عالم المسنين المظلم.. هكذا حكت لنا الرواية اليابانية تفاصيله
وجوه بقسمات ثقيلة، وكثير من التجاعيد، عيون تنظر في خفوت، حيث استحال البياض فيها إلى صفار، حواس قد أخذت في النضوب، وظهور قد تقوّست وانحنت، وذاكرة تستدعي الموتى أكثر من الأحياء، أما الشعر المُتباهى به أصبح ذيلا أبيض مدلى، والمشية صارت أكثر بطئا لأصوات لها حفيف خاص، يد مرتعشة لا تقوى على حمل كوب من الماء، وحبوب الدواء رفيقهم المخلص.
يجِدُ فيهم البعض دفء العناق ومرفأ الأمان، الوتد والجذور والأصل الباقي الممتد، ويرى فيهم البعض الآخر النفور الشديد، فيعدّونهم عبئا على الزمان، عبئا على قوى العمل والإنتاج والإحصاء، فهم رسالة الموت المقترب، سنوات العجز والانتظار. إنهم الكهول والعجائز، الماضي حينما يختزن ويتكاثر حتى يُحيل كل لحظات الحاضر إلى ماضٍ متراكم، فلا يراهم أحد سوى في صورة الماضي المتجسد، لأن الحاضر أضحى أكثر وهنا من جرأة الاعتراف به، والمستقبل لا يبشر بجديد، فما هو سوى صفحة النهاية المطوية قبلا، تتحين الفرصة لإعلانها كبرقية عزاء.
أعمارهم فوق الستين، عاداتنا القديمة، الإبريق، يد الهون، الأطباق الدائرة بين الجيران، الإخوة المجتمعون حول مائدة طعام دائما ما يكون له رائحة مميزة ونكهة لا تتغير أبدا كتلك الأشياء التي في حوزة العجائز، فالعجائز عادة يمتلكون أشياء لا تتبدل كثيرا ولم تعد في حوزة أحد، مثل صندوق خشبي قديم، بضعة أطباق من الصاج ذات الورود الحمراء المقشرة بفعل تعرية الزمن، الأدراج المثيرة للاكتشاف، تذكارات من حياة طويلة. عالم المسنين الخاص، أشياؤهم الباقية ومشاعرهم المتباينة، سنخوض رحلة معه من خلال الروايات الأدبية، فكثير من الروايات نقلت لنا عالم المسنين بكل ما فيه من بطء الحركة ودفئها، وتناقض الشعور وصفاء المودة، والحب المقدم على عتبات النهاية، حب الشيخوخة غير المُقدر، وأساطير الخلاص وحكايات الخرف.
سنبدأ رحلتنا من أدب اليابان، والاختيار هنا ليس مصادفة، حيث تُمثّل الشيخوخة هاجسا كبيرا حملته الأساطير اليابانية ومدنها وحياة الشعب بأكمله حتى لحظتنا هذه، فصار هناك عيد للمسنين في اليوم الثالث من شهر سبتمبر/أيلول، وثمة حي تجاري بطوكيو لا تطؤه سوى أقدام العجائز، وكأن أرضه قد مهدت بحنو لتستوعب بطء خطواتهم، تباع فيه بضائعهم التقليدية، الباعة والمشترون جميعهم من المسنين، إنه حي سوغامو ملتقى كبار السن بالعاصمة اليابانية.
فمعظم من يرتادون هذا الحي في سن الستين والسبعين، وبعدما تنتهي رحلة الشراء يقصد المسنون معابد بوذا الموجودة بالحي، ليشكروا الرب على نعمة الصحة والمال، ويمسحوا بالمياه على موضع الألم، فثمة اعتقاد أو خرافة بأنك إذا صليت لبوذا ومسحت موضع الألم الذي تشعر به سيزول.
من أشهر الروايات التي تناولت الأساطير اليابانية عن الكهولة رواية "ناراياما" للكاتب والسينمائي الياباني شيتشيرو فوكازاوا (1914-1987)، وقد تحولت إلى فيلم "قصة من ناراياما" للمخرج شوهي ايمامورا، وحصل الفيلم على جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان عام 1983، فنالت الرواية شهرة كبيرة على إثره.
