شعار قسم ميدان

"الشيخ والبحر".. كيف يمكن لرواية أن تبرر الاستعمار والهيمنة؟

ميدان - الشيخ والبحر

اضغط للاستماع

   

"كان رجلا عجوزا يصيد السمك وحدَه في قارب عريض في "تيار الخليج"، وكان قد مضى أربعة وثمانون يوما من غير أن يفوز بسمكة واحدة. وفي الأيام الأربعين الأولى كان يصحبه غلام صغير، حتى إذا قضى أربعين يوما من غير أن يوفّق إلى صيد ما، قال والدا الغلام لابنهما أن الشيخ منحوس نحسا لا ريب فيه ولا برء منه، وسألاه أن يعمل في قارب آخر، وفور ما بدأ العمل الجديد ما لبث أن فاز بثلاث سمكات رائعات في الأسبوع الأول. وقد أحزن الغلام أن يرى الشيخ يرجع كل يوم خاليَ الوفاض، فكانَ ما يفتأ يمضي للقائه ويساعده في حمل صنانيره الملتفة أو حربة الصيد، والشراع المطويّ حول السارية. وكان الشراع مرقعا بأكياس دقيق عتيقة، فهو يبدو وقد طُوي على هذه الشاكلة أشبه ما يكون براية الهزيمة السرمدية".

     

كان هذا هو مطلع رواية "الشيخ والبحر" لمؤلفها الأميركي إرنست همنغواي، الذي أفرغ في يوم 2/7/1961 عيارا ناريا في رأسه ليُنهي حياته. وإن كانت هذه تبدو نهاية مأساوية، فقد مثّلت إعلانا لنهاية سلسلة المعاناة والمكابدة التي عايشها طيلة حياته.

 

المُلاحقة المُستمرة

عاش همنغواي طفولة معذبة، كان والده طبيبا ووالدته موسيقية، لكنهما عاملاه بقسوة، راسمين له خطة قاسية من النجاح الذي حرمه من الاستمتاع بطفولته، وهو ما دفع همنغواي للاعتراف أنه يكره والدته. وفي وقت متأخر من عمره كان همنغواي يشكو من ملاحقة "الإف بي آي" الأميركية له، وهو ما فسّره البعض على أنه نابع من إصابته بالبارانويا، ليخوض تجربة العلاج بالصدمة الكهربائية خمس عشرة مرة بناء على نصيحة طبيبه. لكن مصادر أخرى أشارت إلى أن مخاوف همنغواي لم تكن أوهاما، حيث إن "الإف بي آي" كانت تراقب همنغواي لأنه كان مُجندا عند الاستخبارات الروسية[1]!

      

 إرنست همنغواي (مواقع التواصل)
 إرنست همنغواي (مواقع التواصل)

        

يُعتبر إرنست همنغواي من أهم الروائيين والقاصّين الأميركيين، وكان يُلقّب بـ "بابا". وعلى الرغم من شيوع السوداوية في أعماله الأولى، فإنه سعى في رواياته -فيما بعد- للاحتفال بإصرار الإنسان وصلابته في مواجهة الطبيعة. شارك همنغواي في الحرب العالمية الأولى والثانية، وحصل على أوسمة تقديرا له على مشاركته فيهما، وهي تجربة تركت ظلالا على أعماله الأدبية[2].

 

ومن أبرز تلك الأعمال الأدبية هي "الشيخ والبحر"، فهي رواية تحكي معاناة سانتياغو، الرجل الكوبي الذي بلغ من الكبر عتيا. يملك بطل الرواية سانتياغو تاريخا عريقا في صيد السمك، لكنّ شمسَه تأفُلُ ببلوغه سن الشيخوخة، فيسعى إلى إحياء أمجادِ الشباب باصطياد سمكة كبيرة الحجم. يرافق سانتياغو في رحلة الصيد الشاب الكوبي مانولين، حيث يرى مانولين في سانتياغو المعلّم والمرشِد الذي يأخذ بيده ويرشده في خوض غمار البحر واصطياد السمك.

 

يرى النقاد[3] أن رواية "الشيخ والبحر" تتميز بسهولة المفردات والتراكيب مما يجعلها في متناول يد القرّاء من جميع الفئات العمرية، وهو ما قد يُفهم منه أنها لا تحتمل أي قراءة عميقة أو تحليلا يُحمّلها فوق ما تحتمل. لكن كون هذه الرواية من تأليف الروائي الأميركي الشهير إرنست همنغواي، وبلغت من الشهرة ما جعلها في مصاف الأدب الأميركي والتراث الأدبي العالمي، فإن ذلك يدعونا إلى إيلائها قراءة نقدية فاحصة والالتفات لرمزيّتها. فالأدب مرآة الواقع، ولا ينفصل بحال عن السياق السياسي والاقتصادي، وهو وليد الثقافة واللغة التي تنتجه، وهذا ما أثبتته رواية "الشيخ والبحر" كما سنرى.

