آخر أجيال المفكرين الإسلاميين.. قصّة محمد عمارة بين الأزهر واليسار والصحوة الإسلامية
"د. عمارة هو الباحث المَنهجي الموضوعي، الذي يخدم العلم، ويحترم المنهج.
وقد حمل عقلية الفيلسوف، وقلب الصوفي، وانضباط الفقيه، وحماس الداعية، ورقَّة الأديب، وعزيمة المقاتل"
(يوسف القرضاوي)
لم يكن رحيل محمد عمارة في الثامن والعشرين من فبراير/شباط 2020 مُجرد إعلان لوفاة مُفكر إسلامي أو باحث مصريّ عُرف بالموسوعية، فالصورة التي انطبعت في أذهان الكثيرين عند سماع اسم محمد عمارة أقرب ما تكون لذلك المُناضل العجوز الذي يُناظر في محفل جماهيري، أو الكهل الذي يمسك بالقلم لتسطير حكمته، أو الشيخ الذي يجلس في مكتبته العتيقة، يرتدي نظارته الغليظة، مُحاطا بتلاميذه يُسامرهم في العِلم.
فخلال الخمسين عاما الماضية حُفِر اسم "محمد عمارة" في الساحة الفكرية العربية، إذ كثيرا ما حضرت أفكاره في نقاشات التيارات الفكرية الإسلامية الحديثة، وقد كان حضوره إما استشهادا بفكره، أو للتحفظ على أُطروحاته، أو حتى ردا على بعض آرائه. لكنّ المتفق عليه -وعلى الرغم من هذه التباينات في الموقف من د. عمارة- أن اسمه ظل حاضرا بين تيارات الفكر الإسلامي، إذ من النادر أن تؤلَّف رسالة أكاديمية عربية في تناول ما يُسمى بـ "الفكر الإسلامي الحديث" إلا وستجد ضمن مراجعها كتابا من كتب محمد عمارة.
"آخر أجيال المثقفين"
يمكن القول إن جيل "عمارة" قد أُتيح له عددٌ من العوامل التي لم تعد حاضرة أو متوافرة في الأجيال التي تلته، حتى يُمكننا تسمية هذا الجيل من الأزاهرة الذين شهدوا ما قبل ثورة 1952 وما بعدها باعتبارهم "أواخر المثقفين الأزهريين". فعلى الرغم من نشأة عمارة الأزهرية فإنه تقلّب في مسارات ودُروب شتى، من الكُتّاب والأزهر والسياسة ومصر الفتاة واليسار، ودخوله السجن، ثم اتجاهه للقومية العربية، وأخيرا مُنافحته عن الصحوة الإسلامية، والتي استقر به الحال مُنظِّرا لها منذ نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات حتى مماته. وقد اجتمعت في عمارة تركيبة فريدة، فقد تحصّل على معرفته الدينية عبر التعليم الأزهري، والثقافة العربية من دار العلوم، والحركيّة السياسية المجتمعية عبر انتمائه إلى اليسار، بالإضافة إلى اطلاعه على مساحتَيْ المعارف المدنية والشرعية.
كما أن لعمارة اشتغالا فكريا متشعّبا، ما بين تحقيق وإخراج أعمال أعلام العصر الماضي من مدرسة الإحياء والتجديد [أ] التي تُنسب إلى الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، إضافة إلى الاشتغال البحثي في فِرَق الفكر الإسلامي المُبكر مثل الشيعة والمعتزلة وأعلام المنتسبين للسُّنة، في وقت لم يكن فيه اهتمام بهذه المساحات البحثية المقارنة في الدراسات العربية الأكاديمية، ثم الانشغال والتنظير حول القومية العربية، ولاحقا الفكرة الإسلامية والجامعة الإسلامية [ب]. لقد عاش عمارة في قلب المعارك التي اختارها لنفسه؛ مرابطا على ترميم ما رآه مهدورا من "ثغور الفكر الإسلامي".[1]
ومنذ السبعينيات، اتجه عمارة إلى الاهتمام بما سمّاه "الوعي الحضاري الإسلامي"، وكثرت كتاباته في هذا الباب لتشمل مواضيع مثل: الحضارة، والمرأة، والسنة، والقرآن، والدفاع عن الصحوة الإسلامية، مع عدد كبير من المؤلفات والمناظرات، والتي كان لها الصيت الأوسع في حينها. وقد زاد من هذا الصيت لعمارة أثناء تحوُّله من اليسار إلى الانتماء الإسلامي بعد نكسة 67 ضمن التيار اليساري الذي تحوَّل عددٌ غير قليل منه إلى الاتجاه الإسلاميّ في ذلك الوقت، حيثُ برزت أسماؤهم متشابكة معا مثل محمد عمارة وطارق البشري وفهمي هويدي، وبصورة ما عبد الوهاب المسيري، وآخرين.