تدور الرواية حول إحدى الأساطير اليابانية التي تقضي بأن كل عجوز بلغ السبعين يصعد جبل "ناراياما" المقدس، ولكنها رحلة شاقة، قد يموت ويفقد هناك في الصقيع أو يتهاوى بين الوديان. ومن هؤلاء العجائز أورن، المرأة التي بلغت 69 عاما وما زالت أسنانها قوية، وقادرة على إعالة أفراد أسرتها وأحفادها الأربعة بعد موت زوجة ابنها الوحيد "تابي"، فقد توفيت زوجة تابي أثناء جمع الكستناء من أحد المنحدرات.
يطلق عليها أهل القرية العجوز الشمطاء، ويشعورنها بالعار لأنها ما زالت تمتلك 33 سنا من الأسنان، كانت أورن تعتز بأسنانها أيام شبابها، أما الآن فإنها تخجل منها لأنها توحي بإمكانها التهام كل شيء في وقت يعاني الجميع من ندرة الغذاء، فحطمت أسنانها بحجر ليكون مظهرها دالا على تقدمها في العمر قبل رحلتها إلى ناراياما. ولم تخض أورن رحلة صعود الجبل بعد، فقد كانت شديدة القلق على عائلتها، فما أن أتت أرملة شابة من القرى المجاورة -حسبما تقتضي طقوس الزواج في هذه القرية- إلى بيتهم، لتتزوج من ابنها وترعى أحفادها، بالفعل، بدأت أورن تعلم الزوجة الجديدة كل خبراتها السابقة في الحصاد وإعداد الطعام، وأسرار الصيد، وكيفية رعاية الأطفال.
وجاءت رحلة الصعود إلى ناراياما، فأتى تابي باللوح الخشبي وحملها على ظهره، لتبدأ رحلتهما الشاقة، التي لا يجوز لها أن تبادله الحديث فيها، اجتازا أربعة جبال وكثيرا من المستنقعات حتى وصلا إلى قمة الجبل، وفي القمة رأوا جثثا تملؤها الغربان، بعدما مزقت بطنها واتخذت منه عشا. وكان تابي يزداد رعبا كلما صعد وازداد عدد الغربان وازدادت العظام البيضاء تناثرا كالثلج حولهما، وكذلك العجوز أورن وإن بدت أكثر صلابة من ابنها، لشدة اعتقادها في التقاليد.
فأخذت العجوز تتلو صلواتها، ودفعت ابنها ليتركها ويرحل، وعندما هبط تابي نزل الثلج، فانتشر الخبر في القرية، فرأوا -حينذاك- أن أورن عجوز سعيدة، فأنشدوا: "عندما يبدأ الثلج بالتساقط سيتحرر من الآلام". ولكن ثمة رجل عجوز آخر تعيس، هو جارهم المسن، الذي رفض صارخا صعود الجبل، بينما يوثقه ابنه بالحبال، وحينما لا يحتمل صراخه، يرميه بين الجبال، فتحوم حوله الغربان. (1)
تشير أروى صالح إلى هذا التقليد الياباني في إحدى رسائلها، فتقول:
"بأحس بإن العواجيز سبة في وجه الحياة، وبافتكر حاجة بشعة سمعتها عن تقليد ياباني، إن الناس لما تعجز تأخد قليل جدا من الزاد، وتطلع على قمة جبل، تستنى الموت فيه! غصب عني ابتديت أشوف فيها فكرة! وابتدت تداعبني فكرة أني لما أوصل لمرحلة معينة من العجز انتحر"
تذكر أروى ذلك في سياق حديثها عن عجزها عن فهم مشاعر نفورها من المسنين، نفور يصل إلى درجة شعورها بالاشمئزاز! فقد كان يجاورها بالغرفة المقابلة لها رجل مسن يصيبها بإحساس ممرض بالنفور، جعلها تتساءل ما الذي يمكن أن يفقده شخص كهذا بالموت، على الأقل سيتخلص من الشعور بالمهانة حينما يساعده الآخرون في قضاء حاجته. (2) تكشف أروى عن مشاعر سلبية تجاه العجز ذاته، وتعري رواية ناراياما جهل التقاليد وقسوتها ضد العجائز، قد تفسر هذه الرواية اندفاع بعض المسنين في اليابان إلى الانتحار، كرواسب لتلك الأساطير، فتبدو ثقافة الانتحار أكثر أصالة مما قد يعتبره البعض خرقا للقانون البشري.
