رواية "حضرة المحترم".. كيف رسمت عبقرية نجيب محفوظ عبودية الموظف؟
اضغط للاستماع
يختلف نجيب محفوظ عن عباس محمود العقاد في كثير من الأشياء، منها موقفهما من مكانة القصة والرواية مقارنة بالشعر، فحينما كتب العقاد مقالا يُعلي فيه من شأن الشعر مهاجما القصة، ذاك الجنس الأدبي الذي أخذ في الانتشار آنذاك، تطوّع نجيب محفوظ -الأديب الشاب الذي كان يخطو أولى خطواته نحو الشهرة في عالم الكتابة- بالرد عليه بمقالة نُشرت في مجلة الرسالة سبتمبر/أيلول 1945. يحكي نجيب محفوظ أن رده على مقال العقاد كان ضعيفا، ولكنه حمد الله على عدم رد العقاد عليه، فالعقاد معروف بحدّته وصلابته، وإن شئت المزيد من الوضوح فقل ببذاءته عند الدفاع عن آرائه، وربما لم يجد العقاد في كلام محفوظ ما يستحق الرد، أو كان محفوظ مغمورا للحد الذي لم يكن قد سمع به العقاد من قبل، فلم يلتفت لمقاله ذاك.
ولكن ثمة أمر آخر تعارض فيه العقاد ومحفوظ، وهو موقفهما من الوظيفة الحكومية. فبينما مقت العقاد الوظيفة الحكومية واستقال منها، وكتب في عام 1907 مقالا بعنوان "الاستخدام رق القرن العشرين" مفتخرا بكونه -فيما يُرجح- أول موظف مصري يستقيل من وظيفة حكومية بمحض اختياره، فالمصريون يعدون الاستقالة من الوظيفة الحكومية انتحارا، بل إن الاستقالة -آنذاك- أندر حدوثا من الانتحار. كانت استقالة العقاد تحريرا له من عبودية الوظيفة، بينما استمر نجيب محفوظ في العمل كموظف حكومي لمدة 37 عاما، فقد عمل محفوظ موظفا في "وزارة المعارف" (1934-1939)، ثم في وزارة الأوقاف (1939-1957)، ووزارة الثقافة (1957-1971)[1].
ساعدت الوظيفة نجيب محفوظ على العمل على الكتابة بشكل روتيني منتظم يوميا، وساعد الأدب محفوظا على الخروج قليلا من قيد اللغة الرسمية للأوراق الحكومية، فيذكر أنه حينما طلب إجازة اعتيادية، كتب محفوظ طلب الإجازة كالآتي:
"السيد الأستاذ وكيل وزارة الثقافة والإرشاد القومي.. تحية طيبة وبعد.. فأتشرف بأن أرجو الموافقة على منحي إجازتي الاعتيادية. قانعا منها بالمدة من 12 / 9 / 1959 إلى 1 / 10 / 1959 مراعاة للفترة التي قضيتها في رحلة يوغسلافيا"
ولكن أكثر ما قدَّمته الوظيفة الحكومية لنجيب محفوظ هي نماذج أبطال بعض رواياته، فقد نقل محفوظ عالم الوظيفة في كثير من أعماله الروائية مثل شخصية أحمد عاكف في رواية "خان الخليلي"، أما نموذج الموظف الأكثر اكتمالا كان في رواية "حضرة المحترم"؛ التي تصل إلى الذروة في تجسيدها غير المسبوق لنفسية الموظف وملامح عالم الموظفين في الواقع المصري. فقد كتب محفوظ رواية "حضرة المحترم" بعدما خرج على المعاش عام 1975 ليُمثِّل فيها عصارة السبعة والثلاثين عاما في أروقة الحكومة، وليحوِّل الوظيفة من عمل إداري إلى فلسفة محكية من خلال البطل التراجيدي عثمان بيومي "حضرة المحترم".
