"خالي من الحبكة".. ما الذي يدفعنا لقراءة النص الأدبي؟

midan - reading
مقدمة المترجم
تطور الأدب على مدار آلاف السنين، قبل استقراره على الأشكال التي نألفها اليوم من رواية وقصة وشعر ونثر وغيرها. وخلال القرن الماضي، جرت عدة محاولات فاشلة للتخلص من أهم عناصر الرواية: الحبكة. نتناول فيما يلي الحبكة، ونستعرض مكوّناتها، والآراء المختلفة فيها، وشيء من الوضع الحالي لبرامج التلفاز، على ضوء نظرية أرسطو.

 

نص التقرير
اسرُد الحبكة من النهاية إلى البداية، وستكتشف بعض الأشياء. جربها مع رواية كلاسيكية لم تعد قراءتها منذ سنوات. لا شك أنك تذكر الضوء الأخضر في آخر صفحات "غاتسبي العظيم"، وربما تذكر جثة غاتسبي الطافية على مياه مسبح في الفصل السابق. هل تذكر هوية القاتل؟ إنه ويلسون، زوج عشيقة توم بيوكانن، أعني ميرتل، التي دهستها عربة غاتسبي خلال قيادة ديزي لها. تولى توم إبلاغ ويلسون، وهو رجل خفيف العقل، بأن غاتسبي هو مالك العربة. إذن، يتضح لك أن توم هو المسؤول عن مقتل غاتسبي، أنه كان القتل الحقيقي، وأنه كان يملك دوافع عدة. كذلك يحق لك وصف النهاية التي كتبها فيتزغيرالد بالفوضى العشوائية المشيدة فوق كومة من المصادفات، إلا أن في نهاية الرواية شيء من الجمال يعكس إحدى أعظم محاور الرواية: كان غاتسبي رجلا حذر، ورط نفسه في صحبة أشخاص ملهمين، ومات ضحية لإهمالهم.

 

لكني لا أحاول الآن تقييم الرواية، بل جذب الانتباه إلى دقة الأثر الذي علق بأذهاننا، من حبكة أحد أكثر الكتب شهرة وانتشارا حول العالم. فالكتاب الجيد، على أي درجة من الجودة كان، لا نفارقه إلا بذهن زاخر بالصور والأسطر، والعواطف.

  

الحبكة هي ما يدفعنا إلى الانتقال من صفحة إلى أخرى، حتى لو لم نشعر بالتعاطف مع الشخصية الخيالية أو الفكرة، بل وإن نفرنا منها أيضا
الحبكة هي ما يدفعنا إلى الانتقال من صفحة إلى أخرى، حتى لو لم نشعر بالتعاطف مع الشخصية الخيالية أو الفكرة، بل وإن نفرنا منها أيضا
  

ربما تحتل الشخصيات الخيالية التي نقرأ عنها، مكانة تماثل مكانة أبطال وأشرار حياتنا الشخصية. وقد نأنس بصحبتها، ويلازمنا هذا الأنس حتى إن عجزنا عن تذكر أسمائها. يظل صدى الأسلوب النثري الجيد عالقا بالآذان، مثلما تعلق الموسيقى الأخاذة. لكن هناك شيء يفارقنا سريعا متى أغلق الكتاب، أو أظلمت الشاشة، أو أسدل الستار: ذكرى ما وقع من أحداث، وترتيبها، وأسبابها. فالحبكة تكتسب طبيعة شبحية في الأذهان. حتى إننا نجد صعوبة في استرجاع الأحداث السابقة، خلال قراءة رواية أو مشاهدة فيلم أو مسرحية. وينتابني الضيق أحيانا، إذ أجد لدي قدرة على تذكر نوع الخط المستخدم في طباعة روايات معينة، تفوق قدرتي على تذكر الأحداث التي شلت حركتي خلال القراءة.

 

كان أرسطو أول من أطلق على الحبكة "الجوهر الأول في المأساة، وروحها"..  وتقول نظريته إن أفضل الأعمال هي ما لا يمكن حذف شيء منها دون إفساد المعنى، وفي ذلك نوع من الرفض لتهدل الرواية

لكن الحبكة هي ما يدفعنا إلى الانتقال من صفحة إلى أخرى، حتى لو لم نشعر بالتعاطف مع الشخصية الخيالية أو الفكرة، بل وإن نفرنا منها أيضا. ودت نيل زنك لو يقرأ الناس كتابا عن مجال حماية الطيور والنشاط البيئي المسلح، فكانت الطريقة المنطقية لفعل ذلك، حسب قولها، هي دمج هذه العناصر في حبكة الرواية الجنسية الهزلية: "الدَابّ". لكن قراءة ملخص لهذه الرواية لن يطلعك على أسباب جودتها. أشار الراحل روبرت بلكناب في دراسته المعنونة بـ"حبكات" (عمل مكرس بالأخص لقراءات عميقة للملك لير والحرب والسلام) إلى ما زعمه البعض من أن التلخيص الوحيد المقبول لرواية الحرب والسلام، هو نص الحرب والسلام ذاته، بمعنى أنك لن تعرف الرواية حقيقة إلا بحفظ النص، وهو أمر ممكن مع مسرحية، لا مع روائع تولستوي.
 