وتفسر أسطورة ناراياما كذلك بعض الحكايات التي تبدو غريبة عن المسنين في اليابان، كحكاية ناسافومي ناغاساكي البالغ من العمر 82 عاما. سافر ناغاساكي إلى جزيرة معزولة بمنطقة أوكيناوا سنة 1989، ليُمضي بها 29 سنة بمفرده تماما، وحينما تعرضت الجزيرة إلى عاصفة، فقد ثيابه، وظل يتجول عاريا، حتى عُثر عليه مصادفة، فأجبرته الحكومة على المكوث بمأوى للمسنين، رفض ناغاساكي الحديث عن حياته الماضية، كل ما ذكره أنه عمل مصورا وكان له زوجة وأبناء، مؤكدا أن سنوات عزلته في الجزيرة أفضل سنوات عمره، لا يزعجه أحد من البشر، هو والطبيعة الهادئة فقط.
حينما تحدث ماركيز عن الكتاب اليابانيين الكبار، كان أكثر ما لفت نظره هو أنهم ينتحرون، وسمى هذه الظاهرة "عبادة الموت عند الكتاب اليابانيين"، ومن هؤلاء الكتاب اليابانيين المنتحرين الكاتب ياسوناري كاواباتا (11 يونيو/حزيران 1899) الذي حصل على جائزة نوبل في 1968.
كتب كاواباتا عن الشيخوخة بصورة أكثر عمقا، كمن خبرها واقترب منها، ولم يكتف بنقل مشاعر من يشاهدها فحسب، فإن كان كاواباتا في كل أعماله مراقبا للحياة الهشة والضجر الذي تمتلئ به، فإنه في روايته "الجميلات النائمات" كان أكثر قربا من بطلها العجوز إيغوشي. اقترب كاواباتا من عالم الشيخوخة في سن صغيرة، فقد عاش حتى سن الخامسة عشرة مع جده العجوز الأعمى بعد وفاة والديه وأخته وجدته صغيرا. ونشر كاواباتا روايته "الجميلات النائمات" في 1926، تلك الرواية اليابانية التي قال ماركيز إنه تمنى لو كان كاتبها. (3)
تحكي الرواية عن منزل غريب في ضواحي طوكيو لا يقصده سوى المسنين، يدفعون المال ليقضوا الليل إلى جانب فتاة مراهقة نائمة، تنام تحت تأثير مخدر قوي، فلا تنتبه إلى وجودها بجوار رجل عجوز. لا تستقبل مضيفة المنزل سوى المسنين، لأنهم زبائن لا يجلبون المتاعب بحسب وصفها، يدخل الكهول الغرفة السرية بالبيت ذات الألوان الداكنة والإضاءة الخافتة، تبدو وكأنها معبد الكاهنات، هؤلاء الكاهنات هن الجميلات النائمات أو الدمى الحية، لتصبح متعة المسنين الوحيدة هي المكوث المتأمل في جمالهم النائم استعادة لوهم الشباب وحيويتهم الضائعة، وخوض مغامرة مأمونة العواقب.
أما العجوز إيغوشي يختلف عن كل الكهول، فقد أمضى خمس ليال بالغرفة السرية، لا يستعيد في ذاكرته سوى الماضي: أمه والنساء اللاتي عرفهن في سنوات حياته الماضية. لم يقنع إيغوشي كغيره من المسنين المترددين على المنزل بالمتعة الناجمة عن الشيخوخة وهي إمكانية الحلم إلى جانبهن، فقد كان يشعر بكثير من الاضطراب، فقد كان إيغوشي في مواجهة هول الشيخوخة في هذا المنزل.