رحلة حضرة المحترم عثمان بيومي من الدرجة الثامنة حتى الدرجة الأولى في معبد الوظيفة
تدور أحداث رواية "حضرة المحترم" حول شخصية الموظف عثمان بيومي؛ يأتي عثمان بيومي من أصول متواضعة، فقد نشأ في حارة فقيرة لأب عمل كسائق عربة كارو، دوما ما رأى عثمان بيومي أن أصله الوضيع سيفارقه بعمله المقدس في أروقة الحكومة. بدأ عثمان كموظف في الدرجة الثامنة في سجل المحفوظات وترقّى في السلم الوظيفي حتى بلغ الدرجة الأولى، وظل يراوده حلم الوصول لمنصب المدير العام بعدما أفنى جهده وكل كفاءته في خدمة الوظيفة.
نرى في هذه الرواية كيف أصبحت الوظيفة وجهاز الدولة آلهة العصر الحديث، والموظف المؤمن بالترقي على طريق الوظيفة المقدس راهب متبتّل في معبد الوظيفة لخدمة الدولة. وفي رحلة عثمان بيومي التراجيدية تجد تناقضات كثيرة في شخصية الموظف الحكومي، فيقول محفوظ على لسان عثمان بيومي:
"الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محاربا أو سياسيا أو تاجرا أو صانعا أو بحارا فهو في مصر الموظف"[2]، مضيفا: "إن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ، وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفا مُعيَّنا من قِبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية. ووادينا وادي الفلاحين الطيبين يحنون الهامات نحو أرضٍ طيبة، ولكن رؤوسهم ترتفع في سلك الوظائف، حينذاك يتطلعون إلى فوق، إلى سلم الدرجات المتصاعد حتى أعتاب الآلهة في السماء. الوظيفة خدمة للناس، وحق للكفاءة، وواجبة للضمير الحي، وكبرياء للذات البشرية، وعبادة لله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء"[3]
تُمثِّل الفقرات السابقة رؤية عثمان بيومي الوجودية للوظيفة الحكومية، فالأسئلة الوجودية مثل مَن أكون؟ وما غاية الوجود؟ ولِمَ وُجدت على الأرض؟ تتمثَّل إجاباتها عند عثمان بيومي في التدرّج في طريق الوظيفة المقدس، ويُمضي سنوات عمره راجيا أن يكون عمله الحكومي والتزامه الكفء بوظيفته في معبد الدولة شفيعا له في الآخرة، فيتساءل بيومي قائلا:
"هل يستطيع الإنسان في يوم الحساب أن يُقدِّم خيرا من طموحه النبيل وعمله وتقدمه الثابت مسجلا بالخدمات التي أدّاها للدولة والناس؟"
فهو يرى أن الدولة هي معبد الله على الأرض وبقدر اجتهادنا فيها تتقرر مكانتنا في الدنيا والآخرة[4]. لذلك كان مدار حياة عثمان بيومي وأمنيته الأبدية هي الوصول لمرتبة القربان الأعلى، أن يكون هو المدير، حتى يُعلن إيمانه التام حينذاك مُتِمًّا كل أركان هذا الطريق المقدس، وكأن الوظيفة سلك رهبنة أبدية. فطالما تمنى أن يكون صاحب السعادة المدير مالك الحجرة الزرقاء، مرجع الفتاوى والأوامر الإدارية وملهم التوجيهات الرشيدة للإدارة الحكيمة وقضاء مصالح العباد، وعبدا من عباد الله القادرين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مُتمنِّيا أن يُتمَّ الله نعمته عليه يوم يتمكّن من القيام بممارسة السلطان وإعلاء شأنه في الأرض[5].
وحينما ترقّى عثمان بيومي كوكيل إدارة عاهد الله أن يسجل في رئاسته للإدارة تاريخا حافلا بالعلم والذكاء والفتاوى الخالدة، وأن يُثبت للجميع أن الوظيفة عمل مقدس وخدمة إنسانية وعبادة بكل معنى الكلمة. وقرر أن يتعاون مع المدير العام، لأن التعاون مع المدير العام طقس من طقوس العبادة في العمل، وأنه لم يخن واجبه الوظيفي أبدا، بل قرر أن يغطي ضعف خبرات المدير، ويقدم له ما هو في حاجة إليه[6].
