قضية الأدب الرديء ليست محض مشكلة فنية أو أدبية، لكنها قضية اجتماعية، حيث يقود هذا الأدب إلى مزيد من الركود والاستسهال، ويحول القراءة إلى محض استهلاك واقتناء سلع رائجة.
يُفرِّق "كونديرا" بين التاريخ البشري وتاريخ الرواية، فهما عنده شيئان مختلفان تماما، الأول لا يتحدد وفق إرادة الإنسان، بل هو يقوم بالاستيلاء على مصيره كقوة أجنبية، لا يستطيع التحكم بها، بينما نجح تاريخ الرواية أو تاريخ الرسم أو الموسيقى أن يكون ثمرة لحريته، لإبداعاته الشخصية البحتة، لاختياراته الشخصية. "فتاريخ الفن هو انتقام الإنسان ضد الطبيعة اللاشخصية للتاريخ البشري".
يجيب "جوهانز ليتشمان": لعله ببساطة أساء تذكر واقعة القبعة. لقد كان يعيش في المنفى، في عهد ما قبل الإنترنت، وربما لم تكن بحوزته صورة فرضت عليها الحكومة رقابتها منذ 25 عاما في ذلك الوقت. لكن هل يبدو أن هذا النسيان التاريخي عند "كونديرا" غير مقصود؟
يكمل "جوهانز ليتشمان" أن القراء غير التشيكيين غالبا ما اعتقدوا أن وظيفة "كونديرا" هي أن يعرّفهم بتشيكوسلوفاكيا الشيوعية لا بعالم أصيل من إبداعه. ولقد أوضح "كونديرا" مقته لهذه النزعة من خلال إحدى شخصيات "خفة الكائن التي لا تحتمل"، وهي شخصية رسَّامة تشيكية لا تطيق الاختزال السياسي لفنِّها في الخارج، فتجد في سيرتها المنشورة في أحد المعارض أنها تعيش حياة "مثل حياة قديسة أو شهيدة" فتبدأ في إخفاء حقيقة أنها تشيكية. فلعلّ "كونديرا" في تغذيته لنا بتاريخ زائف كان شديد القرب من التاريخ الموثق لدرجة أن نعدّه حقيقياـ يشهر اعتراضه في وجوه من يقرؤون أدبه قراءة اجتماعية أو معلوماتية أو سياسية أو أي قراءة أخرى غير القراءة الجمالية.
حيث يؤمن "كونديرا" أن البشر أنفسهم هم المسؤولون عن تقديم حقيقة أو زيف هذا التاريخ؛ فحتى المبدع يمكنه أن يشوّه حقيقة التاريخ، يمكن أن يكتبه بسريالية كبيرة، كما يمكن أن يجعل منه لوحة تكعيبية أو بدائية أو فطرية، مثلما يمكنه أن يتعامل مع هذه الحقيقة برؤية فنية لا علاقة لها بدقة الحقيقة وبوثائقيتها.
فالتاريخ عند "كونديرا" هو القراءة الذاتية للتاريخ، لا مجموع أحداثه الموضوعية كما هي، وهو تأمل يسمح بإعادة النظر في الأحداث التي عايشها المرء بنفسه، وإمكانات فعله في حيز الزمن أي ما فعله الإنسان وما كان من الممكن أن يفعله، فهو اتحاد بين الحقيقة والحلم، وهو تحرر الإنسان من عبوديته للزمن إلى ما هو أبدي وخالد وإلهي إلى ما هو ضد التاريخ.