   

همة عالية وجسد ضعيف

"وكان الشيخ معروقا شاحبا انتشرت في مؤخرة عنقه تجاعيد عميقة، وعلت خديه القروح السمراء الناشئة عن سرطان الجلد علامة بارزة على انعكاس الشمس على صفحة المياه في المناطق الاستوائية. وكانت تلك القروح تغطي وجهه، أما يداه فكان بها ندوب عميقة الغور خلّفتها الحبال التي علقت في أطرافها ضروبا من الأسماك الثقيلة. ولكن أيًّا من هذه الندوب لم يكن غضا. كان كل شيء فيه عجوزا إلا عينيه. فكان لونهما مثل لون البحر مبتهجتين باسلتين".

  

undefined

  

تبدو على سانتياغو آثار التجارب القاسية التي عاصرها في شبابه، فيما كان يمخر عباب البحر باحثا عن لقمة عيشه، فوجهه شاحب، وعنقه تغزوه التجاعيد، والشمس تركت بصماتها على صفحة جلده المتجعد. وفي هذا دلالة على كثافة الخبرات التي يمتلكها سانتياغو ومعرفته الغنية بالبحر والتحديات التي يواجهها البحارون، كما أنه على دراية كافية بأسرار الصيد وأنواع الأسماك والكائنات البحرية كافة.

 

فيرى الناظر بوضوح انتماء الشيخ بجسده المرهق وما يحمل من آمال كبيرة إلى الشعب الكوبي، الذي أرهقته ظروف العيش الصعبة وما زال يأمل في تحسينها. لكن يبدو أن سانتياغو لا يرى في السنّ عائقا أمام سعيه للاستمرار في الصيد وتحقيق مجد يتحدث به القاصي والداني. فالأمل الذي يملأ حنايا سانتياغو ينعكس بريقا في عينيه، وروحا فياضة بالسعي والإصرار تخفف من ثقل جسده المتهالك وتدفعه إلى المسير[4]. لكن هل الإصرار وحده كافٍ لتحقيق أحلام سانتياغو؟

   

كيف ينفع الإصرارُ مَن لا يحالفهُ الحظ؟

"لم يعد يحالفني الحظّ، لكن من يدري؟ ربّما كنت محظوظا اليوم. كل يوم يأتي حاملا معه فرصة جديدة. لا بد من أن يحالفني الحظ. لكن يجدر بي أن أهيأ نفسي، حتى يحالفني الحظّ وأنا على أتمّ الاستعداد"[5].

     

يملأ الإصرار والعزيمة كيان سانتياغو ويدفعه للمُضي قُدما في الصيد برفقة مانولين، الشاب الذي لا يأبَه لتحذيرات والديه ودعوتهم إياه لترك الشيخ الذي يقولان إنه منحوس نحسا لا ريب فيه. لكنّ مهنة الصيد تتطلّب ذهنا حصيفا وكفاءة شحذها محك التجربة، فنرى سانتياغو يعتمد على الحظ وحسب، ويؤمن أن الخسارات التي جناها كانت بسبب حظه السيئ لا غير. وهو ما رآه والدا مانولين نفسه، حين حذّرا ابنهما من مرافقة العجوز سانتياغو إيمانا منهما أن حظه عاثر، وكانا يصفان ابنهما كذلك بأنه "ذو حظ سيئ جدا". وشفقة من الشيخ على الشاب أشار سانتياغو على مانولين أن يبقى مع قارب آخر "يملك حظا كبيرا". لكن مانولين يصر على ملازمة سانتياغو قائلا له: "إن الرقم خمسة وثمانون رقم يجلب الحظ"[6]، فقد فشل سانتياغو في اصطياد سمكة قبل مرور أربعة وثمانين يوما.

