أصول الطغيان.. كيف أثرت الجغرافيا والتاريخ والزراعة على تعايش المصريين والاستبداد؟
اضغط للاستماع
"مصر تجتاز اليوم أخطر عنق زجاجة في تاريخها الحديث وربما القديم كله، فهناك انقلاب تاريخي في مكان مصر ومكانتها، ولكن من أسفل إلى أسفل وإلى الوراء، نراه جميعا رأيَ العين، ولكن فيما يبدو، نُفضِّل أن ندفن رؤوسنا في الرمال".
(جمال حمدان)
متأثرا بما كانت تمر به مصر من هزائم ونكسات في الحرب والحرية، صدر كتاب "شخصية مصر" للعالِم جمال حمدان في عام 1967، حيث كانت أصداء النكسة لا تزال تُسمع، ودمارها المادي والنفسي يُلمس ويُحس. خاطب جمال حمدان العقول من خلال كتاباته المتنوعة ما بين أبحاث وكتب، غير مكتفٍ بإظهار الحقائق فقط، بل إظهار الكوارث أيضا بحجمها الطبيعي دون تهوين أو تهويل، فحين قال إن مصر تنزلق إلى هلاكها كقيمة قومية ويتقلص حجمها ووزنها بين جيرانها، لم يكن يهوِّل، بل يتحدث عن واقع يمكننا اليوم أن نراه رأيَ العين.
إحدى إشارات هذا الانزلاق اليوم، والتي تتبدّى كثيرا وفق الأحداث المتتالية التي تعيشها مصر، ظهرت جليا حينما قررت الدولة المصرية منح جزيرتَيْ تيران وصنافير لصالح المملكة العربية السعودية، وهو القرار الذي تبعه توجيه وسائل الإعلام المملوكة للسلطة كافة، أو المؤتمرة بأمرها، لدعم هذا القرار وتبريره، وعلى الرغم من وجود نفر قليل من المعترضين والمؤكدين مصرية تلكما الجزيرتين، فإن أغلب الشعب المصري كان يتخبّط بين تصديق وتكذيب، ولا يعرف يقينا إذا ما كانت تلك الجزر مصرية أم لا.
|
هذا "التخبط البائس" الذي يعيشه المصريون يصفه جمال حمدان فيقول: "إننا كمواطنين عاديين جهلة جدا بمصر. فأقل مَن يعرف عن مصر هم المصريون، فلا عجب بعد هذا وما نرى وما نلمس من تخبط أن تكون ثقافتنا الوطنية قاصرة ومحدودة، بل نأخذها بطريقة عاطفية فجة أكثر منها علمية ناضجة. ونحن ندفع ثمنا باهظا في كل جوانب ونواحي حياتنا بلا استثناء"، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بحسب حمدان، فإننا بحاجة -كمصريين- إلى فهم كامل مُعمّق وموثق لوجهنا ووجهتنا، كياننا ومكانتنا، ولإمكانياتنا وملكنا، لا عن طريق الإعلام الأعمى ولا الدعاية ولا حتى التوجيه القسري المنحرف المغرض، بل عن طريق العلم والمعرفة. فالسؤال هنا ليس عن معرفة تاريخ الدولة المصرية، بل كيف نشأت وكيف شكّلتها الطبيعة قبل أن يُشكّلها المصريون؟
كيف تشكّلت الدولة الأقدم في التاريخ؟
"كل ما يقع في مصر يدل على أن هذا البلد هو بلد الاستعباد والاستبداد".
(فولني)
قبل الشروع في الحديث عن الدور الذي لعبته جغرافيا مصر في تشكيل الدولة، من المهم معرفة أن علم الجغرافيا، لما له من خصوصية كعلم متفرد، يهتم بالتعمق في البحث أكثر من السرد، فهو يربط القديم بالحاضر، والمادي بغير المادي، والأرض بالإنسان، فكثيرا ما نجد جغرافيا صماء لكنها تتحدث من خلال الإنسان، وكثيرا ما نجد حضارات صماء لكنها تتحدث من خلال الجغرافيا، فالجغرافيا علم يجمع بين العلوم ويطوّعها في خدمة معرفة ليس الحدث بعينه، بل بالأخص أسباب حدوثه.