ما يعني أن التأريخ لعمارة وجيله هو ضَربٌ من التأريخ لجزء من الأفكار الإسلامية المعاصرة في تحولاتها المتعددة. لكن على الرغم من هذه التنقلات التي اتّسمت بها حياةُ عمارة، فقد حافظ حتى نهاية حياته على عدم انتمائه التنظيمي لجماعة أو تنظيم أو تيار بعينه، سواء كان عقديا أو مذهبيا، واكتفى بالانتماء إلى الخطّ الإسلامي العام، أو ما يُطلق عليه أحيانا تيار الوسطية الإسلامية. وقد أتاح له ذلك قدرا من الانفتاح على مدارس الإسلاميين وأفكارهم، وقدرا من حرية الاختيار العلمي والحركي، وهو ما يستحق أن نُسلّط الضوء عليه، ونرصد أهم المجالات التي حضر فيها د. محمد عمارة، وتطوراته الشخصية عبر مسيرته الممتدة.
المُقاتل الأخير في مدرسة محمد عبده
"الدكتور محمد عمارة ليس محتاجا إلى تسليط الأضواء عليه، بل ربما هو يعاني منها، إذ يشغل مساحة واسعة من الثقافة العربية المعاصرة بما يُقدِّمه من كتب ومقالات مهمة، وأعتقد أن سؤال عمارة الأساسي كان عن النهضة، وهي تُمثِّل النقطة المحورية التي دارت حولها سائر أعماله الفكرية، وهو ليس فقط باحثا عنها وإنما مشارك فيها".
(حسن الشافعي، رئيس مجمع اللغة العربية)
على مدار أكثر من رُبع قرن، اهتم محمد عمارة بتراث مدرسة "الإحياء والتجديد"، وهو الاسم الذي يُطلق على مدرسة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وما تفرّع عنهما، وامتد اهتمام عمارة إلى أعلام النهضة المصرية بعموم، فأخرج الأعمال الكاملة لعدد من هذا الجيل مثل جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رفاعة رافع الطهطاوي، عبد الرحمن الكواكبي، قاسم أمين، علي مبارك. وقد كان لعمارة دراسات جادة حول هذه الشخصيات وإسهاماتها الفكرية، وقد أخذت هذه الأعمال حيزا كبيرا من كتاباته، وهو ما كَوّن له اطلاعا كبيرا على الحركة الثقافية والفكرية والسياسية في القرن الماضي، وبسبب قربه من هذه الأسماء فقد عاش عمارة مع تفاصيل هذه المدرسة، وعايش أعلامها ورموزَها، حتى أصبح اسمه مقرونا بأعلام هذه المدرسة، وتعدّى الأمر ذلك حتى أصبح يراهم الباعث للنهضة العربية الإسلامية، وأن التيارات العلمانية اختطفت هذه الأسماء إليها [ج].
