شعار قسم ميدان

عبد الله التل ورجاله.. أبطال الانتصار العربي المنسي على إسرائيل عام 1948

يخرج حاخامان من معقل العصابات الصهيونية المُحاصَر في القدس، ويرفعان راية الاستسلام البيضاء يوم الجمعة للقائد العربي المنتصر، كان ذلك بعد أن حقق القائد وجنوده انتصارا تاريخيا وأجبروا الصهاينة على الاستسلام. هذا ليس مشهدا في فيلم خيالي، بل واقعة حقيقية لانتصار تاريخي حققته القوات الأردنية في القدس عام 1948، واستطاعت بموجبه أن تحتفظ بالقدس القديمة والأحياء المجاورة لها تحت السيطرة العربية وبعيدة عن أيادي الاحتلال، حتى أضاعت الأنظمة العربية ما اكتسبته تلك القوات من أراضٍ بعد الهزيمة في حرب عام 1967.

لطالما ارتبط عام 1948 في الأذهان العربية بذكريات الهزائم المُنكرة وضياع الأرض، لكن في الواقع بداخل هذا التاريخ ذكريات بطولات مذهلة طواها النسيان، ولعل الانتصار في معركة "القدس القديمة" الذي كان أبرز وجوهه القائد الأردني "عبد الله التل" هو الانتصار الوحيد المهم الذي حققه العرب في تلك الحرب. ويُذكِّرنا هذا الانتصار بأمرين، الأول أن النتيجة القاسية التي انتهت بها حرب عام 1948 لم تكن حتمية، وربما لو تغيرت بعض القرارات السياسية، وتوفرت إدارة وخطة عربية منضبطة للحرب، مع قدر أكبر من التعاون بين الدول والأنظمة العربية؛ لتغير مجرى التاريخ، ولربما كان بوسع العرب أن يحققوا النصر كما حققه عبد الله التل ورفاقه. والأمر الآخر أن أزمة العرب في حروبهم مع الاحتلال الإسرائيلي لم تكن في طبيعة المقاتل العربي، وإنما غالبا ما تعلَّقت بالإدارة السياسية التي تحركه والتخطيط الذي يرسم خطواته.

أضواء على حرب 48

"القيادة المركزية للجيوش العربية في الحرب لم تُثبت سيطرتها ولم تستطع فرض كلماتها على قادة الجيوش الذين لم ينصاعوا لأوامرها".

(صالح صائب الجبوري، رئيس أركان الجيش العراقي)

تُصوِّر إسرائيل في تاريخها الرسمي عادة أن حرب 1948 مع العرب كانت حربا دفاعية ضد جيوش جاءت لقتل اليهود، وهي مغالطة أوضحها البروفيسور "جوزيف مسعد"، أستاذ السياسة العربية وتاريخ الأفكار في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، إذ كانت الميليشيات الصهيونية قد بدأت في طرد الفلسطينيين بالقوة من ديارهم قبل دخول أي جيش عربي إلى فلسطين، حيث بدأ الطرد بمجرد أن أصدر مجلس الأمم المتحدة قراره بتقسيم فلسطين بين السكان الأصليين وبين المُحتلين في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، ومن ثم كان القرار العربي بدخول الجيوش العربية للدفاع بالأساس عن الفلسطينيين الذين هجَّرهم الصهاينة وشرَّدوهم.

استطاع الطيار المهندس "عبد الحميد محمود" أن يُحوِّل طائرات النقل إلى قاذفات للقنابل، وأصلح سربا من طائرات تركها الأميركيون في مطار القاهرة عام 1945 لتُستخدم في الحرب. (مواقع التواصل)

على عكس ما يتصور البعض، لم يدخل العرب الحرب بأسلحة فاسدة أو شديدة التخلف، ولم تنقص جنودهم الروح أو الإيمان بالقضية، لكن إدارتهم السياسية والعسكرية كانت غارقة في الانقسام والعشوائية وغياب التخطيط العلمي. وبحسب العديد من المصادر، كان الجيش الأردني هو الأكثر جاهزية بين الجيوش العربية من الناحية التقنية تحديدا في مجال الأسلحة الثقيلة، مثل المدرعات والمدفعية والدبابات. وقد امتلك المصريون بدورهم أسطولا من الطائرات، إذ استطاع الطيار المهندس "عبد الحميد محمود" أن يُحوِّل طائرات النقل إلى قاذفات للقنابل، وأصلح سربا من طائرات تركها الأميركيون في مطار القاهرة عام 1945 لتُستخدم في الحرب. بمعنى أصح تمتعت الجيوش العربية بأسلحة يمكن أن تواجه بها عدوَّها، وإن عانت بسبب ضعف الإدارة والتخطيط من نقص في الذخائر، بينما استطاعت العصابات الصهيونية آنذاك أن تحصل على أسلحة من التشيك وأسلحة مُهرَّبة من أوروبا والولايات المتحدة، وكانت الأسلحة التشيكية الأهم على الإطلاق.

