كنج عثمان.. السلطان الشاب الذي أراد إصلاح الجيش العثماني فقتله الإنكشارية
كانت وفاة السلطان سليمان القانوني عام 1566م بداية تخلِّي الدولة العثمانية عن عصرها الذهبي الذي بلغت معه الدولة مساحة ناهزت حوالي 22 مليون كيلومتر مُربَّع (أكبر من الولايات المتحدة والصين مُجتمعتَيْن)، وقد تولَّى السلطة من بعد سليمان عدد من السلاطين الذين اتسموا بضعف شديد سياسيا وعسكريا، وقد انعكست هذه الحالة على فتوحات الدولة العثمانية وحروبها، إذ تعرَّضت لانتكاسات كبيرة آثر معها الإنكشارية، الجنود الرجَّالة في الجيش العثماني، الراحة والحفاظ على مكتسباتهم الشخصية على حساب الدولة.
وقد لاحظ عدد من رجال الإدارة والعلماء أسباب الخلل، ولذا قدَّموا إلى السلاطين المتعاقبين مُذكِّرات ومؤلَّفات تطالب بالإصلاحات وتُبيِّن المناهج المُثلَى لتحقيقها، ففي القرن السادس عشر الميلادي مثلا، قدَّم المؤرِّخ "مصطفى علي أفندي" إلى السلطان "مراد الثالث" كتابه "مفاخر النفائس في كفاية المجالس"، واصفا فيه المجتمع والحكومة العثمانية، وموليا بذخ الطبقة الحاكمة وخطورته على الجيش ورجالاته اهتماما خاصا.
تحديات خطيرة
بحلول أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، واجهت الدولة العثمانية تحديات عديدة خطيرة في الشرق والغرب، ففي الشرق تواصلت الحرب مع الدولة الصفوية في إيران على جبهات أذربيجان والعراق وشرق الأناضول، وفي الغرب تواصلت حروب النمسا وبولندا وألمانيا. وكان اعتماد الدولة العثمانية في توسيع جيشها قائما على نظام "الدَوْشيرْمَة"، أو التجميع والانتقاء من أبناء غير المسلمين ممن قطنوا قرى ونواحي البلقان -وقد تطرَّقنا إلى هذا النظام وأهميته في مقالنا "الدَوْشيرْمَة.. هل انتزع العثمانيون أبناء المسيحيين وجنَّدوهم قسرا؟". بيد أن الفساد والرشاوي نخرت في هيكل تلك المنظومة؛ ما أدى إلى وصول أفراد غير أكفاء إلى المناصب الإدارية والعسكرية العليا في الدولة، وساعد على اضطراب نظام جيش المركز "قابو قولي/قولو"، وأفضى إلى ظهور مراكز قوى من هؤلاء الرجال في الجيش والإدارة[1].
يرى المؤرخ التركي "خليل إينالجيك" أن السبب الرئيسي للاضطرابات والفوضى التي خلخلت حياة الدولة العثمانية في تلك الفترة يكمن في العبء الكبير الذي أُلقي عليها نتيجة الحروب مع إيران والنمسا. فبعد هزيمتهم البحرية وتدمير أسطول الدولة في معركة "ليبانتو" سنة 1571م، لم يعُد العثمانيون قادرين على إدامة تفوُّقِهم في البحر المتوسط، ومن ثَم عزَّز ملك إسبانيا موقعه في أوروبا، علاوة على وقوع مذبحة البروتستانت في فرنسا والذين أيَّدوا العثمانيين[2]. ومع تراجع الهيمنة العثمانية البحرية، نشطت القرصنة البرتغالية والإسبانية ثم الهولندية والإنجليزية، التي راحت تفرض سيطرتها على القوى المحلية بطول شواطئ البحر المتوسط والمحيط الهندي، بل وعلى عموم التجارة بين الشرق والغرب حين أسَّس الإنجليز شركة "الهند الشرقية" عام 1600م.
تُوفي السلطان العثماني "أحمد خان الأول" عام 1617م، وخلفه عدة سلاطين أطفال وحديثي سن على العرش. وبسبب نفوذ بعض نساء القصر العثماني، والغيرة من الأمير "شاه زاده" عثمان الثاني بن أحمد الأول، اختار رجال الدولة الرجل "مصطفى الأول" أخا السلطان الراحل "أحمد الثالث"، بيد أنه لم يُبدِ رجاحة العقل المطلوبة، وجنح إلى الطيش والسفاهة، ومن ثَم بعد عام على توليه الحكم أصدر مفتي السلطنة "شيخ الإسلام" بالاتفاق مع كبار الوزراء ورجال الإدارة فتوى بعدم أهليته، فوقع الاختيار على "عثمان الثاني" الذي بلغ من العمر آنذاك 14 عاما.
