احتكار التاريخ عبر النهب والتدمير.. كيف تتعامل دولة الاحتلال مع آثار فلسطين؟

آثار القصف الإسرائيلي على غزة طالت البشر والحجر (رويترز)
أفادت "وزارة السياحة والآثار الفلسطينية" بتضرر مجموعة من المواقع الأثرية الهامة في قطاع غزة بعدما طالها القصف الإسرائيلي (رويترز)

قبل أيام، أدانت "وزارة السياحة والآثار الفلسطينية" (1)، عبر حساباتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، العمليات التخريبية التي تعرض لها موقع التراث العالمي "مدرجات جنوب القدس" على يد مجموعة من المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي، بعد قيام هؤلاء بوضع بيوت متنقلة (كرفانات) والبدء في تنفيذ أعمال تجريف بغرض بناء بؤرة استيطانية جديدة. وأشارت "الوزارة" إلى أن ذلك التخريب يأتي في إطار "حرب الإبادة التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ومحاولاته فرض سياسات التهويد والاستحواذ على التراث الفلسطيني وتزويره وتدميره، بغرض تبرير سياساته الاستيطانية".

جدير بالذكر أن لجنة التراث العالمي (2) أدرجت موقع "بتير" (مدرجات جنوب القدس) في قائمة التراث العالمي لليونسكو خلال الاجتماع الذي انعقد في العاصمة القطرية الدوحة في يونيو/حزيران 2014. ويقع المشهد الثقافي للمدرجات على بُعد 7 كيلومترات جنوب غرب القدس، ويمتد خلال سلسلة من الوديان تبدأ من وادي "المخرور" غرب مدينة "بيت جالا" باتجاه قرية "حوسان". وتشير لجنة التراث العالمي إلى أن تطور هذه المدرجات الزراعية اعتمد على شبكة من قنوات الريّ التي تغذيها مصادر المياه الجوفية، نظرا لطبيعة البيئة الجبلية المحيطة.

 

يبدو هذا الاستهداف الإسرائيلي للمواقع الأثرية الفلسطينية أقرب إلى سياسة ممنهجة، ففي وقتٍ سابق، أفادت "وزارة السياحة والآثار الفلسطينية" بتضرر مجموعة من المواقع الأثرية المهمة في قطاع غزة بعدما طالها القصف الإسرائيلي، جاء على رأسها: كنيسة "برفيريوس" في حي الزيتون التي تُعَدُّ أقدم كنائس غزة ويعود بناؤها إلى القرن الخامس الميلادي إبان الحقبة البيزنطية، كذلك "المسجد العُمري" في مدينة "جباليا" وهو الأقدم بين مساجد غزة، بالإضافة إلى المقبرة الرومانية في "جباليا"، ومئذنة مسجد "الشجاعية"، ومسجد "قشقار" الأثري الذي يعود إنشاؤه إلى القرن الـ13 الميلادي.

 

إسكات التاريخ الفلسطيني

"المفارقة أن غزة الجريحة هي التي بلسمت جرح الإنسان باختراعها الشاش الطبي، الذي جاء اسمه الإنجليزي "Gauze" مستمدا من اسم غزة الكنعانية في القرن الـ13 قبل الميلاد، حين كانت مركزا لنسج الحرير".

الدكتور حمدان طه، الباحث في علم الآثار والتراث الفلسطيني

تسلط المنشورات المتتالية التي تصدرها "وزارة السياحة والآثار الفلسطينية" الضوء على التدمير الممنهج الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي بحق التراث الفلسطيني، الأمر الذي يفسره أستاذ الدراسات الدينية البريطاني "كيث وايتلام" في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة.. إسكات التاريخ الفلسطيني" (3)، مشيرا إلى أن المعلومات الأثرية تدلّ على البقايا المادية للإنسان، ولأن الشعب الفلسطيني كان موجودا على أرض فلسطين منذ أقدم العصور، فلا بد أن تكشف التنقيبات الأثرية عن ذلك، لكن السلطات الصهيونية المهيمنة على الكشف الأثري في الوقت الحالي تعمل على طمس معالم الحضارة العربية الكنعانية التي سكنت هذه الأراضي.

ويلفت "وايتلام" الانتباه إلى أحد البنود المهمة في صك الانتداب البريطاني (المادة رقم 21)، التي تنصّ على أنه (4): "يجب على الدولة أن تؤمّن وضع وتنفيذ قانون خاص بالآثار القديمة" وفق قواعد بعينها، ويسرد صك الانتداب 8 قواعد مفصلة تنظّم عمليات الحفر والتنقيبات الأثرية، تتضمن حظر التنقيب عن الآثار القديمة إلا بموجب تصريح من الدائرة المختصة، وقصر إعطاء التصاريح لإجراء الحفريات على مَن يثبتون خبرتهم في هذا المجال، الذي كان معظم خبرائه في ذلك الوقت من الغربيين الذين تبنى أغلبهم النظرة الصهيونية.

