أسرار الظهور.. كيف نشأت حركة حماس وكتائب عز الدين القسام؟
تُعد الحركة الإسلامية في فلسطين، بصورة ما، امتدادا لنظيرتها التي وُلدت في مصر احتجاجا على الاحتلال البريطاني وتفتت الأقطار العربية بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث كان الشيخ أمين الحسيني، مفتي القدس، تلميذا للشيخ محمد رشيد رضا، وهو أحد كبار رواد الإصلاح في مصر، كما تلقى تعليمه في الأزهر بالقاهرة. وقد تغذت هذه الحركة، التي تُعد الحركة الأم للكثير من فصائل المقاومة الحالية في فلسطين ومنها حركة حماس، بغضب كبير إثر احتلال اليهود لفلسطين تحت رعاية القوى الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
ولكن قبل أن نعرف كيف ظهرت حماس على سطح الأحداث، وأعلنت عن وجودها مع الانتفاضة الأولى ضد إسرائيل في عام 1987، يجب أن نعود إلى الوراء قليلا لنقف على الأسباب التاريخية التي أدت إلى ظهور هذه الحركة، التي ارتبطت فكريا وتنظيميا بجماعة الإخوان المسلمين.
الإخوان المسلمون في فلسطين
يُجمِعُ الباحثون أن نشاط الإخوان المسلمين وصل إلى فلسطين في شهر أغسطس/آب 1935 حينما جاء أول مبعوثَيْن من الإخوان المصريين إلى فلسطين ثم سوريا، وهما عبد الرحمن البنا (الساعاتي) شقيق حسن البنا، ومحمد أسعد الحكيم. وقد وصلا إلى القدس حيث التقيا بالحاج أمين الحسيني وشرعا في الدعوة لتنظيمهم، ورغم عدم وجود إشارات تدل على تأسيس كيان تنظيمي للإخوان في تلك الفترة، فإنهم شاركوا بصورة لافتة في الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي (1936-1939). ثم فُتح الباب واسعا أمام مجلتهم "النذير" التي كانت تهاجم الاحتلال البريطاني هجوما شديدا في فلسطين، الأمر الذي لفت أنظار أهل فلسطين في الضفة الغربية خاصة إلى هذه الجماعة. ولذلك نرى أن سنوات 1939-1945 كانت البداية الحقيقية لانضمام أعداد من الفلسطينيين لجماعة الإخوان المسلمين وفتحهم مراكز ومجلات خاصة بهم[1].
وفي السنوات الثلاث بين عامي 1945-1948 كان الإخوان المسلمون في فلسطين يزدادون قوة وانتشارا في القدس ويافا وحيفا وقلقيلية واللد وطولكرم والمجدل وسلواد والخليل وغزة وبئر السبع والناصرة وعكا، وقد ذكر الشيخ حسن البنا في إحدى رسائله أن "للإخوان في فلسطين أكثر من عشرين شُعبة في الشمال والوسط والجنوب"[2].
وقد شملت أنشطة الإخوان المسلمين في تلك المرحلة عقد مؤتمر حيفا سنة 1946، الذي حضره ممثلون عن لبنان والأردن وأعلنوا فيه أهدافهم؛ مثل اعتبار حكومة فلسطين (البريطانية) مسؤولة عن الوضع السياسي المضطرب في البلاد، وتأييد قرار الجامعة العربية بإعلان استقلال فلسطين، وكذلك تأييد مطالب مصر بالجلاء ووحدة وادي النيل، وعدم الاعتراف بهيئات اليهود المهاجرين. وفي المؤتمر الذي عقدوه في حيفا في أكتوبر/تشرين الأول 1947، أعلنوا فيه تصميمهم على الدفاع عن بلادهم بجميع الوسائل، وعدم ثقتهم بمجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة، مع الدعوة إلى تحرير فلسطين[3].