"إن الشتاء خطير على الشيوخ، المسنون ينامون باكرا ويستيقظون مبكرا"، تردد مضيفة البيت -البطلة الوحيدة اليقظة في الرواية- مثل هذه العبارات على مسامع إيغوشي، فيزداد غضبا، فلم يكن راضيا بأن يجاور دمى حية، لا تشعر بوجوده ولا تستمع لحديثه، فيخبر مضيفة المنزل في أحد حوارته معها:
"- أنا أرغب في الحديث مع شبح؟
= عن ماذا، أرجوك؟
– عن شيخوخة الإنسان المحزنة مثلا".(4)
المراهقات النائمات في الرواية هن رمز الحياة المتدفقة، ولكنها حياة خامدة في حالة سبات تام، فالحياة حاضرة في أنفاس الفتيات، ولكنهن غائبات عن الوعي. كأن سنوات الانتظار الأخيرة في حياة المسنين تتحول إلى خرس تام. يشعر المسنون في هذا المنزل الغريب بمتعة القرب ومرارة العجز في الآن نفسه، فقد جعل كاواباتا عذرية الفتيات في مقابل فظاعة الشيخوخة. تتحول أحلام إيغوشي في الرواية إلى أحاديث مع ماضيه وذكرياته، فهذه الأحلام لا تمثل حنينه إلى الماضي ولكنها حنين للحياة ذاتها.
أزمة العجوز إيغوشي هي كما وصف نفسه أنه رجل عجوز عادي جدا يحدث له أن يسقط في فراغ الوحدة وقرف العزلة، ولا يتمنى سوى أن يكون موته مثيرا للفضول، حتى وإن أثار السخرية والعار معا، لذلك يخبر مضيفة المنزل: "أليس الموت المفاجئ في حرارة جسد شاب في ليلة باردة كهذه هو النعيم المنشود لرجل عجوز".(5)
يروي ماركيز أنه في إحدى مرات سفره، جلست بجوار مقعده بالطائرة فتاة جميلة نائمة، لم تستيقظ طوال ساعات الرحلة، فأخذ يتأمل الشيء الوحيد اليقظ فيها: ظلال الأحلام العابرة فوق جبينها. وحينما نزل من الطائرة، سجل ماركيز نفسه في بطاقة المطار "كاتب ياباني" مشيرا إلى كاواباتا وروايته "الجميلات النائمات".
فقد استلهم ماركيز روايته "ذاكرة غانياتي الحزينات" من رواية "الجميلات النائمات"، وجعل ماركيز بطل روايته كاتبا صحفيا متوسط الموهبة في التسعين من العمر، يقع في الحب للمرة الأولى في هذه السن، فقد أحب مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها، تعمل في مصنع للأزرار في إحدى الضواحي الفقيرة، يخبرها يا طفلتي أنا وأنتِ وحيدان في العالم.
يسمي الصحافي العجوز الطفلة ديلجادينا، ويشتري لها دراجة تذهب بها إلى عملها بدلا من دراجتها المتهالكة، وأثناء شرائه الدراجة يجرب ركوبها ويغني في الشارع، فتتهلل الناس فرحا ويصيحون تشجيعا له، وتتحول مقالاته من مجرد أثر معماري لماضٍ عتيق إلى قصائد حب، فكتب يوم الدراجة مقالا بعنوان "كيف تكون سعيدا على الدراجة وأنت في التسعين".
تتعلم المراهقة القراءة من دروسه المكتوبة على المرآة، وأخذ العجوز يقرأ لها الأمير الصغير، وحكايات بيرالوت والتاريخ المقدس وألف ليلة وليلة في طبعتها المنقحة للأطفال، ويلاحظ أن نومها يختلف درجة عمقه طبقا لاهتمامها بما يقرأ لها، فقد أحال الحب العجوز في التسعين إلى شخص آخر، فيقول: الحب علمني متأخرا جدا أن الواحد منا يهتم بهندامه من أجل شخص ما، ويرتدي ملابسه، ويتعطر من أجل شخص ما، وأنا لم يكن لي أبدا شخص. (6) إمكانية الحب في سن الشيخوخة هو ما ود ماركيز مناقشته في روايته "ذاكرة غانياتي الحزينات"، وكان حب الشيخوخة المتأخر كذلك هو محور رواية "العاشق الياباني" للروائية التشيلية إلزابيل الليندي، التي أجادت اختيار جنسية بطلها، ليصبح يابانيا.
