شعار قسم ميدان

منها وقف قُفة الخبز والبغلة والحُلي والمدارس الحربية.. تعرف على عجائب الأوقاف العثمانية

الأوقاف العثمانية.. منها وقف الخبز والبغلة والحُلي والمدارس الحربية

الوقف هو الصدقة الجارية، وفي الاصطلاح الفقهي تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة أو الثمرة، أي الحفاظ على الأصل سواء كان أرضا أو بيتا أو عقارا أو بئرا أو مصنعا أو أي قيمة مادية لها ريع ثابت، والاستفادة من هذا الريع في خدمة المجتمع الإسلامي ومؤسساته ومنشآته ومنافعه العامة والحرص على ديمومتها واستمرارها عبر الأجيال. وقد ظهرت هذه المؤسسة منذ فجر الإسلام، حين ظهرت مجموعة من المؤسسات الاجتماعية والخيرية المهمة، سواء على مستوى الأسرة أو الجماعة أو الأمة.

 

والمُتتبِّع لمسيرة المجتمعات الإسلامية في التاريخ المعاصر يلاحظ أن تحوُّلا جذريا أصاب مؤسسة الوقف. فبعد أن كانت مؤسسة أهلية ذات درجة عالية من الاستقلال الإداري والمالي والوظيفي، ارتبطت بها مهام اجتماعية واقتصادية متعددة كالتعليم والصحة والعناية بالمساجد وغير ذلك، صارت مؤسسة الوقف مؤسسة حكومية تحكمها أنظمة وسياسات الحكومات وخططها، ومن ثمَّ فقدت توهُّجها ودورها والتفاف الناس من حولها. وقد حرص المسلمون جيلا بعد جيل على استمرار هذه المؤسسات الوقفية التي ساعدتهم في حياتهم الاقتصادية والتعليمية والصحية، ولم تجعلهم مجرد تابع مُنتظِر لما تنفقه عليهم الدولة من بيت مالها ووزاراتها. ولم تتوقف حركة المجتمع الإسلامي وكذلك الدولة في إنشاء الأوقاف الجديدة في مختلف العصور، لا سيما في زمان الدولة العثمانية.

 

أوقاف المساجد والحرمين الشريفين

أوقاف المساجد والحرمين الشريفين

حُميت هذه المؤسسة بمنظومة قانونية وقضائية نظَّمها كبار الفقهاء والعلماء على مرِّ العصور، وكذلك في ظل العثمانيين الذين نرصد في عصرهم أهم هذه المؤسسات الوقفية وأنواعها. فعلى صعيد الوقف الديني المتمثِّل في إقامة المساجد والجوامع العامرة بذكر الله، تزامن قيام الدولة العثمانية في بداية القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي مع توسع ملحوظ لهذه الأوقاف، التي بلغت أوجها في ظل التوسع والانتشار الذي حققه العثمانيون في البلدان الإسلامية في المشرق، وكذلك في بلدان في أوروبا الشرقية والوسطى. ونلاحظ أنه قلما خلا عهد سلطان من سلاطين العثمانيين من إنشاء مسجد وتحديد الأوقاف الجزيلة التي تصُونه. فمثلا، أنشأ السلطان "مصطفى الثالث" في "أُسكُدار"، أحد أحياء العاصمة إسطنبول، جامعا كبيرا ووقف عليه خيرات كثيرة، وأصلح جامع السلطان محمد الفاتح الذي زُلزلت أركانه زلزلة شديدة من قبل ذلك[1].

 

كما اهتم كثير من أغنياء المسلمين وكبار الموظفين بإنشاء هذه المساجد وتحبيس الأوقاف عليها. ففي دمشق أنشأ "صالح آغا بن صدقة"، أحد كبار أثريائها ومتقدميها، "خيرات وعمَّر مسجدا بخطبة شرقي داره، وأوقف له أوقافا، ورتب فيه أجراء ومؤذنين"[2]، ومثله ما فعله الخواجة "عمر السفرجلاني"، أحد أثرياء دمشق، فقد "عمَّر مسجدا كبيرا له مئذنة، وله أوقاف ومبرات لا تُحصى"[3].