أما على صعيد العدد، فرغم أنه لا مقارنة بين حجم الشعوب العربية وحجم العصابات الصهيونية، فإن الفرق بين عدد قوات الطرفين على أرض المعركة لم يكن كبيرا، وربما كان ذلك إحدى أهم علامات سوء التخطيط على الجانب العربي. لقد استطاعت الميليشيات الصهيونية نشر 29 ألف رجل مع بداية الحرب بتنظيم عالي الجودة، ولم يُمثِّل هؤلاء كل الجنود القادرين على الدخول لساحة المعركة، حيث بلغت أعداد أفراد المنظمات الصهيونية المقاتلين بحلول وقت الحرب نحو 100 ألف شخص بحسب المصادر الإسرائيلية، ووفقا للمصادر نفسها كان جنود المشاة في العصابات الصهيونية أكثر عددا من جنود المشاة في الجيوش العربية التي جاءت لنجدة فلسطين.

في حين بلغ تعداد جالية المُحتلين اليهود نحو 600 ألف نسمة فحسب، كان عدد الجنود العرب والصهاينة متقاربا على أرض معركة 48. (مواقع التواصل)

كانت تلك واحدة من أبرز مفارقات الحرب، ففي حين بلغ تعداد جالية المُحتلين اليهود نحو 600 ألف نسمة فحسب، مقابل 19 مليون نسمة في مصر وحدها آنذاك، كان عدد الجنود العرب والصهاينة متقاربا على أرض المعركة، في زمن عُدَّ فيه عدد الجنود أهم من التكنولوجيا الحربية التي لم تكن قد وصلت بَعد إلى مدى تطورها الذي نعرفه اليوم. وقد دخلت مصر الحرب بعشرة آلاف مقاتل وزوَّدتهم بعد ذلك بعشرة آلاف آخرين، بينما حاربت الأردن بـ12 ألف مقاتل وبقيادة عسكرية بريطانية، في حين أرسل العراق 15 ألف مقاتل، وشاركت سوريا بـ5 آلاف مقاتل فقط، وقدَّمت المملكة العربية السعودية نحو 3000 آلاف مقاتل، وأرسل لبنان نحو 1000 مقاتل.

ولكن رغم الانكسار العربي في الحرب والأداء المُخيِّب للجيوش العربية الذي لم يؤدِّ في النهاية إلى النتائج المرجوة، وأعقبه فشل سياسي أكبر في ترتيبات ما بعد الحرب، فإن تلك الحرب شهدت معركة فاصلة استسلم فيها الصهاينة أمام قائد عربي وجنود أردنيين وفلسطينيين.

معركة القدس.. هنا كتب الجنود الأردنيون التاريخ بدمائهم

"لقد خسرنا في معركة القدس ضعفَيْ ما خسرناه من جنود في الحرب كلها".

(ديفيد بن غوريون، أول رئيس لدولة الاحتلال الإسرائيلي)

تُعَدُّ معركة القدس بحسب الرئيس الإسرائيلي الأسبق "حاييم هرتسوغ"، الذي شارك في الحرب، الانتصار الوحيد ذا الأهمية الذي حققه العرب في حرب 1948. فقد استطاع القائد الأردني عبد الله التل، وعمره لم يتجاوز بعد الثلاثين عاما، أن يقود الجنود الأردنيين والمجاهدين الفلسطينيين لانتصار تاريخي، ويمنع اليهود من احتلال المدينة القديمة في القدس، إذ كان التل واحدا من أبرز القادة على تلك الجبهة ولُقِّب ببطل معركة القدس.

فرقتا الجيش الأردني اللتان خضعتا لقيادة عربية، وهما الفرقة الرابعة بقيادة "حابس المجالي" والفرقة السادسة بقيادة "عبد الله التل"، فقد تصدَّر اسمهما الانتصار في معركة القدس. (مواقع التواصل)

جمع التل بين الأساليب التقليدية وغير التقليدية في هذه المعركة، فاعتمد على ثلاثة تكتيكات رئيسية في خطته العسكرية، أولها تفجير المباني والأسوار بواسطة المجاهدين المُدرَّبين على ذلك، وثانيها إبقاء الحي المُستهدَف تحت نيران الهاون باستمرار لإضعاف معنويات المُتحصِّنين به من الصهاينة، وذلك حتى في الساعات المتأخرة من الليل، وثالثها البراعة الجغرافية بإدخال الآليات المُدرَّعة في شوارع ضيقة بشكل مفاجئ للحي المُستهدَف بالهجوم.

