شعار قسم ميدان

أبو الوفاء البوزجاني.. مبسط علم حساب المثلثات والرياضيات للجميع

"البوزجاني الحاسب المشهور؛ أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يُسبَق بها".

(المؤرخ شمس الدين بن خلّكان في موسوعته "وفيات الأعيان")

لم يكن المسلمون في حضارتهم التي استمرت لقرون يعتمدون في نهضتهم وريادتهم على علوم الشريعة والأخلاق والعلوم النقلية فقط، صحيح أن هذه العلوم كانت على الدوام بمنزلة الإطار العام اللازم الذي يجب على طلبة العلم بمختلف مشاربهم أن يتعلّموه ويُتقنوه منذ تعلّم الحروف والكتابة لحفظ القرآن وعلوم الحديث والفقه وغيرها.

لكن هذه العلوم لم تكن بمنأى عن بقية العلوم العقلية والتجريبية الأخرى، إذ لم تكن فكرة التخصص والفصل بين العلوم في الإسلام كما هي اليوم واضحة آنذاك، بل كان من الطبيعي على مدار ألف عام أو ألف ومئتي عام أن ترى آلافا من علماء الشريعة وهم في الوقت نفسه علماء في الطب والكيمياء والهندسة والرياضيات.

هذه المنظومة المعرفية التي قامت عليها الحضارة الإسلامية ساهمت في تنوُّر أوروبا في عصورها الوسطى للوصول إلى لحظات النهضة والأنوار ثم التقدُّم والثورة الصناعية، وكان على رأسها علم الرياضيات هندسة وجبرا وعلم مثلثات، وفي ذلك يعترف المؤلف الفرنسي روبرت بريفولت في كتابه "صناعة الإنسانية" (The Making of Humanity) قائلا: "إن الرياضيات هي أعظم منجزات الحضارة العربية للتطور الحديث الذي يبدو فيه أثر محقق للثقافة الإسلامية، وليس هناك ما هو أشدّ وضوحا من أن العلم الطبيعي والروح العلمية هما القوة الدافعة التي تُشكِّل قوة دائمة مميزة في العالم الحديث ومصدرا عظيما لاتقائه"[1].

روبرت بريفولت في كتابه "صناعة الإنسانية"
كتاب "صناعة الإنسانية" لـ "روبرت بريفولت"

هذا الإنصاف والاعتراف الغربي بقيمة الحضارة الإسلامية وعلماء المسلمين في الرياضيات نجده بسهولة عند آخرين، وعلى رأسهم ول ديورانت المؤرخ الأميركي الشهير في موسوعته "قصة الحضارة"، إذ يقول عن علماء المسلمين في العصر الوسيط: "حافظ المسلمون في العصر الذي نتحدث عنه على تفوُّقهم غير المنازَع في العلوم، وكان أعظم ما بلغوه من التقدُّم في علم الرياضة في مراكش وأذربيجان، ففيهما نشاهد مرة أخرى ما بلغته الحضارة الإسلامية من رقي عظيم.. وربما كان حساب المثلثات الذي ظهر عند الصينيين في النصف الثاني من القرن الثالث عشر عربي النشأة"[2].

لكن فيما يبدو لم يكن ديورانت يعرف بوضوح أحد علماء الرياضيات المسلمين الذين وضعوا علم حساب المثلثات في فترة ازدهار حضارة الإسلام في بغداد في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، ولم يكن ممّن اهتموا بحصر الرياضيات في دائرة التخصص على مجموعة العلماء والطلبة الراغبين في هذا المجال فقط، بل كان من أوائل مَن عملوا على "تبسيط" الرياضيات وعلم الحساب ليكون علما يسهلُ على الجميع فهمه في دولة كانت بحاجة ماسّة إلى هذا الابتكار والإبداع، ذلك هو أبو الوفاء البوزجاني المهندس والمخترع الكبير، فمَن هو البوزجاني؟ وأين وُلد وعاش؟ وكيف أُولع بعلم الرياضيات والفلك وأصبح من أشهر علمائها حتى يومنا هذا؟ وما أبرز مؤلفاته التي كتبها قبل ألف عام ولا تزال بين أيدينا حتى عصرنا الحاضر؟

نبوغ في علم الفلك

أبو الوفاء البوزجاني
أبو الوفاء البوزجاني

وُلد أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل في قرية تُسمّى بوزجان كانت تقع بين هراة (في أقصى غرب أفغانستان اليوم) وبين نيسابور (في أقصى شرق إيران) في حدود عام 328هـ/940م، فنُسب إليها، فهو بحسب عصره بوزجاني خراساني، وقد نشأ مُتعلِّما للعلوم الشرعية الأولية التي كان يتعلّمها طلبة العلم آنذاك من القرآن الكريم وبعض من الحديث النبوي والفقه وغيره، لكن لحُسن حظّه كان عمّه أبو عمر المغازلي وخاله أبو عبد الله محمد بن عنبه من المهتمين بعلوم الهندسة والرياضيات، فدرس عليهما، حتى إذا أصبح سنه عند العشرين بالتمام، قرّر السفر إلى عاصمة الدنيا، ومحشر البشر، وقبلة العلماء آنذاك؛ إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية والإسلامية.