الإخوان المسلمون في حرب 1948
وكان إعلان هيئة الأمم المتحدة قرار التقسيم في نوفمبر/تشرين الثاني 1948 صادما للعرب جميعا وللفلسطينيين خاصة، حيث أعلنت الهيئة العربية العليا التي كانت برئاسة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس، وشُكِّلت لقيادة ثورة 1936 ضد البريطانيين واليهود، عن تأسيس "جيش الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني الذي تناولنا دوره الفذ في حرب 1948 واستشهاده في معركة القسطل. وبجوار جيش الجهاد بزعامة الحسيني انضمت جماعة الإخوان المسلمين للقتال بأفرعها المختلفة داخل فلسطين وخارجها قبل وبعد اشتعال حرب 1948.
حتى ذلك الحين، كانت جماعة الإخوان في فلسطين لا تزال قليلة العدد والعتاد مقارنة بأقرانها في مصر وسوريا والأردن والعراق. فقد شكَّلوا قوات غير نظامية منذ بداية الحرب، وعملوا في أماكن وجودهم في الشمال والوسط تحت القيادات العربية المحلية هناك، التي كانت منخرطة تحت قيادة "جيش الجهاد المقدس" بزعامة عبد القادر الحسيني. أما في المناطق الجنوبية في غزة وبئر السبع، فقد انضم العديد من الإخوان إلى المتطوعين من الإخوان القادمين من مصر بقيادة كامل الشريف، الذي يذكر أن قوات الإخوان الفلسطينيين كانت تُقدَّر بنحو 800 شخص[4].
وقد أسفرت معارك 1948 في النهاية عن انتصار الصهاينة، وإعلان دولتهم، وتهجير أعداد كبيرة من سكان فلسطين في الشمال والوسط إلى مناطق الضفة الشرقية والغربية، ومناطق الجنوب التي لم يتبقَّ منها إلا قطاع غزة. وفي هذا القطاع الذي استطاع اللواء المصري أحمد فؤاد صادق أن يحافظ عليه، ويحميه بكل ما أوتي من قوة وطاقة كما رأينا في مقالة سابقة، حتى لا يسقط هو الآخر أمام العصابات الصهيونية، لعب الإخوان المسلمون المصريون والفلسطينيون بقيادة كامل الشريف دورا حيويا في دعم قوات الجيش المصري في هذه الحرب، إلى درجة أن اللواء صادق طالب الحكومة المصرية سنة 1950 بإعطائهم شهادات تقدير، وتوفير العمل الملائم للأحياء منهم، والمعاش والدعم المالي لمَن مات منهم أو أُصيب إصابة بترت أحد أطرافه في هذه الحرب[5].
وعلى هذا أصبح قطاع غزة خاضعا للحكم المصري منذ عام 1948 وحتى العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، حين احتلت إسرائيل هذا القطاع لمدة أربعة أشهر، قبل أن يعود المصريون لحكمه مرة أخرى سنة 1957، ويبقى على هذه الحال عشر سنوات حتى هزيمة 1967 التي احتلت إسرائيل على إثرها قطاع غزة والضفة الغربية والجولان وسيناء. ومن الملاحظ أن وجود الإخوان المسلمين في غزة في أثناء الحكم المصري الملكي ثم الجمهوري في الحقبة الناصرية وحتى عام 1955 كان حاضرا بقوة، قبل أن تضربهم السلطات المصرية وتعتقل الكثيرين منذ سنة 1954 وما تلاها بعد قرار حلّ الجماعة على يد الرئيس جمال عبد الناصر، الأمر الذي اضطر البقية الباقية منهم إلى العمل السري على غرار ما كان يحدث مع الإخوان في الضفة الغربية في الفترة نفسها[6].