ويرى آخرون أن "ملخص الكتاب هو حبكة الكتاب"، بما أن تلخيص الحبكة يحاكي طريقة استقبال ذهننا للقصة، حيث تتكشف الأحداث، حدثا تلو آخر. وفقا لذلك، يصبح الجميع نقاد إذا قرأوا، فيضفون -بلا وعي منهم- الأهمية على أحداث معينة، ويقللون من شأن الغامضات، ويمنحون ولائهم لبعض الشخصيات على حساب أخرى. وبينما يرغب بعض القراء في حبكات تتخطفهم من هذا العالم، يفضل آخرون البقاء على مسافة من العمل الخيالي، وتفحص الحبكة كما يتفحص الطبيب حلق مريضه. وبين الممارستين، يوجد نمط قراءة، يحوز النص بصورة مؤقتة، ليخلق منه عملا فنيا جديدا، لا وجود له خارج رأس القارئ.

 

كان أرسطو أول من أطلق على الحبكة "الجوهر الأول في المأساة، وروحها" (العناصر الأقل أهمية في نظره: الشخصية، واللغة، والفكرة، والمرئيات المسرحية، والأغنية). صحيح أنه كان يكتب عن الدراما الإغريقية، إلا أن بإمكاننا تطبيق أفكاره على الروايات، بغض النظر عن اعتباره الأعمال النثرية، والملحمية خاصة، أدنى من المأساة منزلة. تقول نظرية أرسطو إن أفضل الأعمال هي ما لا يمكن حذف شيء منها دون إفساد المعنى، وفي ذلك نوع من الرفض لتهدل الرواية. لكن قبل قرن تقريبا، ظهرت في روسيا نظرية أكثر تعاطفا مع الحبكة، حيث أعلن فلاديمير بروب وفيكتور شكلوفسكي أن لكل عمل خيالي متن حكائي ومبنى حكائي. المتن الحكائي هو مجموعة الأحداث الخيالية المرتبطة معا في العمل، أما المبنى الحكائي فهو طريقة نقل معلومات وتفاصيل المتن الحكائي إلى القارئ، وهما يشكلان معا الحبكة.

  

يظل السؤال المحوري متعلقا بحجم الدور الذي تلعبه السببية في ربط الأحداث، وإن لم تكن السببية، فهي الرابطة ذات نكهة التخطيط القدري المسبق (بيكساباي)
يظل السؤال المحوري متعلقا بحجم الدور الذي تلعبه السببية في ربط الأحداث، وإن لم تكن السببية، فهي الرابطة ذات نكهة التخطيط القدري المسبق (بيكساباي)

  

حقيقة، أجد في مفهوم المتن الحكائي جمالا خاصا. ففي كل سردية افتراض ضمني لوجود عالم كامل خلف حدود السرد، وتاريخ آخر يمتد إلى الأمام والخلف في الزمان إلى ما لا نهاية. تشجع أمثال هذه الكتب على الاشتباك مع متون حكائية لكتب أخرى، بهدف ملء فراغات الخلفيات الدرامية، وإعادة رسم الأحداث المألوفة من مناظير مختلفة، ومشاهدة الشخصيات وهم يخوضون مواقف ومغامرات جديدة. تعمل برامج التلفاز المشتقة (Television spinoffs)، والعوالم السينمائية الخاضعة لحقوق الامتياز، ضمن متن حكائي مشترك، مع حرص هائل على عدم انتهاك وهم العالم الخيالي المتماسك. فكثير من الناس، رغم كل شيء، ينجحون التشبث بخيط الأحداث.

 

يميل الباحثون المهتمون بالحبكة إلى التعامل مع ذلك بمرونة. إذا كانت الحبكة هي ترتيب الحوادث، فكل حادثة في ذاتها حبكة مصغرة أيضا. ويظل السؤال المحوري متعلقا بحجم الدور الذي تلعبه السببية في ربط الأحداث، وإن لم تكن السببية، فهي الرابطة ذات نكهة التخطيط القدري المسبق، كما في المثال الذي ضربه أرسطو، عن وفاة قاتل ميتيس نتيجة لسقوط تمثال للقتيل فوقه. فمن المفارقة، حسب قول أرسطو، أن المأساة تثير ذهولا أعظم عندما تقع مصادفة.