وقد كان لدراسات د. عمارة زاوية لا تُخطئها العين، وهي رغبته في تسليط الضوء على إسلامية أفكار هذه الشخصيات وعقلانيتها في آنٍ واحد، وهو الموقف الوسط -بحسب عمارة- الذي اتخذته هذه الشخصيات بين تيارين مختلفين هما "تيار التغريب" و"تيار الجمود".[2] وعندما اقترب عمارة من الصحوة الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات، حاول أن يُوجِد رابطا بين الصحوة الإسلامية وجذورها في حقبة التنوير العربي تلك، والتي انتشرت في مطلع القرن العشرين. وتظهر هذه المحاولة في الثناء الكثيف والمتكرر من عمارة على أعلام هذه المدرسة وعلى الرأس منهم جمال الدين الأفغاني وتلميذه الأستاذ محمد عبده، والذي يصفه عمارة بأنه "أعظم العقول الإسلامية التي وهبت جُلّ طاقتها لتجديد الفكر الإسلامي، وجلاء ركام البدع والخرافات والإضافات عن أصول الإسلام".[3]
وبهذه التراتبية التي صنعها عمارة كان يُرجع ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة إلى هذه المدرسة القديمة في القرن الماضي، ويستحضر تأثر حسن البنا بأفكار الشيخ رشيد رضا، والذي كان ألصق تلاميذ محمد عبده، وهو ما جعل عمارة يعتبر أن مشروع حسن البنا امتداد وتطوير لمشروع عبده، وقد توسع في هذه الفكرة في كتابه "معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا".[4]
وَلّد هذا الاشتغال الفكري من د. عمارة رغبة في إحياء ما كان يسميه "التنوير" و"العقلانية" الإسلامية، والتي كان يراها في هذه المدرسة، وتبنّى الدعوة إلى الجمع بين المعارف الشرعية والمعارف المدنية، ورفض ما سمّاه "التقليد الشرعي" والذي استقر في كتب الأزهر ومناهجه منذ حقبة المماليك. وهذا الموقف من د. عمارة متّسقٌ مع مسألة تطوير التعليم الأزهري التي نادى بها الأستاذ محمد عبده نفسه حين كان مُفتيا، والتي دار حولها الصراع بين محمد عبده وبين عدد من مشايخ الأزهر فيما عُرف بتجديد المناهج الأزهرية في القرن الماضي.[5]
وعلى الرغم من ثقافة عمارة الأزهرية، وحفظه لدواوين الشعر العربي، ودراسته على طريقة الحواشي في الأزهر، واقترابه من تيار النهضة العربية في القرن الماضي، فإنه لم ينزوِ عن الانفتاح على الحياة الأدبية والفكرية لعصره، فقد طالع السجالات الثقافية التي زخرت بها مجلات هذا العصر (5)، فقرأ مجلة "الأزهر" كاملة، ومجلة "الرسالة" كاملة، وهما من أشهر المجلات الثقافية في القرن الماضي، كما حاز النسخة الأصلية من مجلة "العروة الوثقى" التي أصدرها الأفغاني وعبده من منفاهم في باريس، وهو ما كوّن لعمارة اطلاعا واسعا وفريدا على أعلام القرن الماضي وأحداثه المختلفة.
اليسار والمعتقل.. ما قبل الصحوة
"هناك قضيتان لازمتاني في حياتي -منذ البداية وحتى هذا التاريخ- وهما: قضية الحرية وتحرير الوطن، وقضية العدل الاجتماعي الذي كان يستنفر الإنسان ليقف مع المساكين، وهذا ما جعلني أنتمي إلى اليسار".