حفر أرضية مسجد عمقا من قبل عصابات الآثار الإسرائيلية (الجزيرة)
حفر أرضية مسجد "عمقا" في قضاء عكا، من قبل عصابات الآثار الإسرائيلية (الجزيرة)

ويلفت "وايتلام" الانتباه إلى أحد البنود المهمة في صك الانتداب البريطاني (المادة رقم 21)، التي تنصّ على أنه (4): "يجب على الدولة أن تؤمن وضع وتنفيذ قانون خاص بالآثار القديمة" وفق قواعد بعينها، ويسرد صك الانتداب 8 قواعد مفصلة تنظّم عمليات الحفر والتنقيبات الأثرية، تتضمن حظر التنقيب عن الآثار القديمة إلا بموجب تصريح من الدائرة المختصة، وقصر إعطاء التصاريح لإجراء الحفريات على مَن يثبتون خبرتهم في هذا المجال، الذي كان معظم خبرائه في ذلك الوقت من الغربيين الذين تبنى أغلبهم النظرة الصهيونية.

ويؤكد "وايتلام" أن الصهيونية أرادت بهذا توفير المناخ الملائم للعمل في مجال التنقيب الأثري، بغرض العثور على دلائل تضع التاريخ الفلسطيني بأكمله في قبضة الدراسات الصهيونية، الأمر الذي يتماشى مع إصرار الزعيم الصهيوني "حاييم وايزمان" على أن يتضمن وعد بلفور إشارة إلى الرابط التاريخي بين اليهود المشتتين في أنحاء الأرض وبين "أرض آبائهم" كما سمّوها، فيما ينفي "وايتلام" تلك المقولة، مؤكدا أن تاريخ إسرائيل القديم هو مجرد لحظة قصيرة ضمن التاريخ الفلسطيني الطويل، وهو ما يعبر عنه المفكر الفلسطيني "إدوارد سعيد" في كتابه "لوم الضحية: البحث العلمي الزائف وقضية فلسطين" بقوله: "إن فلسطين كانت وطنا لحضارة لافتة للنظر على مدار قرون طويلة قبل هجرة القبائل العبرية إليها".

المؤرخ والباحث في التراث الفلسطيني الدكتور "حمدان طه" (5) يتفق مع آراء "وايتلام"، ويشير إلى أن الرواية الإسرائيلية تُعَدُّ نموذجا لتوظيف الآثار في خدمة أهداف أيديولوجية محددة ضمن المشروع الاستيطاني الصهيوني، وأن قوة الرواية الصهيونية لا تنبع من دلائل علمية وموضوعية قدر ما هي مرتبطة بالتحالفات الدولية والسياسية.

ويضيف "طه" أن فلسطين شهدت أكبر عملية نهب آثار منذ فترة الاحتلال البريطاني، وفي الوقت الحالي توجد آلاف القطع الأثرية المكتشفة في فلسطين فوق رفوف المتاحف الدولية حول العالم، إضافة إلى ما قامت به إسرائيل من عمليات نهب منظم للآثار عبر مؤسساتها أو من خلال الأفراد، وينصب اهتمام إسرائيل -وفق ما يرى طه- على المواقع ذات الأهمية الأيديولوجية التي ترسخ الادعاءات الصهيونية أو التي تُشكِّل موردا مهما للتنمية السياحية، مثل "تل الفرديس" الذي كان حصنا رومانيا، وجبل "جرزيم" في نابلس. وفي الوقت ذاته تلاقي الآثار الفلسطينية التي تناقض تلك الرواية تدميرا ممنهجا (كما هي الحال مع الكنائس والمساجد الأثرية في غزة)، أو تُترك عرضة للإهمال بصورة متعمدة (حيث تحظر إسرائيل على الفلسطينيين ترميم تلك المباني).

 

متحف "روكفلر"

"لقد هيمنوا على التاريخ ليسكنوا الواقع الذي استولوا عليه في حضن ذلك التاريخ".

الكاتب السوري "ممدوح عدوان"، كتاب "تهويد المعرفة"

سطو إسرائيل على التاريخ الفلسطيني يتجاوز سرقة مجموعة من القطع الأثرية إلى الاستيلاء على مواقع كاملة منها متحف بمقتنياته كافة، وهو متحف "الآثار الفلسطينية" الذي يُعَدُّ أول المتاحف المنشأة في فلسطين والمعروف حاليا باسم "روكفلر" (6). بدأ بناء المتحف عام 1928، واستغرق بناؤه ما يقرب من 10 سنوات، نظرا لأن أعمال الحفر كشفت عن وجود قبور إسلامية ما استدعى التنقيب عنها، ثم كان افتتاحه في يونيو/حزيران 1938. وقد احتوى المتحف آنذاك على العديد من القطع الأثرية المهمة، مثل آثار خربة المفجر (قصر هشام بن عبد الملك) ومخطوطات قمران (المكتشفة في البحر الميت عام 1947 وتعدها هيئة الآثار الإسرائيلية من أهم الثروات للدولة).

