شعار قسم ميدان

أشباح السجون الملهمة.. كيف للمعاناة أن تخلق الجمال؟

ميدان - لوحة "تريّض السجناء"، فان جوخ
اضغط للاستماع

   

تبدو الحياة ببراح سمائها واتساع أرضها كالنعيم المشتهى لهم، أولئك القابعون في غرف ذليلة، يتعاقب عليهم الليل والنهار وهم وحيدون في ظلمات تحبس أنفاسهم وتُقيِّد حريتهم، وحيدون رغم زيارات الأحلام ومؤانسات الوعود الطيبة بأن سراحهم سيُطلق يوما ما من هذه السجون الموحشة. يحكي السجناء عن ألم ذي طعم مرير، وحدهم ذاقوا عذابه، ونحن، مَن نعيش في رفاهية الحياة الحُرَّة لا نعرف هذه المعاناة عين المعرفة إلا من حكايات خلف قضبان السجن المعتمة يرويها أشخاص يَصِمُهم التاريخ بأنهم سجناء.

  

أجساد معلقة بالهزيمة

تكدّست سجون الاعتقال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، واختار الكثير من المعتقلين فعل الكتابة ليكون الشاهد على تجربتهم السرية التي لن يعرف مَن بالخارج تفاصيلها، واجتمعت الكتابات على الألم والتعذيب، وبين اليوميات والسير الذاتية وقصائد الشعر تتراقص كلماتهم كأنها حلم مشوّش في معركة متصلة مع ظلمة الحبس. يُصنِّف النقاد هذا المنتج الأدبي بـ "أدب السجون"، أو كما أطلقت عليه رضوى عاشور "كتابات السجن". في واحدة من أوراقها البحثية تتبع رضوى رحلة هذه الكتابات وتخلص إلى هيكل بنائي سردي سارت عليه معظم كتابات السجن، يبدأ باليد التي تقبض على المعتقل لتقذف به في العتمة، ثم استحضار تفصيلي لتجربة السجن وعلاقة السجين بمحيطه الضيق، وفي النهاية ينتهي الحال بخروج السجين إلى الفضاء الأوسع كالمولود في لحظاته الأولى في حياة تفتح له ذراعيها شوقا[1]. يستدعي كل كاتب من ذاكرته المراحل الثلاثة تلك ليبدأ مرحلة الكتابة، أو لِنُسمِّها التعافي بالكتابة.

        

الانتقام يقتل الأحلام الوردية

undefined

   

أي كتابة ذاتية تجعل السجين المعذَّب بطلا لا يُقهر هي في واقع الأمر قاصرة ومريضة، هكذا يرى سعد زهران أدب السجون في مقدمة مذكراته "الأوردي: مذكرات سجين" -التي يوثّق فيها تجربته كشيوعي في سجن أبوزعبل في مرحلة العهد الناصري- لأن الأدب الذي يُسطِّر لنا حقائق التجربة النضالية لا بد أن يُعبِّر بدقة عن منابعه[2].

  

"ربما يكون المسجونون السياسيون، في ظلام الحبس وآلام العذاب، هم أكثر الحالمين بالجنة على الأرض، وأكثر الناس تمنيًا لجميع البشر بالسعادة والهناء والمحبة… لكن ماذا يبقى من الإنسان بعد أن يقضي سنوات طويلة من أزهى سنوات العمر يأكل أشياء تعافها الكلاب الضالة؟"

(سعد زهران)

  

لم يكتفِ سعد بسرد تجربة ذاتية أدبية عن الاعتقال والتعذيب، بل تضافرت في مذكراته الحكايات ورائحة الحبس مع الفلسفة الخفية لما وراء السجن والسجانين في محاولة لفهم تلك المنظومة الباطشة، وما خلّفته التجربة من تشويه وجداني وتنامٍ للروح الانتقامية بدلا من الأحلام الوردية للمناضلين المعتقلين. خلص سعد إلى أن التعذيب لم يكن هدفه الوحيد انتزاع الاعترافات -كما هي الصورة التي طبعتها الأفلام في الأذهان-، لكن التعذيب كان مدروسا وممنهجا ليُحطِّم أجساد المعتقلين ويقوّض طاقاتهم الذهنية والروحية، إنه إفساد وعطب لا يهدف إلى القتل، بل إن القتل المعنوي هو البوابة الأولى التي تتفتح بعدها أبواب الكُفر بكل قيم وانتماءات وأيدلوجيات سابقة، وستنتهي إلى أن يسلّم السجين قدره إلى سجانه. يتماس الشعور بسطوة الجلاد والإيمان به بعد فترة بما حدث في رواية "1984" التي كتبها جورج أورويل في الأربعينيات حيث وضعنا أمام عالم خيالي ذي سمات واقعية نتتبع فيه "وينستون" البطل المتمرّد على سطوة التوليتارية والذي ينتهي به الحال إلى الإيمان التام بها بعد أن تعرّض لضغط التعذيب وانتهى به الحال أن قناعاته دمّرها بيده، أصبح مؤمنا بأن 2 + 2 = 5 فقط لأن الحكومة أخبرته بذلك.

