شعار قسم ميدان

أبو العيناء.. الضرير الساخر وأديب العباسيين الجريء

" قال أبو العيناء: لما أُدخلتُ على [الخليفة العباسي] المتوكّل عابثني جلساؤه، فلما برَزتُ عليهم قال المتوكل: ادفعوا إليه عشرة آلاف درهم اتقاء للسانه"

يُخيَّل لمَن لا يعرف تاريخ الإسلام في عصوره الأولى أن أحداثه كانت على طريقة واحدة من السير والتتابع، حياة يعلو فيها صوت العقل تارة، وصوت السيوف تارة أخرى، بين فتح ومَغنم، أو علم يُنتفع به في ساحات الجوامع وبيوتات العلماء، أو بين المكتبات والمناظرات. ورغم صحة هذه النظرة فإنها تظل قاصرة عن استجلاء كامل الحقيقة، حقيقة حيوية وتشابك وتفاصيل الحياة اليومية في مجتمع بلغ ذروة العالمية آنذاك في مدن مثل البصرة وبغداد وسامراء.

 

كانت بغداد موطن العلم والعلماء، وكانت سامراء لفترة مستقر الخلافة والجيش نعم، لكن بين أزقتها وشوارعها عاش قوم منعّمون مما جنته عليهم مغانم التجارة، ووسط تدفق المكاسب الاقتصادية اتجه قسم كبير من الناس إلى اللهو والغناء، والانغماس في أدوات الرفاهة، والانشغال بالأدب، والإحاطة بالبُلغاء والظرفاء والفصحاء، وقد وجد قوم من أرباب النكتة والضحك والمساخر الأدب دورا مقدما لهم في ظل هذه البيئة الخصبة للحصول على مغانم من الطبقة الأرستقراطية من الخلفاء والولاة والعسكريين وكبار التجار وغيرهم، أو للشهرة بين عامة الشعب وطبقات الفقراء.

 

وبزغ من هؤلاء قوم وُصِفوا بـ "المجون" لصراحتهم المفرطة مثل أبي نواس الشاعر، والجاحظ الأديب، وأبي العَيناء الساخر، وهذا الأخير انتزع شهرة واسعة حتى ليمكن وصفه بأنه أحد مشاهير الأدب الساخر، أو أدب سرعة البديهة في عصر العباسيين المبكر في القرن الثالث الهجري. فمَن هو أبو العيناء؟ وما أبرز مواقفه الفكاهية بين العامة والخاصّة؟ ولماذا حصّل هذه الشهرة الواسعة؟ ذلك ما سنراه في تقريرنا.

 

عنوان ميدان

الشعراء بالعصر العباسي

في أواخر القرن الثاني الهجري وفي حدود عام 191هـ وُلد أبو عبد الله محمـد بن القاسم أبو العيناء الهاشمي في مدينة البصرة جنوب العراق، وشبّ على ما كان عليه الناس في هذه المراكز الحضارية التي كانت موطن العلم واللغة والحديث النبوي والفقه والأدب وغيرها، فتعلّم على أيدي علمائها وأساتذتها، غير أنه اشتهر بين الناس بسرعة البديهة، والظُّرف، والذكاء، وما إن بلغ الأربعين من عُمره حتى أُصيب بالعمى.

 

كان أبو العَيناء طموحا يحب مجالسة الولاة، وغشيان مجالس الخلفاء، وكان يوصي ابنه قائلا: "يا بُني، إذا أردتَ أن تكون منادما للخلفاء وذوي المروءة فعليك بنُتف الأشعار ومُلح الأخبار"[1]، وهو ما نراه متحققا في حياته، حتى قال فيه الأدباء والمؤرخون إنه كان "أحدّ الناس خاطرا، وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جوابا، وأبلغهم خطابا" كما يذكر أبو إسحاق القيرواني في كتابه "زهر الآداب وثمر الألباب".

