شعار قسم ميدان

روايات عالمية وعربية تنبأت بالمستقبل

midan - روايات

في العام 1877 تمكّن العالم الفلكي الأميركي "أساف هول" من دخول التاريخ بعد إعـلانه الرسمي عن اكتشاف قمرين يدوران حول كوكب المريخ، تمت تسميتهما بفوبوس وديموس. على المستوى العلمي، لم يسبق أحد الفلكي الأميركي لهذا الاكتشاف. ولكن على مستوى الخيال العلمي، فقد تنبأ الكاتب الروائي الأيرلندي جوناثان سويفت في عمله الأشهر على الإطلاق "رحلات غاليفر" الذي صدر في العام 1726 أن للمريخ قمـرين يدوران حوله. بمعنى آخر، يمكن القول إن الأدب قد سبق العلم -عبر الخيال- إلى هذا الاكتشاف بحوالي 150 عاما. (1 ، 2)

 

لطالما كان الأدب واحدا من أكثر العناصر الملهمة لحركة التحديث في العالم، سواء على المستوى العلمي أو على المستوى الاجتماعي والثقافي. وأحد أوجه هذا التحديث يكون عبر خيال الأديب الذي يتنبأ بوقوع أحداث في مكان وزمان قد يبدوان خياليين، ليتضح لاحقا أن خياله كان على حق. هذه الحالة التنبئية تحققت في كثير من النماذج سواء على المستوى العالمي أو حتى على المستوى العربي. (3)

 

في هذا التقرير نستعرض مجموعة من الروايات العالمية والعربية التي تنبأت بشكل الحياة في المستقبل من أوجه عدّة، خصوصاً في شقها السياسي والاجتماعي. بعض هذه التنبؤات حذّر من كوارث، وبعضها حذر من هزائم عسكرية، وبعضها حاول استقراء مستقبل بعيد سعيد ينشأ على حطام مستقبل قريب بائس، وبعضها حذّر من صعود الدولة الديكتاتورية الشمولية.

 

1984.. جمهـورية الأخ الأكبــر

undefined


لا يمكن البدء في التعرض للأدب الذي يناقش تصورات المستقبل سياسيا، دون أن يتم ذكـر رواية "
1984" الأشهر التي كتبها الأديب البريطاني جورج أورويل، ونشرت في العام 1949. واحدة من أشهر روايات الديستوبيا السياسية التي تتنبأ بمستقبل سياسي غارق في الاستبداد والجهل. الرواية تحجز مكـانا متقدما بشكل دائم في قوائم أفضـل الروايات العالمية التي أصدرتها مؤسسات نشر مختلفة حول العالم، على رأسها مودرن ليبراري وتايمز، فضلا عن كونها من أفضل الروايات في استطلاعات آراء القراء حول العالم.

 

في العام 1984، ترزح بريطانيا تحت حكم استبدادي شمولي كامل الرقابة الحكومية في كل مكان وترصد كل التفاصيل. الناس يحاسبون على "جرائم الفِكـر" فما بالك بجرائم التعبير عن النفس. جمهورية الأخ الأكبر تعد على المواطنين أنفاسهم، خالقة حالة دائمة من الذعـر بين الناس تفضي إلى انهيار كافة القيم الإنسانية النبيلة، وتحول المواطنين إلى بشر معدومي العواطف والأحلام، يتصرفون كأنهم آلات صمّاء.

 

المجتمع في جمهورية الأخ الأكبر ينقسم إلى ثلاث فئات، طبقة عليا وهي الأقلية الحاكمة التي تسمى الحزب الداخلي، الطبقة الوسطى وهي نسبة طفيفة من السكان تسمى بالحزب الخارجي، ثم الطبقة الدنيا أو البروليتاريا وهي الطبقة العاملة الكادحة التي تمثل أغلبية السكان. وتعمل الدولة من خلال أربع وزارات أساسية: وزارة السلام (لشن الحروب). وزارة التوفير (تقلّص الحصص الغذائية على الدوام). وزارة الحب (تعمل على التعذيب وغسل الأدمغة)، ووزارة الحقيقة التي تركز على الدعاية.