    

رواية 1984 لـ
رواية 1984 لـ "جورج أورويل" (مواقع التواصل)

    

إذا تتبعنا تاريخ التعذيب البشري فسنجد أنه لم يكن فعلا مستهجنا، بل وسيلة للتأديب تبدو مألوفة في الجنس البشري ومقبولة في سياقات عدة كالتقاضي، والعقاب، وأداة للتطهير عن طريق غرس الألم في الجسد البشري مما أكسبها شرعية بين الجماهير. وعلى مدار العصور وتعاقب الأعوام تجلّى التعذيب في رداء السلطة الأبوية، تلك التي تقمع معارضيها وتتسلح بالتعذيب كأداة إذلال اكتسبت بشكل غير مفهوم صبغة الشرعية وأضحت أمرا مباحا فقط لأنها طوع السلطة الأبوية الكبرى[3].

     

أشباح السجن الملهمة

"كان المعتقل هو الرحم الكبيرة التي نضجت فيها كل المذاهب والتيارات"

(أحمد رائف)

  

كانوا يُعتَقَلون فقط لأنهم إخوان مسلمون، هكذا يردد الضابط على أسماعهم، كان الانتماء إلى أي تيار عدا الناصرية هو جريمة تستبيحك للتعذيب، وإذا كنت إخوانيا فالأمر أكثر صعوبة. في "البوابة السوداء" يسرد الكاتب الإسلامي أحمد رائف أيام المعتقل ولياليه، وتتنوع فصول الكتاب بين ذكريات الإهانة والتعذيب وجلسات تبادل أطراف الحديث مع زملاء الاعتقال، كان الإخوان المسلمون في السجون الناصرية تنفصل زنازينهم عن الشيوعيين، فتحوّل السجن إلى حلقات مغلقة تجمع أبناء التيار الواحد معا ليتناولوا معا الأفكار وفتات الطعام. "استعاد الناس حيويتهم ونشاطهم وعلموا أن المستقبل لهم، وأن الناس ينتظرون جهادهم ليُخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد".

  

ارتكزت كتابة رائف على رسوخ قوة الإيمان في نفوس معتقلي الإخوان، وأن المحنة لم تزدهم إلا ثباتا وتمسّكا ونضجا للحلم الأوحد وهو واجبهم الإسلامي المقدس الذي ينشدون افتراشه على أرض الواقع، خارج ساحة السجن. في أطروحة لـ"كريستيان تسيسكا" عن الكتابات الإسلامية حول تجربة السجون والاعتقال يضع كريستيان "البوابة السوداء" في مقدمة تيار الأدب الإسلامي ويصدر أحمد رائف في قائمة الكتابة الطوباوية التي تتأمل وضع المجتمع من خلال الخيال الأدبي، وأن تجربة الاعتقال ألهبت مخيلة رائف ككاتب وأديب، وهو ما عاونه في كتابة مذكراته وتأليف مسرحية "البُعد الخامس" التي كتبها في المعتقل وأطلق خياله ليصوغ كل إسقاطات الواقع المهزوم على حياة مُتخيَّلة بالكامل في كوكب المريخ [4].

    

بعد ما يقرب من أربعين عاما يكتب صنع الله إبراهيم رواية
بعد ما يقرب من أربعين عاما يكتب صنع الله إبراهيم رواية "يوميات الواحات" ليفرد لنا يومياته الحقيقية في المعتقل التي تُجسِّد خواطره التي كانت تُحلِّق بعيدا خلف قضبان الحبس
  
الكتابة واكتشافات النفس

"كيف يمكن أن نكتب عن أمور لا نعرفها؟!"، قالها صنع الله إبراهيم بنبرة تعجّب في حديثه عن مساحات الخيال عند الأديب[5]. لا ينفصل صنع الله بحال عن واقعه، وفي المرة الأولى التي قرر فيها أن يُمسك بالقلم ليكتب لم يجد سوى الواقع ينسكب منه في الحروف والكلمات، كان هذا عام 1959، هناك، في عتمة المعتقل.

                                                             

"كنت في السجن بواسطة نظام أؤيده تأييدا كاملا"

(صنع الله إبراهيم)

  

"كان السجن أهم تجربة في حياتي"، هكذا يصف صنع الله إبراهيم السجن بمنأى عن مفردات الألم، ثم يحكي أنه أتم العشرين من عمره عندما تم اقتياده إلى سجن أبو زعبل، يتذكر ساعات التعذيب الذي تعرّض له هو ورفاقه في قضية شهدي عطية، ويحكي عن وفاة شهدي من فرط التعذيب، ويسرد في هدوء محطات رحلته الداخلية في البحث عن نفسه، وبين قسوة الاعتقال والرغبة في التعبير عن الواقع والحقيقة بدأت محاولاته في الكتابة، يقول: "عندما تحسّنت الظروف أصبح هناك تهريب للورق والكراسات"، حينها بدأ صنع الله في تدوين يوميات صغيرة تمحورت سطورها حول الكتابة كفكرة ومنهجية، كان فعل الكتابة هو المساحة الوحيدة التي حدّق فيها ليرى انعكاس صورته عند سكون الزنازين[6].