بيد أن المصادر التاريخية للأسف الشديد لا تمدنا بمزيد مادة عن شيوخه والعلماء الذين التقى بهم في بغداد، ولا شك أنه تأثّر بهم أشد ما يكون من هؤلاء الذين درس على أيديهم في خراسان، لكننا نرى اهتمامه بعلوم الفلك بجانب علوم الرياضيات، وقد برع في علم الفلك حتى إن بعض الباحثين يقولون إنه أول عالم مسلم يخترع أداة الربع، وهي أداة كانت تُستخدم في الفلك والملاحة لقياس الارتفاع، وتتألف من قوس مقسّم إلى 90 درجة، وهي ذات تصميم بسيط قوامه ربع دائرة من خشب أو نحاس، تتضمن خطوطا هندسية محددة، وضمّن شكلها وفائدة استخداماتها في كتابه "الزيج" في علم الفلك[3].

لم تتوقف عبقرية البوزجاني الفلكية عند التنظير فقط، بل يُعَدُّ من أوائل مَن أنشأوا المراصد الفلكية في بغداد لرصد حركة الكواكب والمجموعة الشمسية والنجوم، وقد احتضنه حكّام بغداد البويهيون آنذاك، وجعلوه من العلماء المقربين لهم لعبقريته، ولذلك نرى قدري طوقان في كتابه "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" يقول: "إن البوزجاني من ألمع علماء العرب الذين كان لبحوثهم ومؤلفاتهم الأثر الكبير في تقدُّم العلوم، ولا سيما الفلك والمثلثات وأصول الرسم، وفوق ذلك كله كان أبو الوفاء من الذين مهّدوا السبيل لإيجاد الهندسة التحليلية"[4].

ومن خلال تفوُّقه في علم الفلك شارك البوزجاني في تجربة فريدة لتحديد فروق التوقيت المحلي بين موقعه في بغداد وموقع البيروني أحد أشهر تلاميذه في مدينة كاس في أوزباكستان، وكانت النتيجة قريبة للغاية من العمليات الحسابية الحديثة، حيث تُظهِر فرقا تقريبيا نحو ساعة واحدة فقط بين خطي الطول. وقد تميز البوزجاني أيضا بشرح مؤلفات عتيقة كتبها إقليدس وديوفنطس والخوارزمي شرحا وافيا أزال كثيرا من غموضها، وشارك بجهد لافت في مؤلفات مهمة في الرسم الهندسي، ونلاحظ أن المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ) يقول فيه: "البوزجاني الحاسب المشهور؛ أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يُسبَق بها، وكان شيخنا العلامة كمال الدين أبو الفتح موسى بن يونس (أحد علماء الرياضيات في القرن السابع الهجري)، تغمده الله برحمته وهو القيّم بهذا الفن، يُبالغ في وصف كُتبه، ويعتمدُ عليها في أكثر مطالعاته، ويحتج بما يقوله. وكان عنده من تواليفه عدة كتب"[5]. ولا شك أن احتجاج واعتماد علامة الرياضيات المتأخر كمال الدين بن يونس على مؤلفات البوزجاني لم يكن وليد مصادفة أو اعتمادا في غير محله.

أول مَن وضع النسبة المثلثية!

أبو الوفاء البوزجاني

أما إسهامات البوزجاني في علم حساب المثلثات فقد اطلع كاداي فو وسمث وسارطون، وهم من كبار علماء الرياضيات في أوروبا، على بحوث البوزجاني في المثلثات واعترفوا بأنه أول مَن وضع النسبة المثلثية "ظل" (tan) واستعملها في حلول المسائل الرياضية، كما أدخل البوزجاني نِسب القاطع وقاطع التمام، ووضع جداول للجيب "جا" (sin) والظل لكل 10 دقائق، وكانت جداوله دقيقة حتى إن جيب زاوية 30 دقيقة كانت صحيحة عنده إلى ثمانية أرقام عشرية[6].

ولهذا السبب أشاد به المؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون بعمله في حساب المثلثات الكروية، لأنه أول مَن استخدم المماسّات والقواطع ونظائرها في قياس المثلثات والزوايا، قال لوبون: "إن آلات الرصد التي استعملها أبو الوفاء كانت على جانب عظيم من الدقة والإتقان"، وقد اعتمد العلامة البيروني على ما قام به البوزجاني وكذلك الطوسي في مسائله الرياضية.

ولم تتوقف جهود واختراعات البوزجاني التي لا تزال تُستخدم حتى يومنا هذا في علوم الهندسة وحساب المثلثات فقط، بل عكف على التأليف لهدف أسمى، ولكي تنتشر هذه العلوم بين فئات الطبقات غير المتخصصة من الفئات الاجتماعية كافة، وذلك لتبسيط العلوم الرياضية وحساب المثلثات والهندسة للعامة لكي يستفيدوا بها في حياتهم اليومية الحسابية، فألَّف كتاب "فيما يحتاجُ إليه الكُتّاب والعُمّال (الموظفون)" المعروف بـ "المنازل السبع". كما ألّف كتابا آخر بعنوان "ما يحتاج إليه الصانعُ من علم الهندسة"، ويُصنَّف الكتابان ضمن الكتب النادرة في مجال الرياضيات التطبيقية في الحضارة الإسلامية[7].