(محمد عمارة)
اقترب د. عمارة من اليسار المصري في الأربعينيات، وتعرف على كبار مُنظّريهم، وقد أتاحت له هذه الفترة القراءة في الأدبيات الماركسية والفكر الغربي، وهو ما أضاف إلى عماره مراكمة معرفية في مساحة مختلفة، الأمر الذي استصحبه في حياته المعرفية لاحقا، وتَمثَّل هذا التوجه في "النضال من أجل العدالة الاجتماعية"، وهو ما جعل ارتباط عمارة باليسار وانخراطه فيه من باب المناهضة للهيمنة الإمبريالية الأميركية، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وهو ما لم يجعله يمتد في يساريته حتى يتبنّى الماركسية في بنيتها المادية الإلحادية، يقول د. عمارة: "مواقفي في مرحلة اليسار والمرحلة القومية ثم الإسلامية حصل فيها نضج وتطور، لكن لم تكن هناك فواصل حادة بينها. كنت يساريّا بالمعنى الاجتماعي الثوري، وليس بالمعنى العَقَدي، فلم يكن هناك إلحاد؛ لأن التجربة الروحية والتكوين الديني الأصيل عصمني من أن أُستوعَب في الفكر المادي والنظرية المادية".[6]
يستفيض عمارة في الحديث عن هذه الفترة فيقول: "وعندما أُلغيت الأحزاب -ومنها مصر الفتاة والحزب الاشتراكي- لم يكن أمامنا لمواجهة الإقطاع إلا اليسار، فقد كان اليسار حينها فارس القضية الاجتماعية والعدل الاجتماعي، وكان له موقف من القضية الوطنية، فقد كان ضد القواعد العسكرية والوجود الأجنبي. وكنت قد دخلت اليسار من باب القضية الاجتماعية ومن باب القضية الثورية". وفي مسيرته تلك، انخرط عمارة في الحَراك السياسي داخل الجامعة، وكان يُصدر مجلة يسارية في كلية دار العلوم، وقد فُصل من الجامعة لمدة سنة لتزعُّمه مؤتمرا وطنيّا وقوميّا، إلى أن اعتُقل نحو ست سنوات، مما أدّى إلى تأخر تخرجه إلى 1965 بدلا من 1958.
بالتوازي مع هذه "اليسارية" إن صحّ القول، تبنّى عمارة فكرة القومية العربية، وأخذت منه حيزا كبيرا، وقد كتب في هذه المسألة أول كتبه، وتوسّعت كتاباته فيها بعد خروجه من السجن. وحتى بعد التحول إلى التيار الإسلامي بمعناه الواسع، لم يترك عمارة الدعوة إلى القومية العربية، وإنما جعلها جزءا ضمن مشروع أكبر وهو مشروع الجامعة الإسلامية الواسعة، وهو المصطلح الذي كان يستخدمه مصطفى كامل ومحمد فريد وجدي زعماء الحزب الوطني في القرن الماضي.
من اليسار إلى صحوة السبعينيات
"د. عمارة عالم موسوعي في عصر ندر فيه الموسوعيون، يُذكِّرنا بسيرة العلماء والمفكرين الأجلاء من أمثال محب الدين الخطيب ومحمد فريد وجدي، وهو دقيق جدا في استخدام المصطلحات وتحليلها، يمزج في كتاباته بين القومية والوطنية والإسلامية".
(عبد الحليم عويس، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية)
إذا كان يُمكننا -بشيء من التجاوز- اعتبار سيد قطب هو المُنظِّر الأول لجيل الستينيات من الإسلاميين، فإن الأمر نفسه يمكن اعتباره مع شخصيات مثل يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي ومحمد عمارة ومحمد سليم العوا وطارق البشري وفهمي هويدي في جيل السبعينيات، والذين اشتد حضورهم في الثمانينيات والتسعينيات [د]، وهو ما يعني أن د. عمارة قد تبوّأ مكانة كبيرة بين الإسلاميين الحركيين رغم غلبة اشتغاله بالأعمال والدراسات النظرية في الفترة السابقة من حياته، ليصبح من ذلك الوقت أحد أهم وألمع المفكرين الإسلاميين طوال الثمانينيات والتسعينيات وحتى الربيع العربي.
وهو ما جعل عماره يُطوِّر مشروعه الخاص والذي كان يُسميه بـ "مشروع الإسلام الحضاري". وعلى الرغم من الفروقات بين هذا المشروع الفكري وبين مشروع جيل الستينيات، فإن هذا التيار بعيد نسبيا عن الجدل الذي استخدمته مدرسة الستينيات والمنتمية إلى الأستاذ سيد قطب وأبي الأعلى المودودي في مفرداتها مثل "الحاكمية" و"الجاهلية المجتمعية" والعزلة الشعورية، وإن اتفقت المدرستان في كثير من المضامين [هـ].
