وليد سيف.. تعرف على كاتب "التغريبة الفلسطينية" و"مسلسل عمر"

midan - waleed saif
اضغط للاستماع
     

 "يلا يا علي! هاي المنطقة خطرة وممنوعة، يعني شو بطلعلنا من القعدة غير زيادة الهمّ عالهمّ؟"

"يعني هاي الإشارة بتقسّم البلاد؟ صوتي بوصل وراها! ومع ذلك …

ومع ذلك بتقدرش تخطي وراها ولا خطوة وحدة!"[1][2][3] 

           

لم يكن عليّ ابن أبو أحمد في "التغريبة الفلسطينية" يتحدث كشخصية مُتخيلة مجردة عن الواقع، بل تحدث معبرا عن بعض مما عايشه كاتب النص واختبره في حياته؛ وليد سيف الأديب والمؤلف الدرامي الذي ولد عام النكبة، ليشيّد روايته شاهدا عليها ومشهودا فيها، مستدعيا الماضي في ضوء الحاضر، ومظللا عليها بمراجعات فكرية لتجارب الحياة التي صيغت بحِبر النكبة والثورة والحب.

    

             

مسلسل عمر بن الخطاب، التغريبة الفلسطينية، ثلاثية الأندلس، صلاح الدين الأيوبي، أعمال درامية كتبها وليد سيف ووثق فيها سيرة حياة مدينة أو بطل أو حتى طاغية، فكان النص الأدبي فيها بطلا آخر فرض نفسه على حس المشاهد وعقله، فنرى الكثير من المهتمين بالأدب يقتبسون بعض نصوص أعماله الدرامية لإسقاط دلالاتها على مواقف أو مشاهد اجتماعية أو سياسية، إلى أن استقر قلم سيف على صفحة عمُره، كاتبا سيرة حياته في "الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية"، ليتمكن قارئ هذه السيرة من رؤية أبطال الأعمال الدرامية تسبح في فضاء شخصيته وشخصيات مرّت في حياته خلال سبعين عاما.

 

       

المخيم.. من اللامكان إلى البطولة

لا تخلو مشاهد "التغريبة الفلسطينية" من محاكاة لما عايشه الكاتب وسمعه من أهل المخيم رغم أنه لم يكن من أهله؛ فوالده الذي أحب أن ينتقل من قرية "ذنابة" إلى أطراف مدينة طولكرم للبحث عن الهدوء بعيدا عن ضوضاء القرية، وجد امتداد النكبة ناصبا أعمدة المخيم بعد زمن قصير في الشارع المجاور لبيته الجديد. ليمضي سيف مراحل الطفولة والشباب الأول في الشارع المحاذي لمخيم طولكرم، متخذا من أبنائه أصحابا، ومن زقاقه مرتعا للطفولة، رافضا كل التحذيرات بالابتعاد عن ذلك المجتمع الذي تشكل بفعل الحرب، متمردا على تنبيهات الأهل والأصحاب بعدم مخالطتهم، مرددين خطابا تحذيريا مفاده "إياك ومخالطة أبناء المخيم فتفسد أخلاقك"[2].

    

هكذا تشكلت ملامح التمرد الأولى في شخصية وليد سيف، والتي امتدت لتصبح مرتكزا لشخصيته، رافضا الأعراف التي لا يجد لها سندا منطقيا، ومكافحا في سبيل تجاوز الأُطر الاجتماعية التي تسعى لرسم صورة الأفراد على شاكلة المجموع. بذلك، وفي رحلة تواصله مع أهل المخيم، خطّ وليد سيف صفحة التمرد الأولى في مجلد حياته، ساعيا لرسم معالم شخصيته الخاصة، والتي تجسدت في مواقفه العملية، وكتاباته الشخصية، وأعماله الدرامية اللاحقة.

  

"بين المخيم وأهل المدينة مسافة بطول مسافة العودة"، هكذا شبّه الكاتب الفجوة العميقة بين أهل المخيم والعالم المحيط بهم. حيث انتقد سيف "الوصمة" التي أُلصقت بهم جراء ظروف عديدة برزت في وقت مبكر من تشكل المخيمات، يرجع معظمها إلى حياة الفقر والتشرد، فصّلها سيف قائلا: "تزاحم السكان في حيز المخيم الضيق، وتلاصق البيوت الواطئة، والافتقار إلى الخصوصية، وانعدام الخدمات العامة والتنظيم العمراني وحرية الإنسان في اختيار جيرانه، وضغوط الفقر والجوع والتشرد، كان من شأنها جميعا أن تخلق فرص التنازع والتدافع والتدابر والتشاحن والشجار، وهذه بدورها أسهمت في التأسيس للصورة النمطية الظالمة للمخيم وأهله".