   

ولا غرابة أن سانتياغو رجل معدم يملك كوخا متواضعا مصنوعا من سعف شجر الكورانو، ليس فيه إلا غرفة واحدة تملؤها القذارة وسرير وطاولة وكرسي. كما يفتقر منزله إلى الصرف الصحي ومعدات الطبخ، ونجده يفترش الأرض القذرة ليصنع طعامه من السردين أو مما يصطاد من السمك، وهو لا يملك أدنى أساسيات العيش الكريم من كهرباء أو صرف صحي[7]. فأين سينتهي الحال بسانتياغو؟ وهل سيغنم بصيد يستحق الجهد الذي بذله طيلة أربعة وثمانين يوما؟

     

   

نضال ينتهي بهزيمة

"وقال صاحب السطيحة: لقد كانت سمكة عظيمة حقا! إن أحدا لم يرَ مثلها من قبل. وأنتَ أيضا، اصطدتَ أمسِ سمكتَين رائعتين. فقال الغلام: لستُ أبالي بذلك! وأنشأ ينتحب من جديد. وسأله صاحب المقهى: ألا تريد أن تشرب شيئا؟ فقال الغلام: لا. قل لهم ألّا يزعجوا سانتياغو… وأخيرا أفاق الرجل العجوز فقال الغلام: ابق حيث أنت. اشرب هذا. وصب شيئا من القهوة في القدح. وتناول الشيخ القدح وشرب ما فيه. وقال: لقد هزموني يا مانولين. لقد هزموني حقا"[8].

   

هكذا تحكي الرواية أن سانتياغو بعدما قضى أربعة وثمانين يوما دون أن يصطاد سمكة واحدة، يفاجأ بأن سمكة كبيرة جدا التقمت الطعم، ويطير سعادة حين يجد أن سمكة المارلين أكبر سمكة رآها على الإطلاق قد وقعت في شباكه. لكن تأتي الرياح بما لم تشته السفن، فيجد الشيخ مشقة بالغة أثناء محاولته لسحبها ثم تذوق لحمها الذي لطالما حلمَ به. يُحرم سانتياغو من النوم وتتشنج أطرافه ولا يتمكّن من تناول الطعام لأيام طوال، وهو يمنّي نفسه باصطياد سمكة المارلين ليحل مشاكله المادية كافة ويستعيد الانتصارات التي عرفها أيام الشباب.

  

وفي خضمّ هذه المعركة من الشد والجذب يخذله جسده وتتشنج يده ويبدو فاقدا للسيطرة حين تسحبه السمكة، لتنقلب الآية ويغدو سانتياغو صيدا لسمكة المارلين. إلا أن سانتياغو يتمكّن أخيرا من اصطياد السمكة، لكن سرعان ما تنقضّ القروش عليها وتنهشها من كل صوب. يحاول سانتياغو بكل طاقته إبعاد القروش عن غنيمته، لكن المعركة تنتهي بخسارته السمكة التي لم يتبق منها سوى هيكلها، لتتبخّر حينها آماله وأحلامه التي رسمها ويذهب جهده سُدى. فبعد أن وصل الليل بالنهار وعاند جسده المتهالك وغالب أمواج البحر، ثمّ لاح له طيف انتصار بصيد ثمين، تنقضّ القروش وتئدُ انتصارَه في مهده وتسلبُه حلمَهُ.

   

يبدو سانتياغو في مظهر العاجز الخاسر والذي يبني آمالا من سراب ويقضي أياما ساعيا إليها لينتهي به المطافُ منكسرا خاليَ الوفاضِ إلا من قلب كسير، فما الذي يحاول همنغواي الإشارةَ إليه بهذه النهاية المحبطة؟ ومن هو الطرف الآخر الذي هزم سانتياغو؟

      

   

الكوبيون شعب جاهل، وكوبا بلد بحاجة إلى من ينقذها

"يمكن أن يُطلق اسم "إمبراطورية" على أميركا وفقا لتعريف سيسيرو للإمبراطورية الرومانية. يقول سيسيرو إن الإمبراطورية تمتلك حقوقا قانونية تُمكّنها من فرض قوانينها على دول أخرى. وإن نظرنا إلى الولايات المتحدة الأميركية، فسنجد أنها منحت نفسها السلطة القانونية التي تُمكّنها من التدخل في شؤون مختلف الدول في شتى أنحاء العالم. الولايات المتحدة التي تتفوق على العالم بما تملكه من ثروات ضخمة وتاريخ استثنائي، تتخذ موقفا متعاليا من النظام الدولي ولا ترضى أن تنضوي فيه. تمتلك مكانة عليا، تكتب القانون وتتحدث بلسانه"[9].