 

تحدث أرسطو عن الملحمة بازدراء، لكنه كان سيبغض التلفاز لا محالة. وهو القائل: "من بين جميع أنواع الحبكات والأحداث، تظل الحلقات المنفصلة [ما لا رابط ضروري بين أجزائه] هي الأسوأ". لأن بنية الحلقات المنفصلة تميل إلى إهمال العلاقات السببية بين أجزائها. إنها شريط من الحبكات، تعود فيها جميع الأوضاع، بين الحلقة وأختها، إلى سيرتها الأولى، وترتد جميع الشخصيات إلى طباعها الأصلية. لكن المسلسل -بالتأكيد- شيء آخر: إنه بنية حلقات منفصلة، موظفة داخل محور القصة الرئيسي. شيء أقرب إلى السلسلة الحديدية المترابطة، منه إلى عقد خرز منظوم.

  

كثير من الأدب المتخيل هذه الأيام، تدفع عجلة الأحداث فيه صدمة مخزية كامنة في المتن الحكائي، لكنها عادة لا تنكشف قبل انتهاء القارئ من نصف العمل أو ثلاثة أرباعه
كثير من الأدب المتخيل هذه الأيام، تدفع عجلة الأحداث فيه صدمة مخزية كامنة في المتن الحكائي، لكنها عادة لا تنكشف قبل انتهاء القارئ من نصف العمل أو ثلاثة أرباعه
  

اقتبس التلفاز العالمي هذه البنية عن رواية القرن التاسع عشر. وبالفعل، وقع الكثيرون في غرامها، مثل الروائي جوناثان فرانزن وزملاؤه، لكن الظهور المتزامن لجلسات المشاهدة المكثفة كشف عن بعض العيوب الخفية لدراما التلفاز المسلسلة. خض جلسة مشاهدة مكثفة لمسلسل "تحول سيء" (Breaking Bad)، وستلحظ كيف يغير كل من والتر وجيسي موقفهما من مجال صناعة الميثامفيتامين كل بضع ساعات. كيف كان المؤلفون سيتصرفون إن لم تواصل الشخصيات التذبذب ما بين قرار الاعتزال وقرار العودة؟ حتى مسلسل "آل سوبرانو" تظهر فيه هذه العيوب إن شاهدته في جلسات مكثفة. حيث يشير التغيير المستمر في أعضاء فريق توني إلى المشاكل المتواصلة التي يواجهها "الكابو"، والتي تتطلب موسما كاملا للتغلب عليها. كان أرسطو يرى ضرورة وقوع المأساة وتمامها دون تجاوز الإطار الزمني لليوم الواحد، لذا لعله كان سينضم إلى جمهور مسلسل "24".

 

حاولت عدة ثورات اغتيال الحبكة، وسعت إلى استبدالها بالإبهار الفكري أو الجمالي، إلا أنها كانت تعاود الظهور دائما كالزومبي، فإذا بنا نقرأ كتبا تنتهي بحفلات الزفاف ثانية. يقول جاك جلادني، في رواية الضوضاء البيضاء للروائي دون ديليلو: "تميل جميع الحبكات إلى الجريان باتجاه الموت، إنها طبيعة الحبكات". بالتأكد، فالزفاف في حد ذاته موت، موت للفرد باتحاد الزوجين. لكنه موت يمنح الناس الأمل في المستقبل، كما هو أداة قوية لتحرير العواطف من أصفادها، إنه التطهر بالفن الذي يقدره أرسطو أيما تقدير. تكمن قوة المأساة في قدرتها على إثارة مشاعر الفزع والشفقة في الجمهور. فعلى عكس أفلاطون، الذي رأى في تلاعب الشعراء بالمشاعر خطرا على المجتمع، اعتبره أرسطو أمرا صحيا، طريقة لتنقية القلب من الشفقة والذعر قبل الذهاب إلى الحرب، حيث تشكل أمثال هذه المشاعر نقاط ضعف.

 

ما نوع المشاعر التي ننشدها من الحبكات اليوم؟ في حالة التلفاز، تم توثيق ذلك جيدا. لقد شاهدنا حقبة من مسلسلات المجرمين الذكور الذين يعيشون خيالاتهم السلطوية، في زمن بدا فيه المجتمع الأبوية آخذ في الانحصار. ومؤخرا، رأيت نمطا مختلفا، شعورا آخر يهيمن على مستوى الأدب، سواء في روايات حازت إعجابي أو أخرى كثيرة كرهتها. أعني بذلك الشعور بالعار. فكثير من الأدب المتخيل هذه الأيام، تدفع عجلة الأحداث فيه صدمة مخزية كامنة في المتن الحكائي، لكنها عادة لا تنكشف قبل انتهاء القارئ من نصف العمل أو ثلاثة أرباعه. والغريب في هذه الأسرار المشينة، هو ما تبثه من طاقة تشويهية طاغية على الأحداث اللاحقة، رغم الانفصال التام وانعدام العلاقة السببية بينهما: تغدو الحبكات قلاع رملية، تجرفها أمواج العار. كان لغاتسبي سرا مشينا أيضا، وهو مصدر ثروته غير الشرعي. سعى غاتسبي إلى الثراء للزواج من ديزي، وانتهى به الأمر جثة طافية على مياه مسبح.

   

_____________________________

 
التقرير مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة

إعلان