عثمان الثاني وحرب بولندا
رغم حداثة سن عثمان الذي اشتُهر في التاريخ العثماني بـ"كنج عثمان (Genç)"، أي عثمان الشاب أو الفتى، فقد امتاز في ذلك الحين بصفتين لافتتين، الأولى أنه عاصر عن قرب سياسة والده "أحمد الثالث" في الإدارة والحكم، التي تضمنت الاهتمام بتفاصيل الدولة بعدما تُرِكَت إلى رؤساء الوزراء منذ أواخر عصر جد أجداده السلطان سليمان القانوني، والثانية الثقافة العالية التي تمتَّع بها السلطان الشاب، فقد عرف اللغات العربية والفارسية واللاتينية واليونانية والإيطالية، بل وكان أديبا شاعرا كتب بالفارسية، وهي عوامل أدركها كل مَن حوله من نساء القصر إلى الوزراء وضباط الجيش من الإنكشارية والسباهية، وأخفى أغلبُ هؤلاء قلقهم من ذكاء السلطان الجديد وقوته.
وبسبب اختيار بعض المتنفذين في الدولة مثل الصدر الأعظم وشيخ الإسلام لعمِّه المضطرب عقليا مصطفى الأول في السلطنة، مفضلين إياه على حقه الأصيل في العرش، كان أول ما اتخذه عثمان من قرارات عقب ارتقائه إلى العرش عزل الصدر الأعظم "كورجو محمد باشا" عن منصبه، ونزع أهم صلاحيات شيخ الإسلام ومفتي الدولة العثمانية بتعيين المدرسين والقضاة، الذي جعله حقا خالصا للسلطان وحده[4]. ولعل عثمان الثاني أراد من وراء ذلك، ليس الانتقام من هؤلاء فحسب، بل والقضاء على مراكز القوة في الدولة، حتى لا ينقلبوا عليه كما فعلوا بمن سبقه.
سرعان ما ظهرت أمام السلطان عثمان الثاني مشكلتان خطيرتان على الساحة الإقليمية والدولية، أولهما الحرب العثمانية-الصفوية على الجبهة الشرقية، والحرب العثمانية-البولندية (البولونية) في شرق أوروبا، وإزاء تلك الأوضاع الاقتصادية والسياسية أراد السلطان أن يُحقِّق الاستقرار السريع، فأتت أولى قراراته في هذا الصدد بإنهاء الحرب مع إيران عن طريق المعاهدة المعروفة باسم "نصوح باشا"، حيث جرى التوقيع الفعلي عليها في أيلول/سبتمبر 1618م[5].
أما المشكلة البولندية فنشأت بسبب تعدِّي قوات بولونيا على الحدود العثمانية، وإنشائها العديد من القلاع الحربية على مقربة منها، وذلك قبل عام من اعتلاء عثمان الثاني السلطة، أي عام 1617م. وأمام تجرُّؤ البولنديين على التدخُّل في شؤون ولاية البُغدان (مولدافيا)، واحتلالهم قلعة "خوتين" التابعة للبُغدان، أصدر السلطان عثمان الثاني قراره بشن الحرب عليهم هُناك، وأرسل جيشا عثمانيا مدعوما بقوات خانية تتار القرم المنضوية تحت لواء الدولة العثمانية آنذاك. وقد وقعت تلك الحرب في سبتمبر/أيلول 1620م، وتكبَّد البولنديون 10 آلاف قتيل في معركة "ياش"، ثم تلتها بأسبوعين معركة "تورلا"، حيث سُحق الجيش البولندي، وقُتل منه حوالي 60 ألف جندي، ولم ينجُ إلا 400 جندي فرّوا إلى بلادهم، وقد أسر الجيش العثماني كامل مدافع الجيش البولندي، وكانت تلك الحملة الناجحة بقيادة الوزير المخضرم "إسكندر باشا" الذي وافته المنية بعد أشهر في العام التالي سنة 1621م[6].