     

يُعتبر إيرنست همنغواي من أهم الكُتّاب الأميركيين الذين أثروا وشكّلوا "التراث الأدبي الغربي" والتراث الأدبي الأميركي خاصة، ما يعني أنّ مؤلفاته ورواياته، إلى جانب غيره من الكُتّاب الغربيين، تعبّر عن وجدان الشعب الأميركي وآماله وطموحاته ونظرته للعالم والدول الأخرى[10]. وحين نقرأ رواية همنغواي "الشيخ والبحر" للمرة الأولى نظن أنها تحكي إصرار رجل كوبي عجوز يسعى لكسب قوت يومه واستعادة بطولات الشباب، لكن قراءة متأنية وناقدة للخطاب الاستشراقي تكشف عن نفس استعماري متعالٍ يظهر بين طيات الرواية، يسيل فيها لعاب الأميركي، متمثّلا في المؤلف همنغواي، وهو يتأمل في خيرات البلد الجار كوبا. فيرى همنغواي "كوبا" على أنها بلد مليء بالخيرات، لكنها في أيدي شعب ضعيف وغير قادر على استثمار تلك الخيرات، ومن هنا، يجب أن تؤول تلك الخيرات إلى من هم قادرون على استثمارها أفضل استثمار. وبهذا تخلق الرؤية الأميركية حجتها للتدخل في شؤون أراضٍ خارج حدودها مدّعية أنها تسعى لتحسين أوضاع الشعوب المعيشية ومساعدتهم في استثمار خيارات بلادهم والنهضة بها[11].

   

تدور أحداث رواية "الشيخ والبحر" حول تجربة الإمبراطورية الأميركية خارج أراضيها، والثروات التي يضمها البحر في كوبا بمختلف مخلوقاته وشتى الألوان. هذه الصورة ليست من منظور أديب أميركي يحكي قصة عن بلد خارج بلاده، بل من منظور القوة الإمبريالية التي تمتلك اقتصادا ضخما وتاريخا زاخرا يؤهّلانها لامتلاك مكانة مهيمنة في العالم. وتضمّ إمبراطورية الأميركي الأبيض المسيحي هذه بين جنبيها معظم أصقاع الكرة الأرضية، كما تضمّ عددا لا حصر له من المستعمرات والأعراق، التي تراها تابعا وضيعا أدنى مكانة من شعبها، والتي ينتمي بعض شعوبها للعرق الأبيض من سكان أستراليا[12].

 

وهذا ما نبه إليه المفكّر إدوارد سعيد من قبل، حين أشار إلى أن الاستعمار يستخدم الأدب كوسيلة للهيمنة على مستعمَراتِه. وقد ساهم في ترسيخ هذه الصورة أدباء تحدثوا باسم الإمبراطورية الأوروبية والأميركية في النصوص الأدبية، ليرسموا صورة مغلوطة تتضمن ثنائية المستعمِر الذي يُمثّل الحضارة والتفوق في مقابل المستعمَر الذي لا يملك أي مقوّمات تؤهله ليبني حضارة ونهضة في بلاده. لكنه يضيف أيضا أن الأمم المستعمَرَة يمكنها أن ترد على هذه الرؤية بالكتابة، وأن توصل صوتها عبر أدبها الذي يعبّر عن هويتها الأصيلة وتُراثِها الخالد[13].

  

كتب هذه الرواية خلال سنوات الحرب الباردة التي كانت الولايات المتحدة تسعى خلالها لضبط نفوذ الاتحاد السوفييتي في كوبا، والنفوذ الشيوعي في فيتنام
كتب هذه الرواية خلال سنوات الحرب الباردة التي كانت الولايات المتحدة تسعى خلالها لضبط نفوذ الاتحاد السوفييتي في كوبا، والنفوذ الشيوعي في فيتنام
   

من هنا، يمكن أن نرى رواية "الشيخ والبحر" كغيرها من نصوص الأدب الأميركي، تتحدث عن المسؤولية التي تتحملها الولايات المتحدة في فرض القانون عبر أنحاء العالم، تحت اسم "إرساء السلام"، وهو أمر لا يتمّ إلا على يدي الولايات المتحدة الأميركية وتحت إشرافها كما قال وزير الخارجية الأميركي روسك. وبهذا تضع الولايات المتحدة اسم "الصالح الدولي" لفرض قوانين تخص التنمية الاقتصادية والتسليح عبر أنحاء العالم[14].

