يوم تحالَف المماليكُ والعثمانيون.. شرق المتوسط تحت السيادة الإسلامية

في نهايات القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، كانت جحافل الصليبيين الأوروبيين القادمة من البر والبحر تحط رحالها في المشرق، كانت العلاقات بين الإسلام والغرب قد بلغت أوجها آنذاك في صراع محتدم في ثلاث جبهات في آن واحدة، في الشرق من ناحية الأناضول في صراع السلاجقة والبيزنطيين، ومن الجنوب في البحر المتوسط من ناحية مصر وبلدان شمال أفريقيا، ومن الغرب في صراع لا تهدأ وتيرته في الأندلس. وقد أدرك الجميع -المسلمون والروم- أن البحر المتوسط وجُزره، لا سيَّما الواقعة في الجزء الشرقي منه، مفتاحا أساسيا من مفاتيح السيادة والقوة والتحكُّم في الجغرافيا السياسية لهذه المنطقة المشتعلة، والمُحمَّلة بصراعات التاريخ والدين، ومركز التجارة العالمية القديم بين الشرق الأقصى من جهة، حيث تجارة الصين والهند، والغرب من جهة، وهو مركز الاستهلاك ذو الثقل الأكبر آنذاك.
وإذا كان الصليبيون قد احتلوا مناطق الشام وحتى فلسطين منذ حملتهم الأولى والثانية سنة 492هـ/1099م، ثم حاولوا احتلال مصر في الحملتين الصليبيتين الخامسة سنة 615هـ/1213م، والسابعة سنة 647هـ/1249م، فإنهم في الوقت عينه تمكَّنوا من السيطرة المطلقة على العديد من جزر شرق البحر المتوسط وعلى رأسها قبرص ورودس وكريت، وذلك بفضل تقدُّمهم البحري الكبير، وقدرتهم على تجاوز القوة البيزنطية الرومية في شرق أوروبا وبعض الأناضول. وحين تمكَّن الأيوبيون بقيادة صلاح الدين، ثم المماليك بقيادة "بيبرس" و"قلاوون" و"خليل بن قلاوون" طيلة قرن تقريبا؛ من سحق الصليبيين وطردهم من الجغرافيا الإٍسلامية في الشام وقلبها فلسطين، ظلَّ وجود فلول الصليبيين في قبرص و"رودس" قاعدة للهجمات على تجارة المسلمين وشواطئهم ومصالحهم الحيوية في شرق المتوسط وجنوبه.
بالتزامن مع قوة المماليك في مصر وبلاد الشام والحجاز والبحرين الأحمر والمتوسط، كان العثمانيون في الأناضول وشرق أوروبا بعد سقوط السلاجقة يشقون طريقهم، ويوَحِّدون بلدهم، ويزدادون قوة يوما بعد آخر. صحيح أن التنافس السياسي والعسكري بينهم وبين المماليك في الجنوب استمر على مدار قرنين كاملين حاولوا فيهما مرارا السيطرة على أجزاء مهمة من الجغرافيا المملوكية في شمال الشام وجنوب الأناضول، إلا أن مصالح الفريقين التقت في شرق المتوسط بقبرص ورودس تحت وقع التهديدات البحرية والعسكرية للصليبيين في كل من شرقَي البحر المتوسط وأوروبا الشرقية.
كيف اتفق المماليك والعثمانيون إذن على ضرورة السيطرة الإسلامية على شرق المتوسط؟ وكيف ساعد المماليكُ المصريون العثمانيين الأتراك في السيطرة على جزيرة رودس؟
مصر تستحوذ على قبرص

اتخذ الصليبيون بعد هزيمتهم على يد الأيوبيين والمماليك من جزيرة قبرص مركزا للهجوم على الموانئ الإسلامية في شرق المتوسط، ولتهديد تجارة المسلمين. وقد هاجموا المسلمين على فترات متقطعة عن طريق القرصنة، لكن أخطر هذه المحاولات المُنظَّمة تلك التي قام بها "بطرس الأول لوزجنان" ملك قبرص بحملته الصليبية على الإسكندرية المصرية عام 767هـ/1365م، وكانت مصر حينذاك خاضعة لسلطنة المماليك. وفي هذا الهجوم، كتب المؤرخ المملوكي "جمال الدين بن تغري بردي" قائلا: "وفي سنة سبع وستين وسبعمائة أخذت الفرنجُ مدينةَ الإسكندرية في يوم الجمعة ثالث عشرين المحرَّم؛ على حين غفلة في سبعين قطعة (بحرية) ومعهم صاحب قبرص، وعدة الفِرِنج تزيد على ثلاثين ألفا، وخرجوا من البحر المالح (المتوسط) إلى برِّ الإسكندرية، فخرج أهلها إليهم فتقاتلوا فقُتل من المسلمين نحو أربعة آلاف نفس واقتحمت الفرنج الإسكندرية وأخذوها بالسيف واستمروا بها أربعة أيام وهم يقتلون وينهبون ويأسرون"[1]. وقد تكرَّرت مثل هذه الحملة على طرابلس الشام عام 796هـ/1393م.