ظهور حماس بقيادة الشيخ أحمد ياسين
وبسبب هذه الضربة القوية ضعفت جماعة الإخوان المسلمين في غزة في الفترة بين عامي 1957-1967، وفي هذه المرحلة بدأت الحركات القومية في الظهور والتمدد في فلسطين وعلى رأسها حركة "فتح" وغيرها. ولكن احتلال إسرائيل لغزة والضفة الغربية وحَّدَ الرؤية العامة للفلسطينيين جميعا في مقاومة المحتل الإسرائيلي، وشرع الإخوان في غزة للعودة من جديد من بعد سنوات الملاحقة في الحقبة الناصرية، واجتمعوا في سبتمبر/أيلول 1967 لوضع خطتهم وأهدافهم التي كانت الأسس الأولى لظهور حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بعد عشرين سنة من هذا الاجتماع.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى استشهاده عام 2004 برز اسم الشيخ أحمد ياسين في قطاع غزة، فقد اشتهر بخطبه ونشاطه الدعوي وكونه أحد أبرز عناصر الإخوان المسلمين في غزة. وكان الشيخ ياسين قد هُجِّر مع أسرته من جنوب عسقلان إلى غزة، وعاصر سنوات الاحتلال البريطاني والنكبة والحكم المصري زمن عبد الناصر، وشارك في مظاهرات داعمة لمصر في وجه العدوان الثلاثي سنة 1956، وجاء إلى القاهرة والتحق بجامعة الأزهر في أواخر خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأشرب فكر الإخوان حتى إنه اعتُقل فترة لهذا السبب.
وكان الشيخ ياسين قد أُصيب بالشلل الرباعي قبل ذلك، فلما عاد إلى غزة مُدرسا للغة العربية والعلوم الإسلامية أصبح له نشاط كبير في الدعوة والتربية وتنشئة الأطفال والمراهقين، وبحلول عام 1973 أنشأ الإخوان المسلمون في غزة "المجمّع الإسلامي" ثم أسسوا "الجمعية الإسلامية" عام 1976، كما يمكن اعتبار "الجامعة الإسلامية" التي أُنشئت سنة 1978 واحدة من المؤسسات التي وقف خلفها الإخوان في هذه المرحلة[7].
ويعتبر بعض الباحثين أن ظهور حركة حماس أثناء الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987 سبقته مرحلة جرى خلالها "بناء النفوذ السياسي واستكمال الأجهزة واختبار القوة" داخل جماعة الإخوان المسلمين فرع فلسطين بين عامي 1982-1987، ففي هذه المرحلة ترسخت العلاقة بين قطاع غزة والضفة الغربية، وشرعت الجماعة في جمع السلاح وإجراء التدريبات، ما أدى إلى اعتقال الشيخ أحمد ياسين عام 1984 ومعه جماعة من قيادات الحركة، وضُبط معهم أكثر من أربعين قطعة سلاح، واكتشف الإسرائيليون تأسيسهم جهازا عسكريا اسمه "المجاهدون الفلسطينيون"، وجهازا أمنيا آخر اسمه "مجد"[8].
وفي العام التالي أُفرِج عن الشيخ أحمد ياسين وأكثر من ألف فلسطيني آخر إثر صفقة تبادل بين الجانبين، ولم يمر على هذه الأحداث سوى عامين حتى اندلعت شرارة الانتفاضة الأولى في 9 ديسمبر/كانون الأول 1987 إثر استشهاد أربعة عمال فلسطينيين في حادث دهس متعمد في اليوم الذي سبقه، فقررت الحركة الإسلامية وفي القلب منها الإخوان ترتيب مظاهرات عارمة بدأت من مسجد مخيم جباليا. وفي هذه المظاهرات سقط العديد من الشهداء مثل حاتم أبو سيس ورائد شحادة، ولأول مرة شرع أبناء "الداخل الفلسطيني" يأخذون زمام المبادرة النضالية ضد الاحتلال بعد سنوات طويلة قادت فيها منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات هذا النضال في الأردن ثم لبنان. وقد استمرت هذه الانتفاضة طوال ست سنوات حتى الإعلان عن اتفاقية أوسلو سنة 1993، التي لم تعترف بها العديد من الحركات الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما[9].