وثمة حضور آخر لَعِبه عمارة مع آخرين في هذه الفترة، وقد تَمثَّل في الكيانات الإسلامية العالمية، والتي تأسست منذ السبعينيات والثمانينيات ونشطت في التسعينيات، وكانت تحمل فكرَ ما يُسمى بـ "الوسطية" و"الإسلام الحضاري". وقد كان عمارة عضو اللجنة التحضيرية التي وضعت الورقة الأساسية لممثلي الاتجاه الإسلامي في الاجتماع الأول للمؤتمر التأسيسي للمؤتمر القومي الإسلامي، وعمل عليها معه محمد سليم العوا، وفهمي هويدي، وطارق البشري، ويوسف القرضاوي. كما كان لعمارة نشاط في "مركز الفكر العالمي"، وزادت إسهاماته في هذا الاتجاه الحضاري مع عدد من الأسماء السابقة، إضافة إلى أسماء أخرى مثل إسماعيل راجي الفاروقي، وفتحي ملكاوي، وعبد الرحمن النقيب، ورفعت العوضي، وطه جابر العلواني، وعبد الحميد أبو سليمان، وآخرين.
ومع الوقت، زاد حضور عمارة في الفضائيات والمجلات والصحف الثقافية، وكذلك في المناظرات في فترة التسعينيات، وهو ما جعل عمارة وكأنه أحد الممثلين غير الرسميين لتيار الفكر الإسلامي في هذه المجالات مجتمعة، وقد كان لهذا الدور الذي مثّله عمارة -مع آخرين- مكانة كبيرة في تعزيز الثقافة الإسلامية عالميا.
ومع ذلك كله، ظل عمارة محتفظا بثقافته الأزهرية، وظل على تقدير واحترام كبير من المؤسسة الدينية الرسمية حتى آخر حياته، فقد ضُمَّ إلى مجمع البحوث الإسلامية في عهد الشيخ سيد طنطاوي، ثم أصبح عضوا في هيئة كبار العلماء والتي أُسِّست بعد الثورة، وظلَّ بها عضوا حتى وفاته، رغم موقفه المعلن من الانقلاب في مصر عام 2013.
الكنيسة واليسار والتكفير.. معارك مشهودة
"حينما يكتب الدكتور محمد عمارة في قضية أو يتحدث فيها لا تشعر أنه كاتب يكتب بقلم، أو مؤلف يحبِّر الورق، أو خطيب يعتلي المنبر، أو متحدث يتكلم في ندوة، وإنما تشعر أنه مقاتل في معركة يحمل السلاح، ومجاهد مرابط على الثغور يحمي الذمار، فترى بارقة السيوف فيما يكتب أو يخطب".
(يوسف القرضاوي)
ثار عدد من المعارك بين د. عمارة وبين البابا شنودة، وكان الإعلام القبطي يشنّ حربا من فترة لأخرى على عمارة، وقد استمر هذا الأمر حتى مماته. فقد كان لعمارة موقف شديد من البابا شنودة، إذ كان يعتبره "رأس الفتنة في مصر"، وأن الفتنة في مصر لم تنشط إلا بعدما تولّى البابا شنودة البطريركية، لأن شنودة -بحسب عمارة- يُصِرّ أن يلعب دور السياسي مع زعامته الدينية، ومَردُّ ذلك -في نظر عمارة- لانتماء شنودة القديم إلى جماعة الأمة القبطية [7] [و]، والتي كانت تسعى للسيطرة على النفوذ في مصر، وهو ما جعل السادات يحكم بعزل البابا شنودة عن منصبه، قبل أن يُعيده مبارك مرة أخرى.