 

في هذا الجو الخانق من الاستبداد والمراقبة والظلم، تبدأ بذرة الثورة تتشكل داخل وعي بطل الرواية الصحفي الذي يعمل في وزارة الحقيقة "وينستون سميث"، ويمر بالعديد من المواقف من تعذيب وغضب وألم واستجوابات. بشكل ما تركز الرواية تحديدا على وعي الإنسـان باستبداد السلطة في الوقت الذي يجد نفسه مضطـرا للانصياع لها بل والتهليل لها أيضا. الرواية من أفضل الروايات التي تنظر للمستقبل السياسي السوداوي، لدرجة تداول مصطلح "الأورويلية" ككناية عن وصف مظاهر الاستبداد في بعض الدول. (4)

 

عالم جديد شجـاع.. طغيـان العلم فوق الإنسانية

undefined

 

في بدايات الثلاثينيات من القرن العشـرين، نشر الكاتب البريطاني المخضـرم "ألدوس هاكسلي" روايته ذائعة الصيت "عالم جديد شجاع" (Brave New World) -تُرجم أحيانا بالعربية إلى "عالم رائع جديد"- التي اعتبرت من أكثر الروايات المبكرة في القرن العشرين التي تنبأت بشكل المستقبل وطبيعة الحيـاة فيه، من خلال إطار قصصي محكم يغلب عليه الخيال. الرواية احتلت المركز الخامس في قائمـة "مودرن ليبراري" لأفضل 100 رواية إنجليزية في القـرن العشرين بالكامل، كما أدرجت في قوائم بعض المجلات والمؤسسات باعتبارها من ضمن أفضل 100 رواية عبر التاريخ.

 

في المستقبل لدينا عالم شديد التحرير. العلم وصل لمرحلة مخيفة من التقدم، العلمـاء لهم مدنهم الخاصة، والناس يستعينون بالعلم في تلبية كل احتياجاتهم ورغباتهم الإنسانية. لا حاجة إلى الزواج لأنهم يتكاثرون عن طريق وضع الأجنة في أوعية خاصة بدلا من أرحام الأمهات، ويكون شاغل الناس الأكبر هو المتعة بكل أشكالها خصوصا المتعة الجنسية. الآليات في كل مكـان لخدمة الإنسـان الذي يجد كل ما يريده أمامه بضغطة زر، حتى الشعور بالحزن في هذا العالم يمكن للإنسان أن يتجاوزه بتعاطي المخدرات.

 

في هذا العالم ينقسم المجتمع إلى عدة طبقات لا علاقة لها بالتصنيف الاقتصادي، بل متعلقة بالتصنيف الجسماني والعقلي. يتم تلقين كل أفراد المجتمعات كل الأفكـار التي تُملى عليهم إملاء وهم في سبات عميق، يؤمنون بها إيمانا مُطلقا عند استيقاظهم. حتى مفهوم "الموت" لا يؤثر فيهم على الإطلاق، ويتعاملون معه بمشاعر هادئة خالية من الانفعالات كأنهم آلات وإن احتفظوا "بالمظهر البشري".

 

بشكل ما، يبدأ القارئ بمرور الصفحات في فهم رسالة "هاكسلي" التحذيرية من هذا العالم، كأن أبطال الرواية أنفسهم يستغيثون بالقارئ من وراء الصفحات. يبدأ القارئ في إدراك أن هذا العالم الذي يبدو مثالياً مصمم للمتعة والترفيه ولا شيء آخر، والخالي من كل أزمات الحياة التي يعيشها البشر بدءا من المرض ومرورا بآلاف الفراق وليس انتهاء بالمسؤوليات. هذا العالم ليس مثاليا على الإطلاق، بل يبدو مخيفا مقبضا لافتقـاره لأهم متطلب إنسـاني وهو المتطلب الروحي الذي تنبثق منه كل الصفات الإنسـانية.