لم تنقطع غارات القبارصة على موانئ المسلمين في شرق المتوسط وجنوبه، ولم تفلح محاولات سلاطين المماليك في دفع هذا الخطر والقضاء عليه، وبلغت استهانة القبارصة بهيبة دولة المماليك واغترارهم بقوتهم إلى حد اعتداء بعض قراصنتهم على سفينة مصرية سنة 826هـ وأَسْر مَن فيها. ولم تفلح محاولات سلطان المماليك حينذاك "الأشرف سيف الدين بَرْسْبَاي" في عقد معاهدة هدنة وصلح مع "جانوس"، ملك قبرص، تَضْمن عدم التعدي على تجار المسلمين وسفنهم[2]. وتمادى القبارصة الصليبيون في غرورهم، فاستولوا على سفينتين تجاريتين قرب ميناء دمياط وأسروا من فيهما، ثم استولوا على سفينة مُحمَّلة بالهدايا أرسلها السلطان "بَرْسْبَاي" إلى السلطان العثماني "مراد الثاني"، ولم يكن أمام "بَرْسْبَاي" حينئذ سوى التحرُّك لدفع هذا الخطر المتنامي وبدعم سياسي ودبلوماسي من العثمانيين، إذ أعد المماليكُ في مصر ثلاث حملات لغزو قبرص في ثلاث سنوات متتالية[3].
في الحملة المصرية الثالثة، استهدف السلطان "بَرْسْبَاي" فتح الجزيرة وإخضاعها للقاهرة، فأعدَّ حملة أعظم من سابقتيها وأقوى عددا وعتادا، إذ أبحرت مئة وثمانون سفينة من ميناء رشيد عام 829هـ/1426م، واتجهت إلى "ليماسول"، أهم موانئ قبرص، فلم تلبث أن استسلمت العاصمة القبرصية للقوات المصرية بعد هجومها الكاسح وحصارها القوي، وذلك في شعبان 829هـ/يوليو 1426م. ثم تحرَّكت الحملة شمالا لاستكمال السيطرة على كامل الجزيرة، وحاول الملك القبرصي أن يدفع القوات المصرية بما أوتي من قوة، لكنه فشل وسقط أسيرا.
عند رجوع الحملة التي شقّت شوارع القاهرة، ضجَّ المصريون بالفرح وأقاموا الاحتفالات والمهرجانات، واحتشد أهلها لاستقبال الأمراء والمجاهدين المتطوعين، بينما سار الأسرى -وعددهم 3700- خلف الموكب، ومن بينهم الملك "جانوس" وأُمراؤه الذين فرض عليهم المماليك شروطا قاسية للصلح[4]. باتت قبرص إذن تابعة للقاهرة سياسيا منذ ذلك التاريخ وحتى سقوط المماليك على يد العثمانيين بعد تسعين عاما تقريبا.
والحق أن فتح قبرص وضمها للسيادة المملوكية المصرية كانت وراءه دائما مطالب عثمانية حريصة على غرب الأناضول والرومللي، إذ واجه العثمانيون في تلك السنوات خطرا كبيرا من الاتحاد الصليبي في أوروبا الشرقية، وخشوا على موانئهم وشواطئهم الجنوبية والغربية من هجوم صليبي مباغت يستغل انشغالهم بالجبهة البرية في شرق أوروبا. وقد كانت "رسل خوند كار مراد بن عثمان"، متملّك بلاد الروم، على رأس الحاضرين في الاحتفالات المملوكية الرسمية التي أقيمت لاستقبال الجيوش الظافرة القادمة من قبرص.