وكان ذروة التصعيد بين عمارة والكنيسة المصرية حين أصدر عمارة كتابه "تقرير علمي" في عام 2009، والذي كلّفه به مجمع البحوث الإسلامية للرد على منشور تنصيري وُزِّع في القاهرة باسم مستعار [د. سمير مرقص]. وكان يُفنِّد عمارة هذا المنشور التنصيري في كتابه، والذي ضمّنه أدلة على تحريف الإنجيل والتوراة، وبيان أن المسيحية ليست مذاهب متقاربة ذات عقيدة واحدة، مثل مذاهب الفقه الإسلامي، بل مذاهب متباينة، وكذلك نقد فيه عمارة عقيدة الخطيئة الأصلية والمعجزات عند النصارى.[8]
وعلى الرغم من هذه المعارك، فقد كان عمارة يُصِرّ أن المنهج الحضاري الإسلامي قد استوعب الأقباط في الماضي وهو قادر على استيعابهم في الحاضر، وأن المشكلة في الدور السياسي الخفي الذي يلعبه البابا شنودة، وأن مصر لم تعرف هذه الحالة مع البابا كيرلس، ولا مع الأنبا موسى، ولا الأب متى المسكين والذي يعتبره عمارة معبرا عن موقف الكنيسة التاريخي في التعايش مع المسلمين.
محمد عمارة والبابا شنودة والكنيسة
وقد انتشرت مناظرات عمارة منذ التسعينيات حين وضع د. عمارة نفسه في موقع المنافح عن الفكر الإسلامي ضد الماركسية والعلمانية، مُتسلِّحا بخبرته السابقة باليسار المصري في سنوات انضمامه لهم، حيث أتاح له الاطلاع على أعلام الفكر الماركسي العربي والاتصال بهم مباشرة في زمالات ممتدة، وهو ما جعل عمارة على معرفة بمواطن الخلل لديهم في فهم الإسلام كما يقول عمارة نفسه. وكثيرا ما كان يُشير د. عمارة إلى هذا المعنى في كتاباته، حيث يذكر في كتابه "التفسير الماركسي للإسلام": "وإني خبير قديم بالماركسية والماركسيين لغة، وفكرا، وممارسة، وأساليب عمل، وأنماط علاقات".[9]
وقد كتب د. عمارة هذا الكتاب ردا على د. نصر حامد أبو زيد، وقسّمه إلى مقدمات عن "حرية الاعتقاد، والتكفير، والردة"، ثم ضمّنه قسمين "ما لا يجوز الخلاف فيه، ما يجوز الخلاف فيه". وقد ناقش عمارة ما أورده د. أبو زيد من أفكار في مؤلفاته، بناء على نقد البنية الماركسية في تحليل النص والتي ينطلق منها أبو زيد في تعامله مع القرآن، ثم عالج عمارة هذه الإشكالات من نصوص الإسلام والقرآن الكريم والتراث الإسلامي. والملاحظ في رد د. عمارة أنه لم يتطرّق إلى تكفير أبو زيد، بل أكّد أن الخلاف معه فكري بالأساس، وسببه الأساسي هو الخلاف حول كيفية فهم الإسلام، وذلك على الرغم من ميل علماء آخرين للقول بكفر أبو زيد في ذلك الوقت، وهو ما حكمت به المحكمة [ز]. ولم ينطلق عمارة في نقده لنصر حامد أبو زيد من استحضار أبو زيد للمعتزلة في قضية خلق القرآن كما انطلقت أغلب الردود الإسلامية عليه، إذ إن لعمارة موقفا غير عدائي مع الأطروحات الاعتزالية كما سيأتي.
وقد كان عمارة يميل -بحسب تعبيره- إلى التعددية وحق التعبير عن الرأي، وعارض الحكم الذي أصدرته المحكمة بردة أبو زيد، وصرّح أن "قضية الدكتور نصر أبو زيد هي قضية فكرية، مجالها الحوار الفكري، والمختصون فيها هم المفكرون والباحثون، وليست قضية قانونية… فالدكتور نصر صاحب مشروع فكري، وأنا ممّن يختلفون مع قضاياه اختلافا جذريا، فكتاباته تدور حول تاريخية النصوص المقدسة، وأنا أرى مثل هذه الأفكار يجب أن تكون موضوعا لحوارات فكرية وموضوعية، لا مادة لدعوة وأحكام قضائية".
وقد أشاد أبو زيد نفسه بهذا الكلام، واعتبره موقفا منصفا وعقلانيا من الدكتور عمارة، وقد كرّر د. عمارة رأيه هذا في مناظرته الشهيرة مع د. نصر حامد أبو زيد في برنامج "الاتجاه المعاكس".