رغم هذه الانتصارات، أراد السلطان من إعلان الحرب على بولندا أن يُحقِّق هدفين لم يتحققا حتى ذلك الحين، أولهما استعادة قلعة "خوتين" التي احتلها البولنديون، وثانيهما وأهمهما احتلال بولندا وإعلان تبعيتها للدولة العثمانية، كي يلتفت إلى الخطر الروسي المتنامي في القوقاز وشمالي القرم. ولا شك أن هدف إخضاع بولندا كان طموحا للغاية من السلطان الشاب، ولذا قرَّر عثمان الثاني قيادة الحملة العسكرية على البولنديين بنفسه، وكانت آخر حملة عسكرية اشترك فيها سلطان عثماني من قبله قد مرَّ عليها قرابة ربع قرن. لم يرغب كبار رجالات الدولة بهذه الحرب، بل ولم يرضوا أن يقود السلطان الحملة بنفسه، ورغم مجيء بعثة دبلوماسية بولندية لعقد اتفاقية صلح بين الجانبين توسَّط فيها السفير الإنجليزي في إسطنبول، فإن السلطان رفضها وأصر على الحرب.
قُبيل خروجه من إسطنبول أرسل السلطان إلى شيخ الإسلام "أسعد أفندي" طالبا منه فتوى لقتل أكبر إخوته الستة -الأمير محمد- الذي بلغ حينئذ 16 عاما؛ مخافة أن يستغل غيابه وينقلب على الحكم، غير أن مفتي السلطنة رفض الفتوى بقتل الأمير محمد، وطمعا في منصب شيخ الإسلام ومفتي السلطنة، أصدر مفتي عسكر الروملِّي (الجيش العثماني الأوروبي) الشيخ "طاشكوبري زاده كمال الدين أفندي" فتوى بجواز ذلك، ومن ثَم قُتل الأمير محمد غدرا قُبيل خروج السلطان إلى حرب بولندا، وقد أُثر عنه أنه دعا قبيل مقتله على أخيه عثمان ألا يُمتِّعه الله بالحكم، وأن يجعل أمور السلطنة وبالا عليه، وهو ما تحقَّق بالفعل[7].
في سبتمبر/أيلول 1621م بلغت القوات العثمانية حدود قلعة "خوتين" -الواقعة اليوم في أقصى جنوب غرب أوكرانيا قرب حدود مولدوفا- وقُدِّرَت القوات بحوالي 100 ألف جندي تحت إمرة عثمان الثاني، في حين قُدِّرَت أعداد القوات البولندية وحلفائها بحوالي 60 ألف جندي. وقد تبنَّى البولنديون تكتيك الساتر الدفاعي الدائر حول أسوار القلعة مع استحكامات ترابية عالية، بالإضافة إلى المدافع الثقيلة والبنادق. أما القوات المؤيدة لهم فمكثت على أطراف القلعة واتخذت تكتيك الهجوم ضد تتار القرم الموالين للعثمانيين. وقد استمرت الحرب بين الجانبين أكثر من شهر، وسقط فيها خيرة قيادات الجيش العثماني، مثل "قره قاش باشا" ذائع الصيت، ووالي "بودين" في المجر، وكذا "دوغانجي علي باشا" والي "قره مان". ورغم تنفيذ 6 هجمات عامة، وتقديم آلاف الشهداء، والتوغُّل في عمق بولندا، وأسر 100 ألف أسير، فإن الجيش العثماني لم يستطع زحزحة دفاعات البولنديين، ولذا توصَّل الطرفان إلى اتفاق صُلح في نهاية المطاف.
صحيح أن العثمانيين استعادوا بالدبلوماسية قلعة "خوتين"، ووافق البولنديون على هدم جميع القلاع القريبة من الحدود العثمانية، ودفع الضريبة السنوية إلى خانية القرم، فضلا عن تسهيل نقل الجنود العثمانيين من أوروبا الشرقية إلى المجر عبر الأراضي البولندية في أي وقت شاءت، إلا أن ثمة مشكلات جوهرية رآها السلطان عثمان الثاني بنفسه في هذه الحملة، لاحت بوادرها ولاحقته بعدئذ لتكتُب نهاية عهده[8].