لاحظ المؤرخ "سعيد عاشور" في كتابه "الحركة الصليبية" أن نظرة المسيحيين في الغرب والشرق إلى أتراك آسيا الصغرى (تركيا اليوم) تبدو بوضوح في مشاريع دعاة الحروب الصليبية في أواخر العصور الوسطى، ولذا نادى كثير من أولئك الدعاة بغزو آسيا الصغرى لأنها الطريق الذي يُوصِل الصليبيين إلى الأراضي المقدسة من جهة، ولإحساسهم بازدياد الخطر التركي ورغبتهم في القضاء عليه قبل فوات الأوان من جهة أخرى. وقد شارك ملوك قبرص في مشاريع أولئك الدعاة مشاركة فعَّالة، بل إنهم استعجلوا تنفيذها؛ الأمر الذي حقق قسطا كبيرا من التفاهم والتحالف بين أتراك آسيا الصغرى وسلاطين المماليك في القاهرة بقصد مواجهة العدو المشترك. ومن ذلك ما يقرره المؤرخ المصري "ابن فضل الله العُمري" من أن الأتراك في الأناضول اتجهوا نحو سلاطين المماليك فاتخذوهم ظهرا وعدُّوهم للحوادث ذخرا، ووَرَدَت مُكاتباتهم ورُسلهم وهداياهم إلى القاهرة باستمرار[5].
اتحاد مصري تركي لإخضاع "رودس"
انتصر المماليكُ على القبارصة، وأعادوا الاعتبار للهيمنة المصرية على شرق المتوسط في عصر "بَرْسْبَاي"، بيد أن سلفه السلطان الظاهر "سيف الدين جقمق" حاول أن يحقق انتصارا على الصليبيين في جزيرة أخرى هي جزيرة "رودس"، تلبية لرغبة عثمانية في الأصل. فقد أرسل العثمانيون إلى القاهرة يرجون منها الهجوم على "رودس" في ظل انشغال السلطان العثماني "مراد الثاني" بحرب الصليبيين في البلقان من أجل فكِّ الضغط على قواته. ولذا نرى في مصادر التاريخ المملوكي توالي قدوم سفراء الدولة العثمانية إلى القاهرة لإطلاع سلاطينها على آخر مستجدات الحرب بين العثمانيين والصليبيين في شرق أوروبا. ففي عام 843هـ، "حضرت رسل مراد بن عثمان وقت الخدمة بالقصر…، وتضمَّن كتبه السلام، وتهنئة السلطان بجلوسه على تخت الملك، وإن تأخَّر إرساله بالتهنئة لاشتغاله بمحاربة بني الأصفر حتى ظفره الله بهم"[6] كما أخبرنا المقريزي في تاريخه. ونرى هُنا أن العلاقات بين الجانبين بلغت من المتانة حدَّ المصاهرة، إذ تزوَّج السلطان "جقمق" من أخت السلطان العثماني.
ازدادت العلاقات المملوكية-العثمانية بين القاهرة وإسطنبول متانة بمرور الوقت، لا سيَّما بعد فتح القسطنطينية عام 857هـ، فحين جاء سفراء العثمانيين للتبشير بهذا الخبر الذي أحدث دويّا في العالمَين المسيحي والإسلامي، قرَّر السلطان المملوكي "الأشرف إينال" أن يحتفل بهذا النصر في مشهد وصفه "ابن تغري بردي" قائلا: "وجاء القاصد المذكور ومعه أسيران من عظماء إسطنبول، وطلع بهما إلى السلطان وهما من أهل قسطنطينية، وهى الكنيسة العظمى بإسطنبول، فسُرَّ السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم سرورا زائدا، ودُقَّت البشائر لذلك، وزُيِّنت القاهرة بسبب ذلك أياما، ثم طلع القاصد (السفير) المذكور وبين يديه الأسيران (البيزنطيَّان) المذكوران إلى القلعة في يوم الاثنين خامس عشرين شوال، بعد أن اجتاز القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة، وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن، وأمعنوا في ذلك إلى الغاية، وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل"[7].

ولئن أرسل السلطانُ الفاتح إلى القاهرة مُبشِّرا بهذا الفتح، فإن فتح القسطنطينة كان البداية الحقيقية لشعور العثمانيين بأنهم صاروا أقوى من المماليك الذين طالما سعوا لإرضائهم وطلب دعمهم طيلة قرن تقريبا. فقد بدأ العثمانيون يتدخَّلون في شؤون دولة المماليك الشمالية المتاخمة لحدودهم، وتطوَّر الأمر إلى الصراع العسكري غير المباشر (ثم المباشر)؛ ما أدى إلى سقوط المماليك على يد السلطان "سليم الأول". ورغم أن العثمانيين أسقطوا المماليكَ، واستولوا على بلاد الشام ومصر والحجاز؛ فإنهم في الوقت نفسه أبقوا على العنصر المملوكي الجركسي في سدة المناصب القيادية والعسكرية في مصر، ورضوا منهم أن ينضووا تحت سلطان العثمانيين لما رأوا من قوتهم وأهميتهم العسكرية، وإن أدى ذلك إلى انقلاب المماليك على العثمانيين فيما بعد. ورغم سيطرة المماليك على قبرص ومن بعدهم العثمانيين؛ بقيت جزيرة "رودس" التي احتلها فرسان القديس يوحنا (فرقة الإسبتارية) تُشكِّل خطرا داهِما على السفن التجارية والعسكرية الإسلامية بين مصر والأناضول.