 

الرواية قد يعتبرها البعض تحذيرية من مستقبل يطغى فيه العلم بحيث يغطّي على كل ما هو إنساني، والبعض الآخر يقرر أنها ديستوبيا سوداوية يستعرضها الكاتب باعتبار أنها مستقبل محتوم للعالم. في الحالتين، من الصعب اتهـام هاكسلي بأنه كان مبالغا باعتبار أن العالم اليوم يسير حثيثا نحو حالة من طغيان العلم، ربما تفضي إلى "العالم الجديد الشجاع" الذي تنبأ به قبل أكثر من 80 سنة. (5 ، 6)

 

شكل الأشياء التي سوف تأتي.. نظرة ويلزيّة للمستقبل البعيد

undefined

 

رواية خيال علمي للأديب الأنجليزي المخضـرم "هـ.ج. ويلز" الذي اشتهر بمجموعة من أشهر الروايات العالمية على رأسها "آلة الزمن" و"جزيرة دكتور مورو" و"حرب العوالم" و"الرجل الخفي" وغيرها من الأعمال الروائية التي أثرت أدب الخيال العلمي بشدة في النصف الأول من القرن العشـرين، وخلدت اسمه كواحد من أبرز الأدباء في هذا المجال.

 

في رواية "شكل الأشياء التي سوف تأتي" (The Shape of things to come) التي صدرت في العام 1933، يسلط ويلز أضواء خياله على المستقبل السياسي للعالم. في تلك الفتـرة من الثلاثينيات، كانت أوروبا تغلي مع صعود الحزب النازي للسلطة، وظهور شبح حرب مدمّـرة في الأفق. كان من الطبيعي أن يركز ويلز على وضع تصوّر ما للمستقبل باستخدام خياله الواسع.

 

 الرواية عبارة عن رصد زمني للأحداث العالمية التي تبدأ في الثلاثينيات وتنتهي في العام 2106. في الأربعينيات تنبأ ويلز بوقوع حرب مدمّرة، يتلوها انتشار وباء عالمي في الخمسينيات يقتل نصف سكان العالم. في الستينيات يبدأ العالم في التماسك مرة أخرى عن طريق خلق مؤسسة عالمية تعمل على التحكم في الجو والبحر، تكون إرهاصات ببداية خلق "دولة عالمية" تستوعب كافة الأعراق والأجناس، تمتد هذه المرحلة من الستينيات حتى نهاية السبعينيات.

 

بدءا من سبعينيات القرن العشرين حتى نهاية خمسينيات القرن الحادي والعشرين تبدأ إرهاصات تشكيل الدولة العالمية الحديثة، والتي تقع فيها أحداث مختلفة تجعل الناس يعانون من الخوف والرهبة والكبت عبر هذه السنوات، إلا أنه في النهاية تصل البشرية إلى النضج الكامل بعد العام 2100. يمكن للناس أن يعيشوا حياة هادئة لا يحكمهم سوى الاحترام المتبادل والتربية السليمة للعقل والجسم والمنطق والمدركات، كما توفّر الدولة العالمية معايير مضبوطة وصارمة للأملاك والمال العام ومساندة الفقراء بشكل قد يبدو مبالغا فيه حتى بالنسبة للاشتراكيين المتحمسين، فضلا عن إشارات بانهيار مفهوم "الدين" حول العالم، وتوحيد الفكـر العالمي فيما يخص المبادئ الإنسانية والروحية. (7 ، 8)

 

ثرثـرة فوق النيل.. رواية تنبأت بالهزيمـة

undefined

 

على المستوى العربي، تأتي دائما رواية "ثرثرة فوق النيل" للأديب المصري الحائز على جائزة نوبل في الآداب نجيب محفوظ، -تأتي دائما- على قمة الروايات التي تنبأت بالمستقبل الوشيك في إطار درامي بحت. الرواية صدرت في العام 1966 قبل وقوع هزيمة 67 بعام واحد، واعتبرت لدى قطاع عريض من القراء بأنها تحمل إسقاطات كبيرة على نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأنها تحذّر من خطر هزيمة محتملة.

 

الرواية تدور بالكامل على متن باخرة على ضفاف النيل، يلتقي فيها مجموعة من الأصدقاء على مستوى جيد من الثقافة. ومع ذلك، لا يربطهم معا على متن هذه الباخرة سوى اتفاقهم جميعا على البحث عما يغيّب الوعي. بطل الرواية "أنيس" يهذي طوال الوقت من فرط تعاطيه للمخدرات والخمور، ويتحدث دائما عن سخطه على كل شيء في حياته ورئيسه في العمل وما يحدث في البلاد عموما. تأخذهم حمية الحديث واللهو، ليكتشفوا في النهاية أن الباخرة نفسها قد قطعت شوطا بعيدا داخل الماء دون أن يدركوا أنها تحرّكت بعيدا.