       

   

وهذا المعنى هو ما أكّده غاري يانغ عن الأشخاص الذين تدفعهم الظروف إلى سلوكيات استثنائية بقوله: "من الأرجح أن يكونوا ضحايا الجريمة لا مرتكبيها"[3]. إنهم أشخاص -في الغالب- كان لهم شأن وكِيان في قراهم ومدنهم، لهم أملاك وجاه ومناصب ومجتمع له امتداده التاريخي والثقافي، لكن احتلال ديارهم نقلهم إلى المجهول، أي إلى المكان الذي تَولّد منه شعورهم الداخلي باللجوء، ولينتقلوا بذلك إلى العيش على الهامش عوضا عن المركز الذي انتموا إليه يوما، "فهم على ضوء موقعهم الجديد المؤقت دائما، والذي يفصلهم عن أهل البلد المضيف بحجاب خفي منيع من الشك والكراهية" بحسب زيغمونت باومان[4]

    

ورغم ما ذكره سيف عمّا أنتجته ظروف المخيم من صورة سلبية، يذكر من خلال تجربته في المخيم ومع أهله أنه لولا ما جُبل عليه هؤلاء الناس من "قيم دينية وأخلاق القرية" رغم اختلاف مشاربهم لكانت المشاكل الاجتماعية التي نشأت جراء التهجير أعظم بكثير، فتحولوا إلى عشيرة واحدة تتبادل الأفراح والأتراح بشكل فطري عفوي. وكأن الكاتب هنا يُضمر في ثنايا كلامه اعتذارا عن "إثم" النظرة الظالمة للمخيم معتقدا أن الاعتراف بالإثم تطهر منه. لكنه يرجعنا إلى عقلانية الوصف بجعل المخيم مكانا كسائر الأمكنة: "ليس المخيم وطن الملائكة، ولا وطن الشياطين، شأنه في ذلك شأن سائر الأمكنة والبيئات، إنما هو كغيره موطن للبشر! وكفى بذلك مدحا [4] وكفى به ذما!".

    

انعكاسات الروح في واحة الأدب

ولأن السير الذاتية تتضمن في الغالب اعترافات أصحابها، يعترف وليد سيف أن أعماله الدرامية لا تكاد تخلو من بعض القصص والأحداث التي عاشها، أو أنه أحيانا يجد في شخصية تاريخية مثلا جزءا من شخصيته، فيلبس هذه لتلك، لتخرج توليفة درامية تمزج بين الماضي والحاضر. 

    

في مسلسل صلاح الدين الذي كتبه وليد سيف وأخرجه المخرج السوري حاتم علي وأُنتج عام 2001، ينحاز فيه الكاتب إلى علاقة العم بابن أخيه؛ فسلط الضوء على علاقة صلاح الدين بعمه شيركوه وكيف فضله على كثير من الأقرباء وقدمه للحكم والقيادة[5]، وقد أعطى روايته التاريخية للعلاقة روحا من علاقته الخاصة جدا مع عمه محمود إبراهيم، فهو العم والأخ والصاحب والقدوة.

    

   

لم يكتفِ سيف باستحضار قبس من شخصيته في ثنايا الشخصيات التي كتبها، بل استحضر أرواحا عاش معها في مراحل حياته فاستقرت في مخيلته، ليُودِعها في شخصيات قصصه وتبقى حارسة للذاكرة وحافظة لجميلٍ صنَعه معه هؤلاء الأشخاص.

   

فها هو "عبد الرحيم العلي" بائع الكتب الطيب الذي "كان من أحسن الناس خلقا وأطيبهم نفسا وأهدئهم طبعا"، ساعد وليد سيف الطالب الذي يحب القراءة على اقتناء أهم الكتب وأحدثها في ذلك الوقت، والذي كان يحرص على الاستثمار في ذلك الشاب المحب للقراءة أكثر من حرصه على أخذ ثمن الكتاب، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في شخصية سيف الشغوفة بالقراءة. كل ذلك جعل الدكتور وليد يستحضر اسم "عبد الرحيم العلي" دون استعارة ولا تحوير، كما هو، بائع كتب استثنائي في أطراف المخيم، يُذكر على لسان "صلاح" في التغريبة الفلسطينية، وهو ذلك الشاب المتمرد المحب للقراءة. هكذا تجسدت المشاهد التي أحاطت بالكاتب في أعماله اللاحقة، وهكذا أعادت شخصيته المتمردة استدعاء ذاتها، ومراكمة ما تمر به من مواقف والتي كانت الثورة إحدى ركائزها، لتشكل شخصية وليد سيف ولتنعكس على مسيرته اللاحقة.
     

