الخضراء التي لا تزال مبتلة. فأرجو إذا سقطت ألّا تكون أمينة موجودة ولا جمعة ولا حتى موني، أما الأشجار فلا بأس بالسقوط أمامها ﻷنها لا تضحك، أو على الأقل تعرف كيف تداري ضحكها".