"اغتيال "أليندي" غطّى ذكرى الغزو الروسي لـ "بوهيميا"، ومذبحة بنجلاديش الدموية أدَّت إلى نسيان "أليندي"، وضجة الحرب في صحراء سيناء طغت على أنين بنجلاديش، ومذابح كمبوديا أدت إلى نسيان حرب سيناء، وهكذا وهكذا، إلى أن ينسى الجميع كل شيء"
("ميلان كونديرا"، كتاب الضحك والنسيان)
بعد أن سرد "كونديرا" قصة "كليمانتس" ينتقل إلى موقف عادي من أيامنا الحالية، يُبين فيه كيف نتعامل مع الماضي والمستقبل باعتبارنا بشرا:
"كان "ميريك" (إحدى شخصياته) يريد محو بعض الصور من حياته، ليس لأنه لم يكن يحبها؛ بل لأنه أحبها حقا. محاها هي وحبها. لقد مسح الصور مثلما مسحت شعبة الدعاية صورة "كليمانتس" من الشُرفة التي ألقى منها "غوتوالد" خطبته التاريخية. فـ "ميريك" يعيد كتابة التاريخ تماما كما يفعل الحزب الشيوعي، وكما تفعل كل الأحزاب السياسية، وكما تفعل كل الشعوب. وإجمالا كما يفعل الإنسان. جميعهم يعلنون الرغبة في صنع غدٍ أفضل، لكن الأمر غير صحيح؛ لأن المستقبل ليس سوى فراغ مهمل لا يهم أحدا، مقابل الماضي المفعم بالحياة، ووجهه مزعج وبغيض إلى حد أننا نرغب في تدميره أو إعادة تلوينه. لذلك لا يطمح الناس إلى التحكم في المستقبل إلا بقصد اكتساب القدرة على تغيير الماضي. فهم يتصارعون من أجل الوصول إلى المختبرات التي تُجرى فيها الرتوشات على الصور، ومن ثم تُعاد كتابة السير والتواريخ".
فهذه الرغبة في النسيان قبل أن تكون قضية سياسية، هي مسألة وجودية، حسبما يكتب "كونديرا" في "فن الرواية": "ففي الإنسان دائما رغبة إلى إعادة كتابة سيرته، وتغيير الماضي، ومحو المسارات. وفي حين أن صراع الإنسان ضد السلطة يبقى صراع الذاكرة ضد النسيان، فإن هذا الصراع ليس صراعا ضد سلطة سياسية بل صراع الإنسان من أجل إعادة صياغة ماضيه بحيث يكون حاضرا يحتمل عيشه".
يتمثل لغز التذكر والنسيان -كما يصوغه "كونديرا" في "كتاب الضحك والنسيان" -في أن الماضي "مليء بالحياة، وأن منظره مزعج، منفِّر، جارح، إلى حد أننا نريد أن ندمره أو نعيد طلاءه". والمستقبل في المقابل "محض هُوَّة لامبالية لا يبالي بها أحد". ويمضي في "فن الرواية" فيكتب أن "العالم لا يبدو واضحا ملموسا محسوسا أكثر منه في اللحظة الراهنة. لكنه مع ذلك يتملص تماما. وكل حزن الحياة يكمن في هذه الحقيقة". ولو أن المستقبل هوة لامبالية، والحاضر يراوغنا تماما، فلا يبقى أمام شخصيات "كونديرا" من خيار إلا الحياة في الماضي. ولكن ما نتذكره ليس الماضي بالضرورة: "فاللحظة الراهنة تختلف عن ذكراها. والتذكر ليس نقيض النسيان، بل هو شكل من أشكاله. و"كونديرا" يذهب إلى أن حالة الوجود الوحيدة التي يمكننا أن نفهمها هي الماضي، الذي نعرفه بالتذكر، برغم أن التذكر نوع من النسيان!