وقد تزامنَ تأسيس حماس مع بداية الانتفاضة الأولى، حيث أصدرت الحركة بيانها الأول في 14 ديسمبر/كانون الأول 1987 بعد خمسة أيام فقط من بداية الانتفاضة، وأعلنت في بيان تأسيسها أنها جناح للإخوان المسلمين وامتداد لهم. وسرعان ما حققت الحركة نجاحا وانتشارا شعبيا واسعا في الأوساط الفلسطينية، وقد برز ذلك كما يقول الباحث محسن محمد صالح "في تحقيقها من ثلث إلى نصف الأصوات في الانتخابات الطلابية والنقابات المهنية، كما في جامعات النجاح وغزة والخليل وبيرزيت والقدس ونقابات المهندسين والأطباء والصيادلة والمحامين والمعلمين وغرف التجارة"[10].
في غضون ذلك، كان الجهاز العسكري لحماس والمسمى "المجاهدون الفلسطينيون" بقيادة الشيخ صلاح شحادة قد بدأ في عملياته العسكرية ضد إسرائيل، حيث تمكن من خطف وقتل الرقيب الإسرائيلي آفي ساسبورتس في فبراير/شباط 1989، والجندي إيلان سعدون في مايو/أيار من العام نفسه. وسرعان ما ضُرب هذا الجناح العسكري في الشهر نفسه إثر الحملة القوية التي قادتها إسرائيل ضده. وفي العام التالي في مايو/أيار 1990 شكلت حماس جناحها العسكري الحالي المسمى "كتائب عز الدين القسام" الذي حل محل كتائب "المجاهدون الفلسطينيون".
استمرت العمليات العسكرية لحماس في السنوات اللاحقة، فبحسب دراسة كتبها غسان دوعر، نفذت حماس 138 عملية عام 1993 خسر الكيان الإسرائيلي فيها حسبما أعلن بنفسه 79 قتيلا و220 جريحا. ورغم دخول منظمة التحرير الفلسطينية في تسوية مع إسرائيل، وإعلان اتفاقية أوسلو بين الجانبين في العام ذاته، وتوليها إدارة الضفة وقطاع غزة، ما أدى إلى انخفاض حاد في وتيرة الأعمال العسكرية لحماس؛ فإن ذلك لم يمنع ظهور "العمليات الاستشهادية" فيما بعد، ثم اندلاع الانتفاضة الثانية، ثم استقلال حماس بحكم قطاع غزة في السنوات الستة عشرة الأخيرة وحتى اللحظة الحالية التي تتعرض فيها غزة لإبادة متكاملة الأركان من جانب إسرائيل[11].
تلك هي قصة ظهور حركة حماس من رحم جماعة الإخوان المسلمين التي كانت قد دخلت فلسطين منذ ثلاثينيات القرن العشرين في الضفة وغزة، وشاركت في حرب 1948، قبل أن تسهم فيما بعد في ظهور حماس وجناحها العسكري "كتائب الشهيد عز الدين القسام" الذي يُعد الأبرز ضمن الفصائل التي تقود المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى اليوم.
————————————————————————————-
المصادر
[1] بيان نويهض: القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917- 1948، ص502، 503.
[2] صلاح شادي: صفحات من التاريخ ص62.
[3] بيان نويهض: السابق ص503، 504.
[4] محسن محمد صالح: التيار الإسلامي في فلسطين 1917- 1948، ص464- 466.
[5] أربع شهود كبار أمام محكمة الجنايات، أحمد فؤاد صادق باشا.
[6] خالد نمر أبو العمرين: حماس، جذورها – نشأتها – فكرها السياسي ص97- 101.
[7] السابق ص175- 178.
[8] السابق ص179.
[9] محسن محمد صالح: القضية الفلسطينية ص104.
[10] محسن محمد صالح: السابق ص105.
[11] غسان دوعر: موعد مع الشاباك، دارسة في النشاط العسكري لحركة حماس وكتائب القسام خلال سنة 1993م.