مناظرة محمد عمارة ونصر حامد أبو زيد
وإذا تركنا الكنيسة، وأبو زيد، وذهبنا إلى الخلف قليلا، وبالتحديد في عام 1992م، فإننا إذن مع مناظرة أخرى، وهي واحدة من أشهر مناظرات القرن الماضي، والتي دارت أحداثها في معرض كتاب 1992 بين د. عمارة والشيخ محمد الغزالي ومرشد الإخوان مأمون الهضيبي، وفي الجهة الأخرى كان فرج فودة والدكتور محمد خلف الله.
وقد تناولت المناظرة موضوع "الدولة الإسلامية والدولة المدنية"، وبعد هذه المناظرة بشهرين اغتيل فرج فودة لدعوته المتكررة إلى المناداة بالعلمانية وترك الشريعة والتحاكم إليها [ح]، وتُعتبر هذه المناظرة إحدى أشهر مناظرات القرن الماضي، لا سيما بعد اغتيال فودة في العام الذي انعقدت فيه المناظرة.
مناظرة محمد عمارة وفرج فودة
تنازع الفُرقاء..
"وأنا أيضا يطمئنني كثيرا أنني على صراط الوسطية الإسلامية أن هناك عشرات من الكتب في التيار العلماني تهاجمني، وأيضا في تيار الغلو الديني والجمود تهاجمني، وإذا كان إنسان يُهاجَم من هذا الفريق ومن هذا الفريق، فهذا دليل على أنه ليس هنا وليس هناك، وإنما هو في وسط بين هذين الفريقين".
(محمد عمارة)
مع كل هذه المراحل التي خاض فيها محمد عمارة، فقد اقترب في بداية حياته من المعتزلة وأفكارهم، وعمل على إخراج تراثهم، وفي أطروحته العلمية عن فلسفة الحكم في الإسلام استدعى دور المعتزلة، كما حقّق رسائل العدل والتوحيد، وكتب عدة مقالات في الدفاع عن المعتزلة.[11] لكن الدكتور عمارة قد تخفّف مع الوقت من الانتساب إلى المعتزلة -وإن لم يتخذ موقفا حديّا منهم- وأصبح أقرب إلى التيار الأشعري العام، وكرّر في كتاباته أن التيار الأشعري يُمثِّل أكثر من 90% من الأمة الإسلامية.
ثم أفرد كتابات للدفاع عن الشيخ ابن تيمية، والسلفية بمعناها التاريخي، ولم يتخذ منها موقفا عدائيا، بل تصالح معها، وعادى العلمانيين الداعين لترك الشريعة، وهو ما جعل موقف عمارة من التيارات الإسلامية المختلفة به قدر من الانتقاء والانتقال دون الانحصار على تحقيق قول بعينه، ويبدو أنه لم يُرد أن يلتزم مذهبا بعينه بين خصومه من العلمانيين، وهو موقف قريب من موقف الإمام أبي حامد الغزالي على الفلاسفة حين قال: "فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطورا مذهب الواقفية، ولا أنهض ذابا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد".[12]
وبالطور الأخير الذي مال إليه الدكتور محمد عمارة بتبنّي قضايا المسلمين العامة جعلت له المكانة بين تيارات الفكر المختلفة، وجعلت التيارات من حركية إخوانية، وسلفية، وصوفية أو أزهرية، وعقلانية ونهضوية، ترى في الدكتور عمارة جزءا منها وإن خالفته في منهجه العام.
وقد زاد من هذه الحالة المتفردة للدكتور محمد عمارة مواقفه العامة مع قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، وقد ظلّ الدكتور عمارة في مكانه داخل هيئة كبار العلماء في مصر ولم يغادرها، ومع ذلك ندّد بالمذابح المختلفة التي حدثت في مصر، وأصدر بيانا مرئيا بأن ما حدث في مصر انقلاب دموي على حلم الحرية الذي عاش الناس على أمله.