عن الحرب والثورة

لم تكن الشخصية الثورية في حياة وليد سيف إلا بطلا آخر في رواية حياته، حيث سافر بين محطات الثورة والحرب متنقلا بين فورة الشباب وحكمة الكهولة. وكانت أبرزُ الأحداث التي شكلت أفكاره هزيمة عام 1967، حيث عايش تفاصيل الحرب التي كانت أمل الشباب في ذلك الوقت، الذين آمنوا بصورة مطلقة بقياداتهم العربية التي ستعيد للأمة مجدها، "وأنه لم يكن بيننا وبين العودة إلى حيفا إلا إرادة الحرب المؤجلة". هذا ما روّج له إعلام الدول التي رفعت راية الحرب ضد العدو الإسرائيلي، والذي اكتشف فيما بعد أنه مبالغ فيه[6].

      

في هذه الأثناء لم يكن وليد سيف طالبا جامعيا وحسب، بل كان من أبرز الشباب في الحراك الطلابي، في زمن كان فيه الشباب يتسمون بالاندفاع نحو أفكار التحرر والعروبة والقومية والالتفاف حول القيادات العربية لاستعادة فلسطين المحتلة عام 1948. فكان من شباب الصف الثوري الأول المدافعين عن حق العودة ويطالبون بالتحرر.

   

ورغم تميزه كطالب جامعي، وحصوله على الترتيب الأول في تخصصه، إضافة إلى مشاركاته الأدبية في الجامعة وفي كثير من الصحف الداخلية والإقليمية، فقد كان من أوائل الشباب الذين تسابقوا للتدرب والانتظام مع الجيش الأردني "للذهاب إلى الجبهة والمشاركة في الدفاع عن القدس" تاركين وراءهم مقاعدهم الدراسية والأكاديمية، لكن إعلان خسارة الحرب كان أقرب من الطريق إلى الحدود الأردنية، والعدولُ عن الفكرة لم يكن بالأمر الهيّن فـ "دخول المعسكر ليس كالخروج منه!".

      

وليد سيف
وليد سيف
     

وفي أعقاب الهزيمة، وخلال انتظامه في التدريب العسكري للفدائيين، تعرف على بعض قيادات حركة فتح فاستطاع أن ينتقل إلى العمل السياسي الطلابي. يذكر وليد سيف انبهاره بسياسة المقاومة التي تبنتها حركة فتح في بادئ أمرها، وكيف أكملت الوجه الثوري بالعمل السياسي، فتسلم بعض المناصب القيادية التي بيّنها: "بوصفي رئيسا للتنظيم الطلابي صرت عضوا في لجنة قيادة عمّان التي تولى رئاستها سميح أبو كويك الملقب (أبو قدري). ثم أُضيف إلى مهماتي عضوية لجنة التعبئة والتنظيم، كما أسندت إليّ مهمة التوجيه السياسي… ثم أضفنا إلى ذلك كله "اتحاد طلبة الضفتين" الذي توليت رئاسته كذلك".

    

ومع مرور الزمن وانعطافات حركة فتح وتأسيس السلطة الفلسطينية، قرر وليد سيف أن يترك الحركة لأسباب أبرزها كان "الروح الفئوية والعصبوية التي يصبح معها الانتماء إلى التنظيم أشبه بالانتماء إلى القبيلة التي إن غوت غوى الفرد فيها، وإن رشدت رشد!". وبرأيه، تمثلت الغواية بتغير النظرة إلى العدو والتي انعكست عبر الاتفاقيات المبرمة مع العدو، كـ "أوسلو" و"وادي عربة"!

     
يظهر وليد سيف في كتابه ثائرا على تحولات الأنظمة العربية في نظرتها لقضية فلسطين كقضية مركزية تلتف حولها قضايا أي دولة، لتصبح قضية ثانوية يقف أمامها مصطلح "القُطر أولا"، وهي الفكرة التي يراها سيف تذهب بمفاهيم العروبة والقومية إلى حيز ضيق تحده حدود الدولة الواحدة فقط، حيث بدأت الدول بالترويج لفكرة "أن القُطر المعني قد أمضى زمنا طويلا وهو يقدم قضية فلسطين على مصالحه ويبذل فيها من موارده المادية والبشرية ما كان حقيقا به أن يبذله لرفاه شعبه". وهو ما يراه وليد سيف صرفا لعقول شعوب تلك الدول عن رؤية الحقيقة في أسباب شقائهم، "وهي أنهم أهدروا ثروات بلادهم على أنفسهم وعائلاتهم، وأن شرط رفاه الشعوب العربية ليس الانصراف عن فلسطين بل التخلص من الفساد والتسلط والاستبداد".