نرى من خلال شخصية عثمان بيومي كيف أن الدولة كمُختَرع بشري تحوَّلت إلى مُقدَّس مُنزَّل برغم كل التناقضات التي تحتويها، إلا أن بيومي يعبدها بكل هذه التناقضات ويفهمها؛ فحينما بلغ درجة من المهنية والعلم بكل القواعد الحكومية ألَّف كتابا عن القانون الوظيفي، فلم يسخط على قواعد الوظيفة المُقدسة التي لا تُلبِّي قيما كالمساواة، فيتفق على أن ثمة وظائف كالوزير ووكيل الوزارة لا يمكن أن يتولّاها لوضاعة أصوله الاجتماعية وتدنّي مستواه الطبقي، ولكنه مُتمسّك بحقه في ألا يُمنع من ترقيته في درجة مدير عام، فتلك الدرجة متاحة لعوام الشعب مثله. فلا يُدين عثمان عدم مساواة الفرص، ولكنه حينما يُمنع من ترقّي درجة المدير العام رغم كفاءته وإخلاصه الوظيفي لصالح آخرين أقل كفاءة لحسابات النسب والطبقة والمصاهرة والمحسوبية فإنه يرى ذلك خللا في الميثاق الأخلاقي للدولة المقدسة، فيقول:
"لست كغيري من الموظفين، والحيلولة بيني وبين الوظيفة التي أستحقها عمل دنيء فيه اعتداء صارخ على النظام الأخلاقي للدولة"[7]
يرى عثمان بيومي أن الوظيفة المقدسة قد رفعته من مستواه وبيئته المدنسة، التي لم يرَ فيها إلا كل احتقار وفقر، وحينما قارن بينه وبين قدرية، تلك السيدة التي عملت في البغاء وكان يتردد عليها منذ فترة شبابه حتى تزوّجها كهلا، وجد أن كليهما نشأ في البيئة الفقيرة نفسها، ولكن قدرية لم تأخذ طريقه المقدس فذهبت لطريق الإدمان والبغاء وشرب الخمر، ولم تعد تصلح للحياة، فكانت طيلة حياتها في تعاسة، فهي قبل أن تتزوج عثمان بيومي كانت تعيسة دون أن تدري في حيها الفقير، وصارت تعيسة بوعي تام حينما تزوجت عثمان بيومي وترقّت إلى منزلة طبقية أعلى في حي أفضل سكنيا، ولكن في فراغ تام، بلا جيرة ولا صحبة ولا انغماس في عمل للبحث عن لقمة العيش، فكانت تمض كل فراغها في الإدمان أو الإفراط في تناول الطعام حتى صارت موضع الرثاء والسخرية معا.
ولا يتوقف تقديس عثمان بيومي للوظيفة الحكومية لأنها رفعته من مكانة اجتماعية أدنى إلى مرتبة أعلى، فلم يلقَ مصير قدرية نفسه، ولكنها قناعة مزروعة بداخله، فتقديس الوظيفة تقديس لوجوده العبثي الذي لم يجد له معنى سوى التدرّج في كادر الحكومة، ويتضح ذلك في حواره مع راضية (تلك الموظفة الصغيرة التي تزوجها حينما كبر سنه ولم يأمل من قدرية نفعا) حينما تسأله: "ألست تغالي في تقديرك للوظيفة؟"، فيجيبها بأن الوظيفة حجر في بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله المجسدة على الأرض[8].
وفي حواره مع حمزة السويفي مديره السابق يؤكد عثمان بيومي هذه القدسية الإلهية للدولة والوظيفة، حينما دار بينهما الحوار التالي:
- حمزة السويفي: السعادة هي غاية الإنسان في هذه الحياة.
- فقال عثمان بازدراء باطني: لو كان الأمر كذلك لما سمح سبحانه بخروج أبينا آدم من الجنة.
- إذن ما الهدف في الحياة في ظنك؟
- الطريق المقدس.
- وما الطريق المقدس؟
- هو طريق المجد أو تحقيق الألوهية على الأرض.
- فتساءل حمزة بدهشة: أتطمح حقا إلى السيادة على الأرض؟
- ليس ذلك بالدقة، ولكن في كل موضع يوجد مركز إلهي[9]. ومن الواضح أن طريق المجد هو الوظيفة، وأن الترقي بها تحقيق السيادة على الأرض.