ومجموع مواقف هذه الشخصية، وسيرتها الذاتية، ودفاعها عما تعتقد أنه حق، مع إتاحة الفرصة لحرية الرأي الآخر؛ هو ما يُفسِّر سبب الحفاوة الشديدة التي لاقاها عمارة في حياته، والتي استمرت بعد وفاته، حيث رثاه عامة المفكرين في العالم الإسلامي.
_______________________________________________________________
الهوامش
- [أ] مدرسة فكرية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأهم أعلامها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وتنوّعت إلى روافد عدة بعدهما؛ علمانية، وإسلامية، ويُعتبر د. عمارة أحد أبرز المنافحين من الباحثين المعاصرين عن هذه المدرسة.
- [ب] يُعبِّر عن الخلافة في صورة معاصرة بلفظة "الجامعة الإسلامية"، وهي فكرة دندن حولها كثيرا عبد الرزاق السنهوري باشا، والذي وضع القانون المدني المصري، وكتب رسالته في السوربون "الخلافة وتطورها إلى عصبة أمم شرقية". وقد كان لعمارة اعتناء بتراث السنهوري باشا وجمع له كتابا بعنوان "إسلاميات السنهوري باشا".
- [ج] هناك تنازع كبير بين مدارس الفكر المختلفة حول هذه المدرسة وما تفرّع عنها أو تولّد منها من تيارات، وللمزيد حول هذا يُمكن مراجعة:
- – الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني
- – الإسلام والتجديد في مصر، تشاليز آدمز.
- – أسس التقدم عند المفكرين الإسلاميين، فهمي جدعان.
- – حوارات نماء، سلطان العميري وأحمد سالم.
- [د] وهو موضوع مقارنة حريّ طرحها في تقرير مستقل لاحقا إن شاء الله.
- [هـ] يمكن مراجعة لقاءات الشيخ القرضاوي حول سيد قطب، وبعض تحفظاته على أطروحاته على سبيل المثال.
- [و] جماعة مسيحية متطرفة تأسست في مصر على غرار جماعة الإخوان المسلمين، وكانت تتخذ شعار "المسيح غايتنا، والإنجيل دستورنا…".
- [ز] نرى أن الدكتور عمارة شديد التوسع في الإعذار لدرجة قد تجعله مثار نقد من آخرين، لا سيما مع مساس بعض هذه المجالات لمساحات عقدية أو مواقف فاصلة.
- [ح] رغم أن فودة يغلب عليه الطابع الصحفي في الكتابة وليس الكتابة العلمية المنهجية، فإن عددا كبيرا من كتبه خصّصه لهذه الدعوة، مثل: "حوار حول العلمانية"، و"الملعوب"، و"الإرهاب"، و"النذير"، و"قبل السقوط".
- [ي] انتشرت هذه الفكرة بكثافة بعد موت د. عمارة، ويبدو أنها مجرد دعاية لتخليص حسابات قديمة معه دون الاستناد إلى أي حقائق أو دلائل حقيقية.
المصادر:
- محمد عمارة الحارس اليقظ، يوسف القرضاوي.
- راجع مقدمة محمد عمارة لأعمال الشيخ محمد عبده.
- المصدر السابق.
- معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، محمد عمارة.
- يمكن مراجعة موقف العلم والعقل لمصطفى صبري في نقده لآراء محمد عبده تلك.
- كان يطالع ويكتب 18 ساعة وفضّل شابا الانتماء لـ"مصر الفتاة" على "الإخوان".. محمد عمارة سيرة ومسيرة، معتز الخطيب.
- يُمكن مراجعة كتاب: لعنة جماعة الأمة القبطية.
- تقرير علمي، محمد عمارة، طباعة مجمع البحوث الإسلامية.
- التفسير الماركسي للإسلام، محمد عمارة.
- يمكن مراجعة: "حقيقة تورط محمد عمارة في فتوى قتل فرج فودة!!" لعصام تليمة.
- يمكن مراجعة بعضها من أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية.
- تهافت الفلاسفة، أبو حامد الغزالي.