 

وجدير بالذكر أن همنغواي كتب هذه الرواية خلال سنوات الحرب الباردة التي كانت الولايات المتحدة تسعى خلالها لضبط نفوذ الاتحاد السوفييتي في كوبا، والنفوذ الشيوعي في فيتنام، وللتدخل في شؤون البرازيل. حين تدخلت بشكل مباشر ومعلن في شؤون دول أميركا الوسطى والجنوبية، ودعمت محاولات الانقلابات فيها وعبثت بأمن تلك الدول. وهو ما يستدعي إعادة قراءة الأدب الأميركي قراءة نقدية لكشف الخطاب الذي يزيّف الحقائق والتاريخ، ويسيء إلى دول العالَم الثالث[15].

 

وفي ضوء هذه القراءة، يمكن أن نعيد فهم الرموز التي استخدمها همنغواي في روايته، فنجد أن سانتياغو ومانولين يُمثّلان الشعب الكوبي بطيفيه، الأطفال والشيوخ، وهو يسعى لبناء كوبا والنهضة بها. كما يرمز البحر إلى الاقتصاد الكوبي الذي أرهقه تدخل الولايات المتحدة ودعمها للانقلابات وتأجيجها لنيران الصراعات الداخلية. أما الشعب الكوبي فيتجسد في سانتياغو، ببساطته ومعاناته من الأمية ومن ظروف معيشية سيئة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة.

 

يستغرق همنغواي في رسم صورة للرجل الكوبيّ تتسم بالجهل والسذاجة والافتقار والعيش، ويصف معاناة الكوبيين سانتياغو ومانولين في السعي لتحسين ظروف حياتهما لاستعادة قوة الاقتصاد الكوبي. ثم يختم الرواية بهزيمة الكوبي غير المتعلم والساذج أمام القرش، أو الرجل الأميركي الذي يفوقه بما يملكه من مال وسلاح، ويخطف منه خيرات كوبا المتمثّلة في سمكة المانولين. ويدعم هذا التفسير للرواية حقيقة إقامة همنغواي في كوبا في الفترة التي كتب فيها الرواية، قبل اضطراب العلاقات الكوبية الأميركية.

   

"الشيخ والبحر" وهمنغواي

undefined

  

"قبل أن يترك الأديب الأميركي إرنست همنغواي الحياة منتحرا عام 1961 في الولايات المتحدة، وفي أثناء ذروة الحرب الباردة بين الإمبراطورية الأميركية الصاعدة بقوة وبين الاتحاد السوفيتي المنافس القوي والأخير للإمبراطورية الأميركية، اختار همنغواي دعم الولايات الأميركية وترك كوبا التي أقام فيها في 1960 بعد عام من سقوط باتيستا بعدما دعمت أميركا ثورة كاسترو".

  

كتب همنغواي روايته في وقت كانت تدعم فيه الولايات المتحدة ثورة كاسترو على أمل أن تتمكّن من بسط يدها على مواردها الطبيعية. وبالنظر في الصورة التي يرسمها همنغواي للشعب الكوبي، يبدو أنه يلومه على ما آلت إليه أموره من جهل وفقر مدقع، متجاهلا مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية في هذا، نتيجة لتدخلها في شؤون كوبا الداخلية والعبث بسلامها وأمنها[16]. وليس مصادفة أن نجد تشابها ما بين أحداث الرواية التي نُشرت عام 1952 وبين الأحداث التي وقعت في كوبا خلال تلك الفترة. فقد كان همنغواي يقيم في كوبا في تلك الفترة، حين قررت الولايات المتحدة الأميركية التدخل في كوبا، بعد هزيمة إسبانيا فيها عبر دعم عدد من الحركات الثورية لإحكام سيطرتها عليها.

 

مما سبق، وبالنظر إلى السياق الاجتماعي والسياسي لصدور رواية "الشيخ والبحر"، يتبيّن كيف لعبت تلك الرواية دورا في الترويج للخطاب الإمبريالي الأميركي، لبسط سيطرة الولايات المتحدة على مستعمراتها، وذلك برسم صورة مغلوطة عن الشعب الكوبي في أدبياتها. إذ تصف أبناء المستعمرين الأصليين باعتبارهم همجا وجهلة وغير متحضرين وأغبياء وكُسالى، لتمدّ جسرا عبر هزيمتهم النفسية يُمكّنها من بسط سيطرتها عليهم وعلى بلادهم والهيمنة على ثرواتهم. وإعادة قراءة أدبيات القوى الإمبريالية وتفكيكها هي الخطوة الأولى لمحاولة للتحرر الفكري والثقافي وفهم كيف تشكّلت صورة العالم الحالي.

المصدر : الجزيرة