الرياضيات للجميع!

صورة ميدان

يُعَدُّ كتاب "فيما يحتاج إليه الكُتّاب والعُمال وغيرهم من علم الحساب" المعروف بـ "المنازل السبع" من الكُتب الفريدة في الرياضيات العملية، وقد حدّد البوزجاني بوضوح الفئات الاجتماعية المستهدفة التي وضع لها هذا الكتاب التبسيطي في علم الرياضيات قبل ألف عام، فهو يقول في مقدمته: "وقد خدمته بتأليف كتاب يشتملُ على جميع ما يحتاج إليه الكامل والمبتدئ والتابع والمتبوع من الحساب، وصناعة الكتابة وأعمال الخراج، وسائر الأنواع التي تجري في معاملات الدواوين (الوزارات والمصالح الإدارية آنذاك)، من النسبة والضربة والقسمة والمسايح والمقاسمات والتصريف، وغير ذلك مما يتعامل به الناسُ في طبقاتهم ويحتاجون إليه في معايشهم".

وهو بهذا التعريف يتوجه بكتابه إلى الفئات المتعلمة والمبتدئة كافة، ويُقدِّم موضوعات تهم الجميع في الإدارة والحياة اليومية، ولهذا صار مرجعا لكل فئات الشعب في مصالحهم، ويدعم هذا التوجُّه تبسيطه ووضوحه وخلوّه من "البراهين" و"التعليل" الذي يهم العلماء والمتخصصين أكثر مما يهم العامة، وهو يوضح ذلك بقوله: "لئلا يطول ويفوت تناوله وتُملُّ طرائقه"[8]. وهي الطريقة التي يُفضِّلها التلاميذ وطلبة العلم في المدارس والجامعات وفي أماكن الدروس الخاصّة حتى يومنا هذا، وقد سبق إليها البوزجاني قبل ألف سنة.

وإذا كان البوزجاني قد عمد إلى تبسيط الرياضيات والحساب من القسمة والضرب والكسور والطرح والمساحة والعلوم الرياضية التي تساعد في الخراج، وهي الضريبة التي كانت تؤخذ على الأراضي وفق تقييم معين، وغير ذلك مما أفاض في تناوله بوضوح وسهولة في كتابه "المنازل السبع" فإنه أيضا اهتم بتبسيط "الهندسة" لتكون واضحة سهلة أمام الموظفين والعُمال والصُّنّاع وأصحاب الحِرَف في عصره ولكل راغب في تعلم هذا العلم دون تعقيد أو غموض، فكتب لهم "ما يحتاج إليه الصانع من علم الهندسة".

وهذا الكتاب أهداه إلى السلطان البويهي بهاء الدولة (ت 403هـ)، مُوضِّحا فيه منهجه بقوله: "هذا كتاب أبي الوفاء محمد بن محمد البوزجاني المهندس في ما يحتاجُ إليه الصانع من أعمال الهندسة… من إثبات المعاني التي كان يتذاكرُ بحضرته العالية (في مجلسه) من الأعمال الهندسية التي يكثر استعمالها عند الصُّناع، مجرّدا من العلل والبراهين، ليسهل على الصّناع تناوله، وتقربُ عليهم طريقته".

أي إن الكتاب ينتهج التبسيط والوضوح دون الدخول في التعليل الرياضي والهندسي المعقّد الذي لا يكاد يفهمه سوى المتخصصين، وهو بهذا يسبق عصره في تبسيط العلوم الرياضية قبل ألف عام، وإذا كان بعض علماء الرياضيات قد وضع مؤلفات شبيهة في هذا المضمار مثل كتاب ياكوف بيريلمان "الرياضيات المسلية" في القرن العشرين، فإن عالما مسلما فذًّا هو أبو الوفاء محمد بن محمد البوزجاني (ت 387هـ/998م) قد سبقه إلى ذلك حين جعل الرياضيات والهندسة وحساب المثلثات علوما مُسلية سهلة في القرن العاشر الميلادي!

——————————————————————————————–

المصادر

  1. Robert briffault , The making of humanity, p194,195.
  2.  ديورانت: قصة الحضارة 13/356.
  3. Moussa, Ali. "Mathematical Methods in Abū al-Wafāʾ’s Almagest and the Qibla Determinations".p56.
  4. قدري طوقان: تراث العرب العلمي
  5. ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/167.
  6. دائرة المعارف الإسلامية، النسخة العربية 1/421.
  7. مصطفى موالدي: من تراث البوزجاني ص124.
  8. البوزجاني: كتاب المنازل السبع، ص64.
المصدر : الجزيرة