تؤكد الليندي في حوار لها أن رواية "العاشق الياباني" بدأت كخيط روائي حينما عرفت قصة إحدى صديقات أمها في الثمانين من العمر التي أحبت يابانيا، وهذا ما تدور حوله أحداث الرواية: قصة حب بين سيدة في الثمانين تُدعى ألما وعاشق ياباني من الجيل الثاني من المهاجرين اليابانيين للولايات المتحدة، لتؤكد عكس ما قاله تشيخوف في روايته القصيرة "القبلة". فقد أقر تشيخوف في روايته "القبلة" بجملة قصيرة ولكنها حاسمة وجادة بأن العجائز لا يذهبن إلى المواعيد الغرامية، لكن رواية "العاشق الياباني" لا تقول ذلك، فألما السيدة البرجوازية ذات الثمانين عاما تذهب للمواعيد الغرامية.
وللمفارقة، فإن مشاعر الضابط بطل رواية تشيخوف تجسد مشاعر المسنين حينما يحظون بالحب في سن الشيخوخة، ففي "القبلة" نجد الضابط الخجول المتعثر والمرتبك دائما قد ضل طريقه في الحفلة التي دعيت لها سرية الجيش، فدخل إحدى الغرف المظلمة، ليجد فتاة تربت على جبينه وتعطيه قبلة وتذهب، ويظل طيلة الرواية منتشيا، وسط كل مأساة حياته بتلك اللحظة التي حظي بها بقبلة غير مقصود بها، فظل أثرها على وجهه طويلا كبرودة النعناع. (7) كل حب يتدفق في سن متأخرة يشبه شعور بطل تشيخوف بهذه القبلة، فيعيش حياته رهن هذه اللحظة، غير موقن بأنها قد تحدث مرة أخرى، هذا الارتباك تجاه الاحتياج العاطفي ليس له وزن عند الحديث عن المسنين.
حياة العجائز والكهول في اليابان مادة خصبة للعمل الروائي والسينمائي، ففي "قصة طوكيو" للمخرج الياباني أوزو الذي احتل المركز الثالث في قائمة أفضل مئة فيلم، يحكي الفيلم رحلة زوجين إلى مدينة طوكيو حيث يقيم أولادهما، ولكن يرجعان إلى قريتهما بكثير من الأسى والحزن، فلم يكن لأولادهما وقت ليمضوه معهما، فشعرا أنهما غريبان وعبء ثقيل على أبنائهما، لم يعتن بهما سوى أرملة ابنهما، كان صعبا على الأم إدراك ذلك، فبدأت تحتضر بعد عودتها مباشرة، حضر ابنها الطبيب الجنازة وغادر مسرعا، وكان يتمنى أن تقضي نحبها حتى لا يضطر للعودة مرة أخرى.
ورغم ذلك، فالأدب لا ينقل سوى مساحة ضئيلة من أزمة الشيخوخة في اليابان، فتشير الإحصائيات إلى أن اليابان بها أعلى نسبة سكان ممن تزيد أعمارهم على 65 عاما. عادة ما يكون ارتفاع الأعمار دلالة على عافية المجتمع، ولكن في اليابان أصبحت الشيخوخة عبئا، فتنفق الدولة ما يقارب ربع موازنتها على رعاية المسنين. ويعاني 4.6 مليون شخص شكلا من أشكال الخرف، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم إلى نحو 7.3 مليون شخص. لتصل أعداد المصابين بالخرف المفقودين في اليابان إلى مستويات حرجة، فقد بلغ عددهم ما يزيد على 15 ألف مسن مفقود خلال 2016، بزيادة قدرها أكثر من 25% عن العام الأسبق.
ومن المتوقع أن يكون ما بين كل خمسة يابانيين عجوز فوق الـ65 مع عام 2025، ويذكر أن سوق حفاضات الكبار تسجل نموا سنويا بنسبة 6-10%. ونجد حالات في الستين تقوم برعاية آبائهم في الثمانين والتسعين، وثمة تقنيات تخترع إنسانا آليا لرعاية المسنين، ومن الأخبار الغريبة أن ثمة مسنين يابانيين يرتكبون الجريمة لدوافع مختلفة تماما، إذ إنهم يرغبون في دخول السجن حيث رفقة تؤنس وحدتهم ومعاش آمن أكثر من الخارج، فضلا عن توفر الرعاية الصحية لهم بداخل السجون. يروي أحد المسنين اليابانيين أنه رفع سكينا على سيدة لا ليؤذيها أو يقتلها، ولكن ليدفعها لترسل إليه الشرطة، وتصبح السرقة هي الجريمة الأشهر بين المسنين، لأن حياة خلف القضبان أفضل مما هي خارجه.