 

فيما يتعلق بأوقاف الحرمين الشريفين والمعتمرين والحجاج والقاطنين، سعت المؤسسات الرسمية في الدولة وعلى رأسها السلطان نفسه إلى وقف الأوقاف النافعة للفقراء والمحتاجين، حيث جعل السلطان "مراد الثالث" "دشيشة (نوع من الطعام) لأجل فقراء المدينة الشريفة ووقف عليها أوقافا كثيرة"، وأتى وقف السلطان "أحمد الأول" من جملة هذه الأوقاف النافعة، فقد "عمل سحابة (مظلة) بطريق الحاج المصري يُحمل بها الماء للفقراء والمساكين ووقف عليها أوقافا"[4]، كما أورد "المحبي" في "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر".

الحج بالدولة العثمانية

وامتد الاهتمام بإنشاء الأوقاف إلى الحرمين الشريفين نفسيهما. فقد رتَّب السلطان "محمود الثاني" رواتب للعلماء والخطباء بالحرمين، وللقائمين بخدمة المسجدين مثل المؤذنين والفراشين والكناسين والبوابين، وجعل للجميع رواتب جزيلة من النقود الجليلة، بعضها شهريات وبعضها سنويات، واشترى لذلك عقارات كثيرة، وأوقفها ليصرف من غلاتها جميع الرواتب، فصارت حسنة جارية إلى وقت طويل يحصل منها كمال النفع والإعانة للمذكورين على معاشهم"[5]، كما أخبرنا "عبد الرزاق البيطار" في "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر".

 

من الأوقاف اللافتة التي تُعبِّر عن رعاية الخلافة العثمانية للحُجاج، وهو أكبر مشروع إنشائي في عصره بداية القرن العشرين حشد له السلطان "عبد الحميد الثاني" الطاقات والأموال، ما عُرف بـ"وقف سكة حديد الحجاز". فقد كانت أملاك وعقارات هذا الوقف تقع في ساحة البرج في بيروت، وهو أكبر عقار منفرد في الساحة، وكان الهدف من إيجاد هذا الوقف العقاري تأمين أموال سنوية للإنفاق على سكة حديد الحجاز الممتدة من دمشق إلى المدينة المنورة، لتسهيل طريق الحجاج إلى بيت الله الحرام، وقد خرَّب الإنجليز هذه السكة أثناء الحرب العالمية الأولى[6].

 

كذلك، من الأوقاف المهمة التي أُنشئت من أجل تسهيل انتقال عامة الناس، وجعل ريعه في خدمة المرضى، ما قام به السلطان "عبد المجيد خان"، حيث أنشأ جسرا يربط إسطنبول بقرية "غلطة" إلى شمالها الشرقي، وهي أحد أحيائها الشهيرة اليوم، وأوقفه على فقراء المرضى؛ حيث ألزم مَن يسير عليه بدفع قيمة معينة من المال تُنفق على "دار الشفا"، أي المستشفى الخيري في العاصمة العثمانية[7].

 

أوقاف المستشفيات

أوقاف المستشفيات

عنيت الدولة العثمانية بإنشاء المستشفيات الموقوفة، كما حَرَصت على ترميم ما تشعَّث من البيمارستانات (المستشفيات) التي ورثتها الدولة العثمانية في الأقطار العربية في الشام ومصر وشمال أفريقيا. ففي مصر رُمِّمَت كثير من مستشفيات العصر المملوكي، وفي مقدمتها البيمارستان المنصوري في القاهرة في شارع المعز[8]. وفي دمشق، حرص الولاة على تجديد عمارة البيمارستان النوري والقيمُري، وهما من أشهر المستشفيات الإسلامية في ذلك الوقت، وكانا قد اضمحلَّ وقفهما، فحرصت مؤسسة الخلافة على اختيار أفضل المتولين من أصحاب الخبرة والكفاءة لإدارة هذه الأوقاف. وكان "حسن باشا بن عبد الله الأمين" من أصحاب الكفاءة والخبرة في هذا الشأن؛ حيث "ولي وقف البيمارستان النوري فأقام أموره، وبعدها فاستدعاه "المولى مصطفى" المعروف بـ"كوجك" قاضي القضاة بدمشق لولاية البيمارستان القيمري"[9]، كما يذكر المحبي في "خلاصة الأثر".