 

ولهذا السبب تقرّب من ولاة البصرة، وأضحى ربيب نعمتهم، لا يتحرّج من سؤالهم إذا ضاق به الحال، فقد "كتب أبو العيناء إلى أبي القاسم بن عبيد الله بن سليمان (والي البصرة) رقعة يقول فيها: أنا -أعزّك الله- وولدي وعيالي زَرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبُل وذوى. وقد مسّني منك جفاء بعد برّ وإغفال بعد تعهّد، فشمَت عدوّ، وتكلّم حاسد، ولعبت بي ظنون؛ وانتزاع العادة شديد"[2].

 

كما كان لا يتحرّج في الذهاب إليهم في بيوتهم وقصورهم، وكانوا يرحبون به لمداعبته ومزاحه وسرعة بديهته، فقد "قصد [يوما] دار الواثقيّ، وهو الأمير بالبصرة -إذ ذاك-، فأُجلس في الدهليز ساعة إلى أن استؤذن له. وجرى الحديث، فقال رجل، في حديث اقتضى ذلك، يا أبا العيناء، أنت صائم اليوم؟ فقال: أمّا في هذه الدار، فنعم"[3]، حينها تحرّج الأمير فأذن له في الدخول.

 

كان أبو العيناء لا يهاب أحدا، ربما لإدراكه أن كونه ضريرا لن يُجرئ أحدا من إلحاق الأذى به، وهو الأمر الذي استغله لصالحه، فقد "دخل أبو العيناء على إسماعيل القاضي، وأخذ يردُّ عليه إذا غلط في اسم رجل وكُنية آخر، فقال له بعض مَن حضر: أتردُّ على القاضي أعزه الله؟ قال: نعم! لِمَ لا أرد على القاضي وقد ردَّ الهدهد على سليمان وقال: أحطت بما لم تحط به؟ وأنا أعلم من الهدهد، وسليمان أعلم من القاضي"[4].

 

وإننا لنرى أبا العيناء على موائد علية القوم، يحكي عنهم لحظات استمتاعهم وضحكاتهم في تلك المجالس، "قال أبو العيناء: أكلتُ مع بعض أمراء البصرة، فقدّم إلينا جديٌ سمينٌ، فضرب القوم بأيديهم إليه فقال: ارفقوا به فإنه بهيمة"[5]. بل إنه ليجد المتعة عند موائد طبقات المجتمع كافة، ولو كانوا من البخلاء، وأولئك صنف من الناس اشتهروا في ذلك العصر، حتى إن الأديب الجاحظ وصديق أبي العيناء كتب فيهم موسوعته الشهيرة "البخلاء".

 

أحد أولئك اضطر فيما يبدو إلى استضافة أبي العيناء الذي يقول: "دعَاني جارٌ إِلى وليمة، وكان بخيلا، فرأيته يَدُور على المَائِدَة ويتنفس الصعداء، وَيَقُول: (وجزاهم بِمَا صَبَرُوا جنَّة وَحَرِيرا)"[6]؛ فلم يعتد البخيل على الاستضافة وتحضير الولائم، وهو العمل الذي اعتبره مجاهدة كبيرة تستحق "الجنة".

 

عنوان ميدان

الشعراء بالعصر العباسي

ويبدو أن مجتمع البصرة لم يكن يُرضِ طموح أبي العيناء هذا الضرير خفيف الظل، فشد رحاله إلى بغداد ثم إلى سامراء عاصمة العباسيين الجديدة التي أنشأها الخليفة العباسي المعتصم بالله (ت 227هـ)، ولقد اكتسب أبو العيناء شهرة واسعة لأدبه وفكاهته، بل ولجرأته واستسهاله قول الشر والمجون، حتى بلغت حكاياته مسامع الخلفاء العباسيين وعلى رأسهم الخليفة المتوكل على الله (ت 247هـ).