ويؤكد بيومي هذا المعنى في موضع آخر في الرواية حين يذكر أن الوظيفة تحقيق كلمة الله في الدولة المقدسة، وفي الوقت نفسه يصف الموظفين الذين يقومون بتصرفاته نفسها التي كان يقوم بها أنهم قطيع تافه في مراعي التعاسة، يعلقون الآمال على الأحلام لضعف نفوسهم ولتهافت إيمانهم وجهلهم أن الوحدة عبادة[10]. وتزدخر الرواية بكثير من الشواهد على قدسية الوظيفة، منها مشاهد وصف مكتب المدير العام في نظر عثمان بيومي، فيجعل من المدير إلها أرضيا، وحجرته هي حضرته المصونة، فيصفها بقوله:
"سقفها الأبيض الأملس، ونجفتها الكريستال، وجدرانها المورقة، مدفأتها الموشاة بالقرميد، بساطها الأزرق الذي لم يتخيل إمكان وجود بساط في طوله وعرضه، وطاولة الاجتماعات ذات الغطاء الأخضر، والمكتب المتصدر بأرجله الغليظة الملتوية وسطحه البلوري، وتحفه الفضية من أوراق ومحابر وأقلام وساعة وسومان وعلبة خشبية للسجائر من خان الخليلي"
ويواصل وصفه لوجوده في حضرة المدير، قائلا:
"وتهيأت فرصة لاستراق النظر إلى المدير السعيد وهو مستقر فوق مقعده الكبير، وجه حليق وطربوش غامق الإحمرار، ورائحته الزكية، وهالة الصحة التي تطوقه، تَحَفُّظه المهيب الذي يجعل صداقته مطلبا عزيز المنال"[11]
فالطريق للوظيفة هو الطريق المقدس، والحجرة هي الحجرة العصماء، لذا عمد إلى التقرب من المديرين وتقديم المساعدات لهم كقرابين التودد إليهم في هذا الطريق المقدس، وحرص على مناداتهم بالألقاب السامية مثل سعادة المدير، والانحناء عند الخروج من حضرتهم كأنهم أولياء مقدسون في الأرض.
لذلك كرّس بيومي جهده ووقته بلا مقابل لأجل التقرب من المديرين، فنجد عثمان بيومي يُعطي دورسَ تقوية لابن المدير في اللغة الإنجليزية بلا مقابل، وذلك حتى يجد فرصة ويقابل أيًّا من بناته، ولكن لم يجد في البيت سوى الذكور، ولم يَرْقَ هذا التصرف لمرتبة تجعل سعادة المدير يسهّل له طرق الحصول على ترقية. وحينما عرض على عثمان بيومي وظيفة مترجم للغتين بمرتب أعلى نظير خروجه من الكادر العام رفض، ولم يقبل إلا أن يرقى للدرجة السادسة بخسارة قدرها 10 جنيهات من الراتب[14]. وحينما أسند إليه لجنة عمل مشروع الموازنة "كرّس كل قواه حتى يبرز كاملا للوجود بلا هفوة"[15]، وهذا تعبير صريح على أن الوظيفة عمله الوجودي.
ولأن الوظيفة مقدسة فإنها كالديانات تفرض على عبادها شرائع معينة، وقوانين تصبح بمنزلة تعاليم إلهية، وهكذا كان عثمان بيومي يسعى ليحافظ على ملف خدمته، ذلك الملف الذي يشبه سجل ملائكة الخير والشر للإنسان، فيحاول ألا ينتهكه بفعل المحرمات الوظيفية أو المقتضيات الأخلاقية التي لا تسمح بها الوظيفة كسلوك للموظف، فيُخفي علاقته بقدرية وشربه للخمر كل أسبوع لديها والجريمة الأخلاقية التي ارتكبها في حق أصيلة، كل ذلك كان أشد حرصا على ألّا يكون مُدوَّنا في ملفه الخدمي. لذلك يُعبِّر في أحد حوارته عن تقييمه، فيقول: ألم يخبرك الملف الإداري بشيء غير طيب؟
فالوظيفة هي المُشرِّع الأخلاقي لأفعاله، لذلك حينما قرر أن يتزوج من قدرية شعر بأنه تخلَّص من كل الآثام، ولكنه كان زواجا ممّن تساعده على الترقي الوظيفي فحسب، فهي زيجة مطلوبة كقربان لأجل الكادر المقدس، فحينذاك يصبح الزواج سلاحا لا عيب فيه يقاوم به الموظف تيار الزمن المتدفق بلا رحمة، لأن عمره الفعلي أسرع مما يسير به عمر ترقّيه الوظيفي، فأفعاله ورغباته يتحكم فيها شرائع عمله الوظيفي.