بحسب وصف "كينيث بولاك"، خبير الأمن القومي والشؤون العسكرية الأميركي الذي عمل سابقا مديرا لشؤون الخليج العربي في مجلس الأمن القومي الأميركي، في كتابه "العرب في الحرب.. التأثير العسكري 1948-1991″، فإن الجيش الأردني "استطاع في هذه المعركة مزج المشاة مع الآليات المدرعة ببراعة داخل المدينة وبمساندة من الهاون والتصويب المباشر من فِرَق القناصين". وكانت الأردن قد دخلت الحرب وهي الأفضل عتادا نسبيا بين الجيوش العربية والأمهر تكتيكيا للحرب تحت قيادة إنجليزية للجنرال البريطاني السير غلوب باشا، الذي أُسيل الكثير من الحبر حول دوره في الحرب، إذ يرى الكثير من المؤرخين أن تخطيطه للحرب لم يتماشَ مع غاية التحرير العربية، وأنه تعمَّد إجراء تغييرات مفاجئة في خطة الجيش الأردني في اللحظات الأخيرة.

كتاب "العرب في الحرب.. التأثير العسكري 1948-1991" (مواقع التواصل)

أما فرقتا الجيش الأردني اللتان خضعتا لقيادة عربية، وهما الفرقة الرابعة بقيادة "حابس المجالي" والفرقة السادسة بقيادة "عبد الله التل"، فقد تصدَّر اسمهما الانتصار في معركة القدس. فبينما اشتدت معارك الحرب، بدأ الإسرائيليون يُسقِطون القرى الفلسطينية تباعا، وهاجموا القدس بضراوة رغم أن هذا لم يوافق خطة التقسيم التي أقرَّتها الأمم المتحدة نفسها، في حين أضرب بعض الجنود الأردنيين عن الطعام رفضا للمواقع الدفاعية التي وضعتهم فيها إدارة الجيش البريطانية، في وقت تمدَّدت فيه العصابات الصهيونية مستغلة الفشل التخطيطي العربي.

وبينما كانت العصابات الصهيونية قد سيطرت على جزء كبير من المنطقة الواقعة خارج أسوار المدينة القديمة في القدس وقصفت ما يسمى بالأحياء العربية فيها بقذائف المورتَر، توجه المقدسيون باستغاثتهم للملك عبد الله الأول مذكرين إياه بمكانة القدس في الإسلام والمسيحية. ومن ثمَّ أمر الملك بأن يتوجه الجيش الأردني إلى القدس، مؤكدا على قائد الجيش غلوب باشا أن ينفذ الأوامر، ومشددا على أن الحفاظ على البلدة القديمة في القدس هو الأهم في تلك اللحظة. وعلى الجانب الآخر، وجَّه الملك قائد الفرقة السادسة عبد الله التل بالاتجاه مباشرة للقدس، وهو قرار فارق في سير الحرب.

بطل القدس.. من البطولة إلى المنفى

عبد الله التل (مواقع التواصل الاجتماعي)

"قليلون هم الضباط العرب الذين نالوا إعجاب اليهود، وربما كان الجنرال عبد الله التل هو الوحيد".

(البروفيسور الإسرائيلي رونين إسحاق، المختص بقضايا الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب)

"أيها الضباط وضباط الصف والجنود في الكتيبة السادسة، إن مصير العالم العربي يتوقف على ثباتكم وشجاعتكم وصبركم. إنكم ولا شكَّ ستحافظون على سمعة الجندي العربي الذي إذا هاجم لا يهاب الموت، وإذا دافع لا يتراجع حتى النهاية، هيا لتبييض أعراض العرب بالدماء، والله ينصركم". كان هذا هو البيان الذي ألقاه التل على جنوده حين عسكر غرب القدس قبل أن يبدأ المعركة الباسلة، إذ كان على كتيبة التل أن تدخل بعد ذلك للمدينة القديمة وتمنع الصهاينة من السيطرة على مقاليد الأمور. وقد نجح الجنود والمجاهدون بالفعل في الانتصار بمساعدة الكتيبة الرابعة بقيادة حابس المجالي، وأبعد الجنود العرب الصهاينة عن أسوار المدينة القديمة بعد المعركة، وسقط الشهداء الأردنيون شهيدا تلو الآخر تاركين قصة وفائهم لأسوار المدينة المقدسة يحكيها الزمان، حتى انسحب جنود العصابات الصهيونية في الأخير.