 

الرواية مليئة بالإسقاطات الرمزية على النظام والشعب في تلك الفتـرة، حتى من المعروف أنها أغضبت قطاعات داخل النظام الناصري في تلك الفترة وصلت إلى درجة تصعيد الأمر إلى الرئيس نفسه الذي طلب نسخة من الرواية وقرأها، إلا أنه رفض توقيع عقاب على نجيب محفوظ باعتباره قيمة أدبية كبيرة في مصر، وأن روايته لم تنتقد "الثورة" بشكل مباشرة. وفي العام التالي مباشرة لنشر الرواية وقعت هزيمة 67 التي تنبأت بها الرواية، وأصبحت على ألسنة النقاد والأدباء والساسة تعرف بـ"الرواية التي تنبأت بالهزيمة".

 

لاحقا، في العام 1971 أصدرت السينما المصرية فيلما قائما على الرواية، ولكن مع تغيير جوهري في سياق الأحداث، حيث يجتمع أبطال الرواية في الباخرة "بعد الهزيمة" لمناقشة أبعادها، مسلطا الضوء على البؤس الاجتماعي الذي تظله الهزيمة، وأثرها على نفوس المصريين في تلك الفترة. (9 ، 10 ، 11)

 

الشمعــة والدهاليــز.. نبوءة العشـرية السوداء

 undefined

 

شهد العام 1992 بداية انزلاق الجزائر فيما عُرف لاحقاً بـ"العشـرية السوداء" التي شهدت نزاعا سياسيا مسلحا امتد على مدار عقد التسعينيات بالكامل تقريبا، شهدت فيه البلاد موجة هائلة من الإرهاب المسلّح الذي سقط فيه آلاف القتلى والجرحى. في نفس هذا العام تحديدا، صدرت رواية "الشمعة والدهاليز" للأديب الجزائري "الطاهر وطار" الذي ضمّنها بتنبؤات بالسيناريو السياسي الدموي الذي تنتظره البلاد، والذي تحقق بالفعل خلال العشـرية الدموية.

 

بطل الرواية وطني ينتمي إلى قبيلة جزائرية عريقة لها باع طويل في النضال ضد الفرنسيين وقت الثورة، يحمل ميولات وطنية عروبية في مقاومة الحركة الفرنسة في الجزائر. يجد البطل نفسه فجأة وسط الجماعات الإسلامية التي تعتبره منها لفترة، ثم تعتبره علمانيا لاحقا. ومن جهة أخرى، تتهمه الحكومة بأنه أصولي متطرّف، في نفس الوقت الذي يعاديه أنصار فرنسا في الجزائر باعتباره عروبيا. بمعنى آخر، يجد بطل الرواية -الذي يقف على الأرضية الوطنية- نفسه متهما بالخيانة والعمالة والتشدد والعلمنة في نفس الوقت من كافة الجهات رغم عدم معقـوليتها.

 

في النهاية، تؤدي هذه الأحداث إلى مواجهة البطل لمحاكمات سريعة أمام جميع خصومه الذين يتهمونه بتهم لا عقلانية متضاربة كلها نابعة من عداء كل فريق للآخر، حتى يقرر جميع خصومه إطلاق النار عليه في نفس اللحظة كتجسيد رمزي لمحنة الشعب الجزائري في تلك الفتـرة كضحيـة لنزاع سياسي عنيف، اعتبر من أكثر النزاعات الدموية التي شهدتها الجزائر بعد الاستقلال. (12 ، 13)

 

undefined

 

في النهاية، يمكن القول إن أغلب روايات استبصار المستقبل لديها طابع تحذيري ما. صحيح أن بعض الروايات من وقت لآخر كانت تروّج لمستقبل أفضل يعيش فيه الإنسـان حياة يوتوبية -مثل مسرحية رحلة إلى الغد للكاتب المصري توفيق الحكيم- إلا أنه بلا شك لا يكن تجاهل النزعة التحذيرية الغالبة على هذه النوعية من الأدب. هل هذا بسبب أن كتّابها يرون بالفعل مستقبلا مشؤوما، أم أنها نزعة تلقائية للخوف من المجهول؟