ثمن العبادة المقدسة
ضحّى بيومي بكل ما قد يمنح حياته معنى من أجل الوظيفة؛ فضحّى بالحب وبحياته الأسرية، فلم يتزوج السيدة التي أحبها من صغره، وضحّى بحب أنيسة رمضان، وسَخّر حياته وصحته لأجل التدرّج الوظيفي، فبحسب تعبيره على فراش المرض: المؤمن الحقيقي لا يسعد بالصحة وحدها، أي إنه مستعد للتضحية بصحته لأجل عمله. وحينما بحث عن فرصة للزواج بحث عن مصاهرة سيدة لها عائلة تُعينه على اقتصار طريق الترقي الوظيفي، وكان مبررا في سياق إيمانه الوجودي بالعمل الحكومي.
وليس كل موظفي الحكومة مثل نموذج عثمان بيومي، فقد وُجد كثير من المديرين الذين كانت الوظيفة لديهم وسيلة كسب لإعالة أُسَرهم وتحقيق حد الستر والكفاف عند البعض، أو الترقي الاجتماعي والطبقي لدى البعض الآخر، ولكن لم تكن الوظيفة والترقي بها في ذاتها غاية وجود كما كانت لدى عثمان بيومي.
ظل عثمان بيومي مفتقدا إلى الأُنس وإلى الحياة نفسها، فلم يكن له صداقات حقيقية أو علاقات وروابط أصيلة، وكأن كل فراغ في حياة عثمان بيومي قد امتلأ بتوهّم قداسة الوظيفة، فكان إيمانه بالوظيفة نابعا من احتقار لخواء روحه وفراغه في الوقت نفسه.
لذلك نجد في مشاهد أخرى في الرواية حينما يخاطب عثمان بيومي نفسه، وخاصة عند لحظات موت أحد الموظفين، فالموت لحظة فرقان وكشف للحقيقة والزيف، يجد أن التراتبية الوظيفية لم تجعله مميزا عند الموت، ولم تشفع له وظيفته حينما ينتهي وجوده على الأرض. فيرى في هذه اللحظات نفسه مجرد كهل ذي منبت حقير وموظف كفء يشغل درجة وكيل إدارة، وأن إيمانه بالدولة والوظيفة ما هو إلا لكونه شخصا وحيدا متعاليا على الضعف البشري، نصيبه من الدنيا حجرة عارية (وهذا مجاز عن قدرية الباغية نصف الزنجية) ودرجة وكيل إدارة. لذلك فرح عثمان بيومي حينما اشترى قبرا وتزوج قدرية، فقد صار صاحب أسرة ومالك قبر، مبتهجا بأن قبره تدخله أشعة الشمس وليس قبرا من قبور الصدقات التي تختلط بها عظام الموتى كحال والديه.
لينتهي مصيره إلى لحظة تراجيدية مأساوية حينما يبلغ المرتبة الإيمانية المقدسة التي طالما تمنّى الوصول إليها، فقد وصله خبر ترقيته إلى مدير عام بينما هو على فراش الموت، لديه زوجة تعيسة مدمنة وزوجة أخرى موظفة صغيرة طامعة، ولم يستطع أن يتزوج مبكرا وينجب طفلا يحمل نسله ويحمله مع الحياة الحقيقة، فهذه النهاية كانت رحلة كشف بأن ما أضاع حياته فيه لم يكن سوى وهم القدسية للوظيفة الحكومية، ولكن من محاسن المصادفات أن القبر الجديد قد حاز رضاه تحت ضوء الشمس.
رواية "حضرة المحترم" تُثبت أن عباس العقاد ونجيب محفوظ قد اتفقا في أمر، وهو أن الوظيفة الحكومية عبودية القرن العشرين، ولكن اختلفا في أن ثمة مَن أخلصوا العبادة لهذا الإله، وثمة مَن رفض وذهب يبحث عن إله آخر.