وبحلول عام 1948 ومع انتهاء الانتداب البريطاني على القدس، شكّلت حكومة الانتداب مجلس أمناء المتحف لإبقائه تحت سيطرتها إلى أن أمَّمته الحكومة الأردنية عام 1966، لكن بعد التأميم ببضعة أشهر استولى الإسرائيليون على المتحف خلال حرب يونيو/حزيران 1967، وتغير اسمه إلى متحف "روكفلر" نسبة لعائلة "روكفلر" الأميركية التي تبرعت بتكاليف بنائه. ويُدار المتحف حاليا بواسطة سلطة الآثار الإسرائيلية، وتعتبره جزءا من متحف إسرائيل الوطني المشيد في القدس الغربية.

JERUSALEM, ISRAEL - JUNE 25, 2017: Entrance to the Rockefeller Archaeological Museum in Jerusalem
متحف "الآثار الفلسطينية" الذي يعدّ أول المتاحف المنشأة في فلسطين والمعروف حاليا باسم "روكفلر" (شترستوك)

ورغم أن مقتنيات المتحف تنوعت ما بين الآثار اليونانية والمسيحية والإسلامية والكتابات الفرعونية التي توثق لحملة مصرية في القرن الـ13 قبل الميلاد على منطقة "بيسان"، فإن اللمسة الإسرائيلية تتدخل بشكل فجّ و"طفيلي" كي تبرهن على تزامن تلك الحضارات مع الوجود اليهودي في تلك الأراضي (7). على سبيل المثال، توجد كتابات محفورة باللغة العبرية في جميع أروقة المتحف وممراته، فيما يشير دليل المتحف إلى أن الفنان البريطاني "إريك جيل" الذي صمم تلك الحروف استوحاها من الحروف العبرية القديمة التي اكتُشفت في "الآثار القديمة في البلدان". بشكل مماثل، يقرن الدليل السياحي -بلا داعٍ- بين زمن الحملة المصرية ووجود النبي "يوشع بن نون" (الذي خرج ببني إسرائيل من التيه ودخل بهم إلى القدس وفق الرواية التوراتية).

ويبلغ التبجح الإسرائيلي أوجه عند النظر إلى مقتنيات المتحف الوطني في القدس، وهو المتحف الذي يحتوي على تنوع أثري يُمثِّل تأريخا فريدا للحضارات المتعاقبة على فلسطين، مثل توابيت الأنثروبويد المكتشفة بالأساس جنوب غزة في مدينة دير البلح (8)، وتبلغ نحو 50 تابوتا فخاريا مصنوعة يدويا باستخدام تقنية اللفائف، وتعود تلك التوابيت إلى أواخر العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي الأول (نحو القرن الـ14 قبل الميلاد).

في الوقت ذاته يصر المتحف على وضع المقتنيات الأثرية المتوافقة مع الروايات التوراتية في صدر المشهد، فيما تتوارى الاكتشافات المتصلة بفترة الحضارة العربية أو تكاد تنعدم، ومن ضمن ذلك الاحتفاء بتمثال الإمبراطور الروماني "هادريان" المُكتشف في بلدة "بيسان" الفلسطينية. ورغم أن التمثال يُعَدُّ في الحقيقة قطعة نادرة لكونه مصنوعا من البرونز مثلما يتميز بتشابهه القياسي مع الإمبراطور، يبدو أن الغرض الأساسي من تسليط الضوء على هذا التمثال دون غيره، يكمن -وفق الرواية اليهودية- في قمع الإمبراطور لتمرد اليهود خلال ثورة "بار كوخبا" في القرن الثاني الميلادي. وهكذا تستمر سياسة الاحتلال الإسرائيلي في توظيف التراث الفلسطيني في خدمة سرديته، فإما أن يستحوذ على هذا التراث ويقوم بتزويره بما يتماشى مع سياساته الاستيطانية، وإما أن يلجأ إلى تدميره وطمسه تماما عندما تصعب عملية التزوير.

———————————————————————————

المصادر:

  1. صفحة وزارة السياحة والآثار – دولة فلسطين – موقع فيسبوك.
  2. ادراج بتير (فلسطين) في قائمة اليونسكو للتراث العالمي و التراث العالمي المعرض للخطر، موقع اليونسكو.
  3. كتاب اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني – كيث وايتلام – ترجمة: سحر الهنيدي – عالم المعرفة العدد 294.
  4. صك الانتداب على فلسطين – وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية.
  5. فلسطين الأرض والتاريخ المنهوب – وكالة الأنباء الفلسطينية – فبراير/شباط 2023.
  6.  تاريخ فلسطين يختزله متحف "روكفلر" – الجزيرة – يونيو/حزيران 2016.
  7. All about Jerusalem, Rockefeller Museum.
  8. Anthropoid Coffins from Deir El-Balah, Jan Gunneweg, Archaeometry Unit, Institute of Archaeology, The Hebrew University of Jerusalem, Israel.
المصدر : الجزيرة

إعلان