 

 

وقد سطرت الكتيبة الرابعة تحت قيادة حابس المجالي هي الأخرى ملحمة عند باب الواد، حيث استبسلت لمدة 15 ساعة متواصلة حتى انتصرت على قوات صهيونية فاقتها عتادا أثناء محاولتها اختراق الجيش الأردني ودخول القدس لمدِّ الصهاينة بالدعم وهُم يُدَكُّون بواسطة عبد الله التل على الجانب الآخر. ولو تمكن الجنود الصهاينة من العبور في تلك المعركة من الجهة الأخرى، لتمكَّنوا من تأمين خطوط الإمداد للمقاتلين الصهاينة داخل القدس، وهو ما كان ليُغيِّر نتيجة المعركة.

أطبق عبد الله التل الحصار على جنود العصابات الصهيونية في حارة اليهود من خلال سيطرته على التلال المحيطة بالقدس القديمة، وكان عدد المقاتلين الصهاينة في الحي 1800 مُحتل. وسيطر التل تدريجيا بالتكتيكات التي وصفناها آنفا على عدة مناطق في الأحياء اليهودية، ووجَّه الجيش الأردني إنذارا للمُحاصَرين بالاستسلام. وفي 28 مايو/أيار 1948، كتب عبد الله التل الكلمة الأخيرة في المعركة، فقد استسلم الحي اليهودي، وأصبح جميع الرجال المحاربين من الصهاينة أسرى للجيش الأردني، بينما سُمِح للمدنيين بالخروج، ولم يتم التعرض للنساء رغم ما فعله اليهود بالنساء العربيات في دير ياسين، وقد كانت نتائج المعركة بحسب ما أرَّخه عبد الله التل: 370 قتيلا صهيونيا، و180 مصابا، و340 أسيرا.

بقيت القدس القديمة عربية بفضل دماء شهداء معركة القدس، حتى ضيَّعتها الأنظمة العربية عام 1967، وبقي الانتصار الأردني في تلك المعركة طارحا لأسئلة متعددة أهمها: كيف كانت لتصبح نتيجة حرب 1948 لو استطاعت الدول العربية أن تخطط لها عمليا وبتنسيق أعلى فيما بينها وبعدد أكبر من الجنود في بلاد لا ينقصها السكان المتحمسون؟ وكيف كانت لتتغيَّر نتيجة الحرب لو أن إدارة الجيش الأردني لم تكن بريطانية في ذلك الوقت؟

 توفي عبد الله التل عام 1973، لكنه لم ينسَ أن يوصي بأن يُنقَل رفاته إلى القدس بعد تحريرها. (مواقع التواصل)

بعد المعركة بعام، وبعد أن صار عبد الله التل قائدا عسكريا للقدس، بدأ الرجل يطالب بتفكيك القيادة البريطانية للجيش الأردني وجعل قيادة الجيش عربية، وذلك نتيجة لما رآه من الإدارة البريطانية في حرب 1948 من تقاعس عن خدمة أهداف الأردن العربي الحقيقية بحسب تجربته. وقد حامت حول التل في الأردن اتهامات بمحاولة تنفيذ مؤامرة انقلابية في البلاد، ولذا نُقِل ملحقا عسكريا في لندن، فاستقال من الجيش ولجأ إلى القاهرة، وكتب فيها كتابات اتسمت بالطابع الإسلامي واهتمت في أغلبها بالقضية الفلسطينية.

بعد تلك الأعوام، أعادت السلطات الأردنية النظر في مسألة التل، فعاد إلى بلاده عام 1956 بعد أن عفا عنه الملك الحسين بن طلال، وشغل مناصب مرموقة مثل مستشار بوزارة الأوقاف وسفير بوزارة الخارجية، إذ بدأت المملكة في الاحتفاء به باعتباره بطلا مُخلَّدا في تاريخ العسكرية الأردنية وعيَّنه الملك عام 1971 عضوا في مجلس الأعيان، ومنحته المملكة أوسمة الاستقلال والإقدام العسكري والامتياز والنهضة. وقد توفي عبد الله التل عام 1973، لكنه لم ينسَ أن يوصي بأن يُنقَل رفاته إلى القدس بعد تحريرها، تلك المدينة التي شهدت أسوارها على بطولاته هو ورجاله.

_____________________________________

المصادر

  1. The Myth of the "Few Against the Many" in 1948
  2. وثائقي | معركة القدسمعركة القدس القديمة .. فشلُ اليهود وبسالة "الكتيبة السادسة"│ مذكّرات قائد جبهة القدس عبد الله التلعبد الله التل.. قائد معركة القدسعبـد الله التـل .. بطل معركة القدسعبدالله التل ومعركة قلب القدس
  3. محليات/قائد-معركة-القدس-عبدالله-التل-قصة-استسلام-الغطرسة-أمام-الزحف-المقدس
  4. حرب 1948
  5. حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها../ جوزيف مسعد*خطط المعركة واعتراض غلوب.. ألغاز حرب 1948 وتفاصيل ما قبل النكبة│مذكرات قائد جبهة القدس عبد الله التل
المصدر : الجزيرة