  

بعد مرور ما يقرب من ستين عاما سُئل صنع الله إبراهيم: "لماذا تكتب؟"، فأجاب أن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يُجيد صنعه، وهذه القصاصات الصغيرة التي أفرغ فيها أفكاره ومشاعره داخل السجن كانت بوابته لعبوره ساحة الكتابة الأدبية، ليتصدّر اسمه بعد أعوام ليست بالكثيرة بوابة أدب السجون المصري، ولتكون البداية مع بطل روايته الأولى "تلك الرائحة" الذي يعكس ظلال صنع الله المنكسرة تحت الشمس.

   

رواية
رواية "يوميات الواحات" (مواقع التواصل)

     

اختار صنع الله أن ينسلخ جسده عن كتاباته، تاركا مشاعره الحائرة نصب عينه تتلبّس شخصياته الخيالية وتحتل أفكارهم، من هنا صنع أجسادا متخيلة في رواياته لكنها جزء أصيل من تجربته الذاتية في سجون الاعتقال وسجون الحياة، هنا استمدت شخصياته الروائية قوانينها من قوانين جسد صنع الله صاحب التجربة كأنه ساحة فنية تتسع لهم، والجسر الواصل بين آلام التجربة ومسارها الأدبي، لتخبرنا شيئا من الحقيقة بالكثير من المجازات. لم تتطرق الرواية إلى تجربة السجن والتعذيب، لكنها تقتفي أثر البطل الذي خرج لتوّه من المعتقل ليدور في شوارع المدينة بلا هوية كأنه عاد للحياة، لكنه بعد ما يقرب من أربعين عاما يكتب رواية "يوميات الواحات" ليفرد لنا يومياته الحقيقية في المعتقل التي تُجسِّد خواطره التي كانت تُحلِّق بعيدا خلف قضبان الحبس.

  

"أمرونا نحن الأربعة أن نجلس القرفصاء في جانب ونضع رؤوسنا في الأرض، ففعلنا، ثم أمرونا أن نرفع رؤوسنا بحيث نرى ما يجري لزملائنا، وتتابعوا أمامنا يجرّدون من ملابسهم وهم يُضربون ويترنحون عرايا وهم يلهثون ويُغمى عليهم فيغمسون في مياه ترعة صغيرة ويُداسون بالأقدام"

(صنع الله إبراهيم، يوميات الواحات)

   

تصف رضوى عاشور أدب السجون كفعل مقاومة وتطهير نفسي. فتلك الأجساد التي صرخت دون أن يُصدر صوتها أي صدى يمكنها الآن أن تصرخ في الكلمات
تصف رضوى عاشور أدب السجون كفعل مقاومة وتطهير نفسي. فتلك الأجساد التي صرخت دون أن يُصدر صوتها أي صدى يمكنها الآن أن تصرخ في الكلمات

   

الصمت محكمة وأنا المتهم

كما تفعل الرياضة في أجسادنا تفعل الكتابة في ذواتنا، تُدرِّبنا على مواجهة أنفسنا والإصغاء لأصواتنا الداخلية كأمٍّ تُصغي إلى وحي، هكذا يصف جمال علي الخلاق في كتابه "فن الإصغاء إلى الذات" أثر الكتابة علينا وأنها تدوين الإصغاء للذات، ولا يأتي فعل الكتابة إلا بعد التشبّع بالتجربة أيًّا كانت قسوتها، وفي خضم حديثنا عن أدب السجون الكاشف لما تعرّض له الكاتب من مهانة، تأتي الكتابة كرد فعل على الانتهاك والألم، يقول إن التعذيب هو تقنية للإعدام بالتمزيق الدقيق للهوية من خلال مزيج من العنف الجسماني والمعنوي فتنكمش الهوية، والكتابة هنا هي المتنفس الأخير الذي تنجو به الذات من التيه الأبدي، الكتابة تعلق أخير بالحياة.

   

إنه الانتصار المعنوي المُتمثِّل في الكتابة نفسها، هكذا تصف رضوى عاشور أدب السجون كفعل مقاومة وتطهير نفسي، هو من جهة لا ينفصل بحال عن تغيير مسارات الماضي بكشف وجهه القبيح بفضح السلطات القامعة، ومن جهة أخرى هو دفاع بليغ عن النفس التي اختارت الكتابة عن التجربة للتوثيق والتغيير، تلك الأجساد التي صرخت دون أن يُصدر صوتها أي صدى يمكنها الآن أن تصرخ في الكلمات، أن تنتفض عبر الأوراق المطوية، أن تفتح الأبواب المغلقة على مصراعيها لتخبر العالم أنه هناك، في عتمة السجون، اختبرنا الألم، والموت، وتجربة ما زالت آثارها محفورة على أجسادنا، وعلى صفحات من تاريخ الأدب.

المصدر : الجزيرة