     

"الأرواح لا تغادر منابتها"

إن المتابع للأعمال الدرامية لوليد سيف يلاحظ الرابط المشترك بينها؛ فهو لا يهتم برسم الأحداث التي تمر بها الشخصية المركزية، بقدر اهتمامه برسم صراعاتها النفسية، وحوارها مع ذاتها، وتحولاتها الفكرية. من هنا يمكننا فهم أهمية "المراجعات الفكرية" التي أوردها وليد سيف مناصفة -ربما- مع سيرة حياته في كتابه "الشاهد المشهود"، حيث كانت له رؤيته الخاصة حول كتابة السيرة، انطلاقا من أن لكل شخصية فلسفتها التي تستحق أن تُروى، وأن لكل معركته وأحلامه وهواجسه ومواقفه التي شكلت شخصيته وأفكاره. لذا، فإنه يرى أن صنعة الكتابة وجعل المألوف استثنائيا واستنطاق المعاني هو ما يعول على نجاح السيرة من عدمه.

           

   

فمناط الأمر لديه هو "فعل الكتابة ومدى قدرته على الاستبصار والتأمل وتغريب العادي والمألوف والغوص إلى بواطنه المضطربة بالهواجس والتساؤلات والرؤى والبحث عن المعاني وخلقها ثم تقويضها والتفاوض مع الحياة وإغراءاتها وتهديداتها الدائبة".

    

ولأن "الحدث الذي لا يُروى كأنه لم يكن" كما يعتقد، أصر سيف أن يفصّل في مراحل حياته بالدوران في فلك أفكار ما وراء الموقف، والوقوف في ظل المشهد، وذلك من خلال قراءة الأحداث في ضوء نضج الحاضر وما صنعته خبرات السنين من تغيرات في شخصيته.
     

وحول أهمية استحضار تفاصيل الذكريات ودقتها في السيرة، يرى كثير من الباحثين والكتاب أن كتابة السيرة ينبغي أن تحمل نسبة عالية من الصدق، لكن الأمر لا يبدو سهلا، بل صعب المنال، وذلك لعوامل عديدة؛ منها احتمالية نسيان المراحل الأولى من الطفولة واستحضار ذات المشاعر، وطبيعة العادات والتقاليد المحافظة في الشرق الأوسط التي قد تَحول دون ذكر خبايا وتفاصيل يمكن أن نراها في الجانب المظلم من السير الذاتية لأعلام غربية[7].
        
ويقول أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة حسين حمودة إن كتابة السيرة الذاتية تكون بانتقاء أجزاء مهمة في حياة كاتب السيرة[8]، وهذا عكس ما ألمح إليه وليد سيف؛ فهو يعتقد أنه يمكن لأي حدث أن يكون مهما إذا أسقطنا عليه رؤيتنا الخاصة والمعاني التي تشكلت في حاضرنا. فنرى أنه لم يترك كثيرا من أحداث حياته تمر سردا قصصيا عاديا يخلو من التصوير والحركة، بل أسقط عليها فلسفة تجعل منها تجربة غنية من الذكاء والتميز وحتى الحب.

      

  

فهذه قصته في روضة الأطفال، ألبسها ثوبا من المغامرة والتجربة الغنية بالمشاعر والأحداث، لتجعل من يقرأها يشعر وكأنه يختبر ذات التفاصيل في مرحلة ما من عمره؛ كلحظة أول انفكاك عاطفي مر بها حين أفلت يده من يد أمه للذهاب لتجربته الدراسية الأولى، ولحظة أول شطيرة زعتر خبأها كمؤونة لجوعةِ منتصف النهار، وأول خفقة قلب "حقيقية" لصديقته على مقاعد الروضة معترفا بأنها لم تخلُ من الانجذاب الفطري بين الذكر والأنثى، ويستدرك: "ولكني كنت إذا رأيتها خفق قلبي، وإذا غابت ظل طيفها حاضرا في نفسي، وإني لأحرص على أن أُظهر لها أحسن ما عندي وأتقربَ إليها ببعض ما أملك من متاع أو حلوى عزيزة".

     

بقراءة "الشاهد المشهود" تتشكل هالة من الحنين إلى الماضي، نجدها في سرده لملامح الطفولة الأولى ووصف بيته في فلسطين واستنكاره لـ "خط الهدنة" ووقوفه على أطلال الحب الأول؛ فهو لم يكتفِ بتلوينها بالصورة الرومانسية الحالمة، بل أعاد بناء هذه الصورة بإرجاعها إلى كُنهها، إلى الشوق الخفي الذي يعيدنا للماضي رغم قساوته أحيانا، فنتوحد معه في أسئلته، لندرك أن الحنين إلى الماضي هو الفردوس الذي يتفق عليه كل إنسان فينزِع إلى الماضي نزوع الوليد إلى أمه، والظلمة إلى ضيائها، والأسير إلى وطنه.

  

undefined


إعلان