 

ذلك الخليفة الذي قال "يوما لجلسائه: لولا ذِهاب بصر أبي العيناء لجعلتُه نديمي. فقال أبو العيناء لما بلغه ذلك: إن كان يُريدني لقراءة نقش الخواتم وقراءة الأهلة لم أصلح. فضحك واتخذه نديما"[7]. ويحكي أبو العيناء عن نفسه أنه دخل على الخليفة المتوكل وقد استدعاه بسبب سلاطة لسانه وجرأته على الناس، يقول: "لما دخلتُ على المتوكل دعوتُ له، وكلمته فاستحسن كلامي، وقال لي: يا محمد، بلغني أنّ فيك شرا، قلتُ: يا أمير المؤمنين، إن يكن الشّرّ ذكر المحسن بإحسانه، والمسِيء بإساءته، فقد زكَّى الله عز وجل وذم، فقال في التزكية: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، وقال في الذم: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ}"[8].

 

ولقد أُعجب المتوكل بأبي العيناء، ووجد فيه المزاحة والدعابة التي كان ينشدها الخلفاء في حاشيتهم، حتى كان يتقي شرّه بالمال، "قال أبو العيناء: لما أُدخلتُ على المتوكّل عابثني جلساؤه، فلما برَزتُ عليهم قال المتوكل: ادفعوا إليه عشرة آلاف درهم اتقاء للسانه"[9]. ويَعُد بعض المؤرخين والباحثين أبا العيناء مثالا للأديب المتكسّب، يتوسل للخلفاء والأغنياء، ولكنه لا يتوسّل كالضعفاء المساكين، وإنما يطلب بجرأة، وكأنه يأخذ حقا من حقوقه في أيديهم، فمن أسلوبه الساخر المتجرئ أنه دخل على الوزير العباسي أبي الصقر بعدما تأخر عنه، فقال: "ما أخرّك عنّا، قال: سُرق حماري! قال: وكيف سُرق! قال: لم أكن مع اللصّ فأُخبرك! قال: فلمَ لم تأتنا على غيره؟ قال: قعدَ بي عن الشّراء قلة يساري، وكرهتُ ذلة المكاري ومنّة العَواري"[10].

 

ومن إجاباته غير المتوقعة أن أحد كبار الأغنياء وعده أن يهديه بغلا وتأخّر في إنجاز وعده، "فلقيه في الطريق، فقال: كيف أصبحتَ يا أبا العيناء؟ فقال: أصبحتُ بلا بغل! فضحك من قوله وبعثه إليه"[11]. وقد دخل يوما بجرأة على الوزير العباسي عبيد الله بن يحيى الذي استقبله قائلا له: "كيف حالك؟ فقال أبو العيناء: أنت أعزك الله الحال فانظر كيف أنتَ لي؟! فوصَله [بمال] ووقع له بأرزاقه"[12].

 

ولعل من أهم توريات أبي العيناء الخفية التي يسخر فيها من تصرفات بعض الأمراء وأسلوبهم في ظلم الناس ما قاله عند الخليفة العباسي عن أمير اسمه موسى ظلم أحد الأغنياء بالقبض عليه، ومصادرة أمواله، بل مات الغني من شدّة الضرب على يد ذلك الأمير، فلما سُئل أبو العيناء عن ذلك الأمير قال: {فَوَكزَه مُوسَى فقَضَى عَلَيه}، فبلغت كلمته موسى، فلقيه فتهدّده، فقال أبو العيناء: {أتُريدُ أنْ تقتُلنَي كَمَا قَتلتَ نَفْسا بالأَمْسِ}، فهو يُصر على توجيه سهامه الساخرة له، وكشف جريمته للخليفة، وفضحه أمام الناس[13].