لقد رأى السلطان عثمان الثاني مدى تخلُّف الجنود الإنكشاريين (جنود وفرسان النخبة في الجيش العثماني) عن القتال في أثناء هذه المعركة، وعاقب المتخلِّفين منهم بمنعهم من بعض المُقرَّرات المالية لهم، الأمر الذي أثَّر سلبا عليهم؛ ما أدى إلى تدهور العلاقة بينهم وبين السلطان. إذن، انتزع السلطان نصرا دبلوماسيا على أعدائه، لكنه خسر عسكريا أمام جيش بولندي أقل عددا.
رأى السلطان أيضا أن سبب استشهاد "قره قاش باشا"، والي المجر العثماني والقائد العسكري الفذ، كان تخلّف ونكوص الإنكشارية بقيادة الصدر الأعظم حسين باشا، ولذا عاد السلطان عثمان إلى إسطنبول وقد أضمر في نفسه ما نصحه به أستاذه عمر أفندي الذي أتى في المرتبة التالية بعد شيخ الإسلام أسعد أفندي. لقد نصح عمر أفندي السلطان بضرورة إجراء إصلاحات فورية على أهم قطاعين في الجيش العثماني، وهم "القابو قولو" و"الإنكشارية"، وذلك من خلال استبدالهم بجنود آخرين من الأناضول ومصر والشام، وتدريبهم وفق نظم حديثة لا تسمح باستشراء نفوذهم كما حدث مع الإنكشارية والقابو قولو، وهو أمر استحسنه السلطان، فأرسل على الفور إلى ولاته في أقاليم الأناضول ومصر والشام للإعداد له.
ولكي يُنفِّذ عثمان الشاب هذه الخطة، أشار عليه عمر أفندي بأداء الحج أولا، ثم العودة على رأس جيشه الجديد إلى إسطنبول. وحين فطن الإنكشارية إلى هذه الخطة وقفوا حائلا أمام حج السلطان، مستندين إلى فتاوى قديمة صدرت منذ زمن السلطان "سليم الأول" بأنه لا لزوم لحج السلاطين بسبب طول الرحلة وما يترتب عليها من فتن واضطرابات في الدولة المترامية الأطراف نتيجة غيابهم عن العرش. سرعان ما تجمّع الجنود أمام القصر السلطاني، ليس رفضا لحج السلطان الشاب بالطبع، بل في الحقيقة خوفا على رقابهم من الجيش الجديد الذي خُطِّط له أن يدخل إسطنبول مع السلطان حين عودته من الحج.
تطوَّرت الأحداث سريعا، وارتفعت مطالب عساكر الإنكشارية والقابو قولو، فطالبوا السلطان بقتل أستاذه عمر أفندي وستة من المُقرَّبين منه، وأمام رفض السلطان تعدّيا كهذا على سيادته، تفاقم الأمر واندفع الإنكشارية بسيوفهم نحو قصر "طوب قابي" وقبضوا على السلطان الشاب وأعدموه من فورهم شنقا، وذلك بعد 4 سنوات وبضعة أشهر على تولِّيه السلطنة، في مايو/أيار 1622م[9].
وفي عام 1826م نجح السلطان "محمود الثاني" في القضاء على الإنكشارية بواسطة مذبحة مُرَوِّعة بإسطنبول استخدم فيها المدافع لدَكِّهم وسحقهم، وعلى مدار قرنين كاملين منذ حادثة مقتل عثمان الشاب وحتى مذبحة الإنكشارية، وقف هؤلاء العساكر شوكة في حلق الدولة العثمانية، وشكَّلوا سببا رئيسيا من أسباب تخلُّفها العسكري والتقني نتيجة رفضهم كُل أفكار الإصلاح العسكري والإداري في البلاد. وقد كانت حادثة السلطان عثمان الثاني "الشاب" أول واقعة اغتيال يقوم بها جنود الدولة في حق سلطانها وقائدها الأعلى، ولذا كان لها ما بعدها من أثر في هزائم العثمانيين وضعفهم أمام أعدائهم فيما بعد، وكذلك في عزم السلاطين الراغبين في الإصلاح على التخلُّص منهم، حتى تحقَّق ذلك بالفعل بعد قرنين.
——————————————————————–
المصادر
- سيد محمد السيد: تاريخ الدولة العثمانية ص355.
- خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار ص70.
- يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية 1/454.
- İsmail Hakkı Uzunçarşılı, Osmanlı tarihi, 3/128.
- الدولة العثمانية المجهولة ص289.
- أوزتونا: السابق 1/456.
- UzunÇarşılı, aynı eser.
- أوزتونا: السابق 1/457.
- UzunÇarşılı, aynı eser.