ليس النسيان في روايات "كونديرا" محتوما وحسب، بل ومرغوبا أيضا. فقد كتب في "الحياة هي في مكان آخر" يقول "ما أجمل أن يُنسى التاريخ!" والحق أن أبطاله -وأغلبهم مهاجرون- يكرّسون كثيرا من وقتهم للنسيان. فحينما تحاول مهاجرة تشيكية في "الجهل" أن تصف ألم الرحيل عن الوطن إلى فرنسا لصديق مقيم في تشيكوسلوفاكيا يقول لها الصديق إن "مباريات المعاناة هذه بطلت الآن". فأصدقاء المهاجرة التشيكيون لا يريدون أن يسمعوا شيئا عن مدى صعوبة الحياة في فرنسا، في حين أن أصدقاءها في فرنسا لا يمكن أن يفهموا إلا قليلا من الصورة السياسية المبسطة لتشيكوسلوفاكيا. ولقد كتب "كونديرا" في "كائن لا تحتمل خفته" يقول: "إن الوجود في بلد أجنبي يعني المشي على حبلٍ عالٍ عن الأرض بلا شبكة أمان توفرها للمرء البلد التي فيها أهله وزملاؤه وأصدقاؤه وحيث يسهل عليه أن يقول ما يشاء بلغة يعرفها منذ الطفولة".
"أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام." "ميلان كونديرا"، حفلة التفاهة
يذهب "كونديرا" إلى أن الإنسان الذي يحتمي بذاكرته من رياح الحاضر اليومي المزعج بتفاهته أمام ثقل تلك الذكريات المؤلمة يقاوم قُوَّتين: قوة النسيان التي تعمل على محو ذاكرته وقوة التحوير التي تنشأ لا إراديا داخل عقله فتزوِّر الأحداث، حينها يصبح التذكر شكلا من النسيان، ولا تكتفي ذاكرة الإنسان بذلك بل تحيله إلى تفاصيل صغيرة وتافهة ترينا الوجه المضحك من تلك الذكريات حتى لو كانت شديدة التراجيدية. هنا يسخر الإنسان من تاريخه؛ فإما أن يتصالح معه ويعيش حاضره بسلام نفسي، وإما أن يختار القطيعة ويسعى لمحو ذاكرته ونسيان تلك الأحداث محافظا على صورته الخالية من السخرية أمام نفسه ومحافظا على اختياراته رافضا الاعتراف باحتمالية خَطَأِها.
هنا تأتي السخرية نتيجة مفارقة، تنشأ بين ذكريات أليمة وبين الواقع اليومي الذي يجد الإنسان نفسه فيه مخذولا ووحيدا ومضطرا لشرح نفسه باستمرار، والقيام بأعمال اعتيادية تافهة لا تتناسب وماضيه الثقيل. هذه المفارقة تدفع الذاكرة لتنحو نحو التفاصيل التافهة والمثيرة للضحك داخل أكثر الذكريات تراجيدية. حيث يقول "كونديرا": "لكن في الضحك أيضا شيئا مفيدا لما فيه من الترويح، حيث تصير الأشياء معه أكثر خفة مما ظهرت عليه، ومن ثم نتحرر منها وتكف عن قهرنا تحت وطأة جدّيتها القاسية.. فإن المنفجر بهذا الضحك يتجرد من كل ذكرى ومن كل رغبة ويكون ضحكه راسخا في تلك اللحظة متركزا حولها".
"إنها لتعزية لا تقدر بثمن، حين تشعر بأنه لا رسالة لدينا تجاه الآخرين."
("ميلان كونديرا"، كائن لا تحتمل خفته)
أمّا عن الدرس الذي يريد "كونديرا" أن يوصله، هو أنه مهما كانت مآسينا كبيرة وشديدة الثقل، فما زال هناك متنفس للحياة وللتحرر من وطأة ثقل تلك الذكريات، ما زال هناك ضحك، وهذا الضحك عند "كونديرا" أسمى من المزاح والسخرية والسخافة، فهو تعبير الكائن عن فرحة وجوده؛ فأن تضحك هو أن تعيش بعمق.
يعلمنا "كونديرا" السخرية من مآسينا لنتحرر منها، وأن نضحك، ليس ضحكة متفائلة بلهاء، بل ضحكة من يؤمن أن هذا العالم بمآسيه لا يساوي دم من ماتوا ليجعلوه مكانا أفضل، فهدف النسيان والسخرية عند "كونديرا" هو تجاوز التاريخ ثم الانصراف لما هو أهم، سواء كان حياة أو فنا أو موقفا إخلاقيا أو صمتا مطبقا.