 

عنوان ميدان

الشعراء بالعصر العباسي

ولئن أحبّ أبو العيناء الاجتماع بالخلفاء والأمراء والأغنياء، والاستفادة من عطاياهم وهداياهم الجزيلة العميمة، فإنه أحبّ الاجتماع بعامة الناس من الفقراء، بل وبعض العُميان مثله فضلا عن الأعراب وغيرهم من أدنى طبقات المجتمع العباسي، فقد "اجتمع أبو العيناء وأبو علي البصير [وكان ضريرا مثله] يوما في مجلس، فاستطالَ [افتخر] عليه أبو العيناء، فقال له أبو عليّ: نحن جميعا ضريران، فما هذا التطاول؟ فقال: ولا سواء، أنت من عُميان العَصا [من الفقراء]، وأنا من عميان المواكب"[14]، أي مواكب الخلفاء والأمراء.

 

كان أبو العيناء أيضا يحب سماع حكايات الناس في البصرة وبغداد وغيرها، ويلجأ إليه بعضهم ممن أحب الفكاهة والنكتة، فقد "شكا رجلٌ امرأته إلى أبي العيناء، فقال له أبو العيناء: أتحب أن تموتَ هي؟ قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، قال: لـمَ -ويحك- وأنتَ مُعذَّب بها؟ قال: أخشى والله أن أموت من الفرح"[15].

 

وله مع الأعراب القادمين من الجزيرة العربية إلى العراق حكايات ونوادر، وطالما رأى فيهم الحكمة والأنفة والعزّة والشرف، يقول: "قلتُ لأعرابي: إِن الله محاسبك، فَقَالَ: سررتني فَإِن الكَرِيم إِذا حاسب تفضَّل"[16]، وكان يحبّ أن يُضيفهم لطعامه وشرابه، مثل ذلك الأعرابي الذي "قدم من المَدِينَة، فَلَمَّا قعدنا نَأْكُل، جعلت أذكر غلاء السّعر فِي تِلكَ السّنة، فَرفع الأعرابي يده عن الطعام، وقال: ليس من المروءة ذكر غلاء الأسعار للضيف. فقامَ، فاجتهدتُ به أن يأكل شيئا فَأبى، وَانصَرف"[17].

 

وهكذا عاش أبو العيناء فوق التسعين سنة، يتقلب في البلدان، ويغشى مجالس علية القوم من الطبقة الغنية المنعّمة، كما كان يجد نفسه وسط الناس من الفقراء والأعراب، وكان الأصمعي والجاحظ من أقرب أصدقائه، كما كان الجمّاز البصري صاحب الفكاهة والنكتة من المقربين له، وكما كان في حياته ذا جدل ومواقف، كان مشهد موته هو الآخر لا يقل جدلا ولا غرابة، فقد حكى الأديب أبو سعد الآبي في كتابه "نثر الدر" أن أبا العيناء قد "خرج -وهو ضرير وله نيّف وَتسْعُونَ سنة- إلى البصرة فِي سفينة فيها ثمانون نفسا، فغرقت فَلم يسلم غَيره، فلما صار إلى البصرة توفي بها"[18]، وذلك سنة 282هـ، وهكذا انتهت حياة أبي العيناء، الضرير الأديب الساخر، وأحد أكثر الناس تمثيلا لملح الأرض من عامة الناس وفقرائهم في ذلك العصر.

_____________________________________________

المصادر

  1. ابن الجوزي 5/160.
  2. ابن قتيبة: عيون الأخبار 3/217.
  3. التنوخي البصري: نشوار المحاضرة 3/48.
  4. أبو حيان التوحيدي: البصائر والذخائر 5/134.
  5. أبو حيان: البصائر 7/179.
  6. أبو سعد الآبي: نثر الدر 3/200.
  7. الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء 2/315.
  8. أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين ص427.
  9. أبو حيان التوحيدي: البصائر والذخائر 1/78.
  10. الحموي: 6/2607
  11. الآبي: نثر الدر 3/198.
  12. أبو هلال العسكري: ديوان المعاني 2/221.
  13. السخرية والفكاهة ص64.
  14. التنوخي: نشوار 3/49.
  15. أبو حيان التوحيدي: البصائر 5/198.
  16. الآبي: نثر الدر 6/38.
  17. الآبي: السابق 6/41.