 

والحق أن المسلمين في ذلك العصر -كما في العصور السابقة- أبدعوا ونوَّعوا في أوقاف المستشفيات، حتى إننا وجدنا في ذلك العصر شروطا في حجة الأوقاف تدلُّ على الوعي التام، والرحمة بالمرضى ومراعاة أحوالهم، بل وتقيُّدها بالمعايير الصحية؛ فقد ذُكِر في نص الوقفية وجوب تقديم طعام كل مريض في إناء مستقل خاص به من غير أن يستعمله مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل، وقد خُصِّصت في البيمارستانات قاعات للمؤرَّقين من المرضى؛ إذ عُزِلوا فيها، وشنفوا آذانهم بسماع الأناشيد والقصص التي رواها عليهم القُصَّاص حتى غلبهم النوم. وظلَّت هذه العادة حتى دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م، فشاهدها العلماء الفرنسيون بأنفسهم، وكتبوا عنها، مما يُدلل على البعد الإنساني والأخلاقي والنفسي الذي اضطلعت به هذه المؤسسات الوقفية.

 

ومن الأوقاف الغريبة واللافتة في عهد العثمانيين ما ذكره الدكتور "مصطفى السباعي" في كتابه "من روائع حضارتنا" أنه حُكي له عن وقف غريب في مدينة طرابلس الشام، كان ريعه مُخصَّصا لتوظيف اثنين يمران في المستشفيات يوميا، فيتحدثان بجانب المرضى حديثا خافتا ليسمعه المريض بما يوحي له بتحسن حالته[10]، فإذا سمع المريض الحديث تحسَّنت حالته النفسية، وكان عونا له على الشفاء السريع.

 

وللمدارس أوقافها

أوقاف المدارس العثمانية

واهتمَّ العثمانيون كذلك بوقف المدارس والمكتبات العامة وشجَّعوا الناس على ذلك، فقلما خلَت مدينة تابعة لهم من إنشاء مدرسة موقوفة لطلابها من أبناء الفقراء والأغنياء. ومن أشهر هذه المدارس: مدرسة السلطان مراد ببلدة "مغنيسا"، ومدرسة السلطان سليم الأول بإسطنبول، ومدرسة السلطان أحمد، وجميعها في العاصمة وحواليها، علاوة على مدارس أخرى مثل المدرسة السلطانية المرادية بمكَّة، ومدرسة السلطان عبد الحميد. ومن المدارس المتخصصة الموقوفة في ذلك العصر المدارس الحربية، وهو نظام جديد لم يعهد العالم الإسلامي حينئذ أن تُجعَل له الأوقاف. على سبيل المثال اهتم السلطان "مصطفى الثالث" دون غيره اهتماما كبيرا بإنشاء هذه المدارس، إذ اهتم بإنشاء مدارس الطوبجية أو المدفعية، و"إنشاء مدرسة حربية لتخريج الضباط على مثال مدرسة سانسير الفرنساوية التي أسَّسها نابليون الأول بفرنسا"[11]، وجعل لها أوقافا أمدَّتها بالمال لتخريج ضباط متخصصين في شتى المجالات العسكرية.

 

وتنوَّعت الأوقاف العِلمية في ذلك العصر، فهناك مَنْ أَوْقَفَ أوقافا عجيبة للجامع الأزهر، الذي كان بمنزلة جامعة كبرى في مصر والعالم الإسلامي، فضمنت حُسْنَ سَيْرِ العملية التعليمية، ووفَّرت أكبر قسط من الراحة للمدرسين. ومن هذه الأوقاف وقف البغلة، وهو وقف خُصِّصَ للإنفاق على البغال، وسيلة المواصلات الأساسية في ذلك العصر، التي ركبها المدرسون بالجامع الأزهر لضمان الراحة لهم[12]. وقد حرص عامة المسلمين على إنشاء هذه المدارس الموقوفة، فقد بنى المفتي الأعظم في الدولة العثمانية "أحمد بن يوسف" مدرسة بالقسطنطينية تجاه داره بالقرب من جامع السلطان محمد الفاتح[13]، وحرص والي دمشق "سُليمان باشا" على "إنشاء مدرسة لصيق دار حريمه، حسنة غزيرة الماء"[14] أوقفها لطلبة العلم، كما بنى قاضي العسكر "قرة جلبي محمود بن محمد أبو الفضل" "مدرسة لطيفة بالقرب من جامع شهرزاده بالقسطنطينية وصرف عليها مالا جزيلا"[15].