ولمَّا صار شمال المتوسط وجنوب شرقه في قبضة العثمانيين، قرَّر السلطان "سليمان القانوني" سنة 928هـ/1532م فتح هذه الجزيرة، فأرسل إلى نائبه على مصر الأمير المملوكي "خاير بك" يأمره بتجهيز حملة عسكرية كبيرة للاشتراك في هذه العملية العسكرية الضخمة، وكان "خاير بك" من بقايا المماليك الذين أبدوا ولاءهم للعثمانيين، وبالفعل بدأ في إعداد الحملة من عناصر الفرق العثمانية بالقاهرة مثل الإنكشارية والسباهية، ومن الفرق المملوكية الجراكسية، ثم قرَّر تعيين الأمير "قايتباي الدوادار" قائدا عامّا لهذه الحملة العسكرية مع ثلاثة وأربعين أميرا مملوكيا، فضلا عن العساكر العثمانيين والجراكسة، وبلغ قوام التجريدة المصرية حينذاك ألفا وخمسمئة مقاتل.
ولم يجعل والي مصر قيادة الحملة العسكرية المصرية للأمير "قايتباي" فحسب، بل وأسند قيادة العسكر العثماني المنضوي تحت لواء الحملة إلى الأمير المملوكي "جانم الحمزاوي"، في إشارة للعثمانيين بأن العنصر المملوكي-المصري الذي حكم مصر والشام لأكثر من قرنين ونصف لم يزل ذا دور فعَّال يُعتمَد عليه في أمور القيادة العسكرية. وقد انطلقت الحملة من ميناء رشيد في شعبان 928هـ/1532م حتى وصلت عبر البحر المتوسط إلى جزيرة صغيرة قرب "رودس" في منتصف شهر رمضان، واستقبلهم السلطان "سليمان القانوني" في تلك الجزيرة بكل حفاوة وتكريم يليق بهم[8].
أعلن السلطان العثماني عن ساعة الصفر، وبدأ الهجوم على الجزيرة في شهر شوال، وركَّز هجومه على الأسوار الحصينة المنيعة التي شُيِّدت حول الجزيرة، وجَرَت عِدَة محاولات لاقتحامها من الجانب العثماني، واستمر الحصار والهجوم على فترات متقطعة طيلة ثلاث سنوات لم تنسحب فيها الحملة العسكرية المصرية التي توافر لها الدعم المادي والعيني اللازم من القاهرة. وأخيرا، في عام 931هـ/1525م، أحرز العثمانيون بدعم المماليك نصرا مؤزَّرا ضد الصليبيين في "رودس" بزعامة الإسبتارية، ودخلت "رودس" منذ ذلك التاريخ إلى سيادة الدولة العثمانية، ومن اللافت أن السلطان العثماني أنعمَ على الحامية المصرية (ممن بقي منهم على قيد الحياة) بالهدايا والإنعامات الكبيرة؛ فعادوا إلى مصر ظافرين مستبشرين[9].
لم تنقطع إسهامات مصر في "رودس" بعد ذلك الفتح، فقد وقفنا على معلومات مهمة أفادت بأن عسكر حامية مصر زوَّدوا قلعة "رودس" بما يلزم من المرابطين والمدافعين، الذين أُطلِق عليهم في الوثائق العثمانية "مستحفظان قلعة رودس"، وتسلَّموا رواتبهم من خزينة مصر. وهكذا لعب الاتحاد السياسي والدبلوماسي والعسكري لمماليك مصر وعثمانيي تركيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي دورا محوريّا في إخضاع شرق المتوسط للهيمنة الإستراتيجية والتجارية والثقافية الإسلامية طيلة قرون.
_____________________________________
المصادر
- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة 11/29.
- Stanley Lane-Poole: A history of Egypt in the Middle Ages, p.336 – 338.
- ابن شاهين: زبدة كشف الممالك ص138.
- سعيد عاشور: قبرص والحروب الصليبية ص120، 121.
- سعيد عبد الفتاح عاشور: الحركة الصليبية 2/439.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 7/450.
- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 16/71.
- ابن زنبل الرمال: آخرة المماليك.
- الجيش المصري في العصر العثماني ص97.