 

تُدلِّل هذه المدارس الموقوفة على أمر مهم، وهو مدى العطاء الذي تمتع به أبناء الحضارة الإسلامية؛ حيث أُنشئت هذه المدارس فضلا من أصحابها، ففي حين تعيَّن على الدولة أن تُقيم من بيت مالها عشرات المدارس لطلبة العلم، كانت المدارس الموقوفة تعبيرا حقيقيا عن عظمة وروعة التكافل الاجتماعي بين المسلمين.

 

من غرائب الأوقاف

الخبز في العصر العثماني

من أجمل الأوقاف الخيرية التي وُجدت في بيروت في العصر العثماني وقف سُمي بـ"قُفة الخبز"، وهو وقف خيري أُقيم لغرض اجتماعي إنساني، وكان موقعه في باطن بيروت، وله دكان خاص تُوضع فيه قفة مليئة بالخبز في كل يوم جمعة، يقصدها المعوزون والفقراء والمساكين القاطنون في بيروت من مختلف الطوائف، فيوزَّع المسؤول عن وقف "قفة الخبز" عليهم، ويأخذ كلٌّ منهم حاجته وينصرف دون سؤال أو إذلال. وكان لهذه القفة أوقاف عديدة مثل بعض العقارات والمخازن التي عاد ريعها وربحها ووارداتها لقفة الخبز والعمل على استمرارها[16].

 

ومن الأوقاف الرائعة التي انتشرت آنذاك، وجدنا أوقافا لإعارة الحلي والزينة في الأعراس والأفراح، فاستفاد من هذا الوقف الفقراء والعامة بما يلزمهم من الحُلي لأجل التزيُّن في الحفلات الخاصة والعامة، قبل إعادته إلى مكانه بعد انتهائها. ومن ثمَّ تيسَّر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحلَّة لائقة، ولعروسه أن تُحلَّى بحلية رائعة، مما يجبر خاطرهما[17]. ومما يسترعي الانتباه وجود أوقاف مُخصَّصة لعلاج الحيوانات ورعايتها، وقد وُجِدت نصوص وقفية تدلل على وجود أوقاف خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقاف أخرى لرعاية الحيوانات المُسِنَّة والعاجزة، ومنها أوقاف المرج الأخضر الذي حُوِّل فيما بعد إلى ملعب لكرة القدم في دمشق؛ كما وُجِد وقف آخر للقطط تأكل منه وتنام فيه[18].

 

لم تكن منظومة الأوقاف هذه حكرا على الدولة والأمراء وحدهم، بل ساهم عامة الناس من كل الأقطار فيها. ففي العراق اشتهرت العديد من العوائل بأوقافها، مثل وقف "آل بريطم بستان في زقاق بليبل (بكربلاء) الذي أُوقفت حاصلاته لإطعام الفقراء"[19]. وهكذا أسهمت الأوقاف في عصر العثمانيين -كما في العصور السابقة- في رعاية كلٍّ من الدولة والمجتمع الأهلي لمصالحهم والحرص على ديمومة هذه المنشآت والمشاريع العامة.

——————————————————————–

المصادر

[1] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص340.

[2] ابن كنان: يوميات شامية ص37.

[3] السابق: ص40.

[4] المحبي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 1/182.

[5] عبد الرزاق البيطار: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر 2/131.

[6] حسان حلاق: أوقاف المسلمين في بيروت في العهد العثماني ص151.

[7] الآلوسي: غرائب الاغتراب ص60.

[8] الجبرتي: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار 1/493.

[9] المحبي: خلاصة الأثر 1/391.

[10] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص112، 113.

[11] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص446.

[12] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص102.

[13] المحبي: خلاصة الأثر 1/231.

[14] ابن كنان: يوميات شامية ص136.

[15] المحبي: خلاصة الأثر 3/128.

[16]حسان حلاق: أوقاف المسلمين في بيروت في العهد العثماني ص150.

[17] شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي 3/8.

[18] السابق ص89.

[19] وزارة الإعلام السورية: لكود القشعم 1/201.

المصدر : الجزيرة