على أرض مصر تشكّلت الوحدة المجتمعية والسياسية عبر آلاف السنين، فكان لجغرافيا مصر دور رئيسي في تشكيل ما يُعرف بـ "المجتمع"، فصحراؤها التي تُحَدُّ بنهر النيل كانت سببا رئيسيا في تحديد إمكانية انتشار السكان، حيث شكّل نهر النيل حدود الحياة داخل الوادي. وكان التجانس الطبيعي صفة جوهرية في البيئة المصرية، فالوادي كله وحدة فيضية، أرضه من تشكيل مائه، فالنهر هو باني واديه الوحيد، والنهر هو الضابط الأساسي إن لم يكن المطلق لشكل الخريطة الطبيعية، فنهر النيل يمنح أرض مصر من تجانسه بقدر ما يسيطر على حياتها، تماما كما وصف المؤرخ الإنجليزي هيرفورد بروك جورج أرض مصر، قائلا: "ليس هنالك مثال آخر لبلد هو كلية، وهو إلى هذا الحد، من خلق ظرف جغرافي واحد مثل مصر".(1)
أما نهر النيل، المشكّل الرئيسي في تكوين شخصية مصر المجتمعية والسياسية، فلا نبالغ إذا أشرنا إلى نهر النيل باعتباره مصر، والعكس صحيح، أو كما يصف القدماءُ المصريين بأن "كل مَن يسكن نهر النيل من المصب إلى الشلال فهو مصري". ويختلف تكوين نهر النيل عن تكوين الكثير من أنهار الدنيا، فهو يكاد يقطع مصر الصحراوية من المنتصف كشريان الدم، فلا حياة خارجه، أو كما يصفه جمال حمدان "هو العمود الفقري في معمور ضئيل للغاية، داخل معمور بلا نهاية، فهو نفسه المعمور الوحيد، فهو ليس أطرافا بل القلب، وهذا ما يوصلنا إلى وحدة المجتمع المعمور في مصر، لذا فهو منذ البداية كتلة واحدة متصلة لا انقطاع لها".(2)
أما الصحراء الشاسعة فقد لعبت دورا مهما في صدّ الغزوات والهجرات من الشعوب الأخرى، إلا أنها أيضا لعبت دورا عكسيا كذلك. فعلى الرغم من مساحة مصر العملاقة التي تُقدَّر بمليون كيلومتر مربع، فمساحة الوادي الصالحة للزراعة والعمران لا تعدو عن 35 ألف كيلومتر مربع، أي 3.5% من مساحتها، فتكاد المساحة المعمورة في مصر تعادل مساحة دولة مثل هولندا، على الرغم من أن مساحة مصر الدولة تكاد تعادل مساحة هولندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وسويسرا مجتمعة. فامتزاج نهر النيل مع الجغرافيا الصحراوية المصرية جعل من المستحيل نشأة شعوب وقوميات مختلفة على ضفّتيه، مثل نهر الراين (فرنسا – ألمانيا) والدانوب (رومانيا – بلغاريا).
إذن، كان نهر النيل المسبّب الرئيسي لبناء الدولة، فمصر بالأساس بيئة فيضية لا تعتمد على الأمطار في حياتها، بل على النهر، والزراعة النهرية تقوم على التشاركية بالأساس، فالزراعة تحتاج إلى مجهود بشري ضخم، في إعداد الأرض لاستقبال البذور، ثم تهيئة شبكة الترع حتى تصل مياه الفيضان إلى البذور، من ثم عملية الحصاد، كل تلك العمليات ترتبط ارتباطا وثيقا تشاركه الأمة، لكن في الوقت ذاته كانت تحتاج إلى عملية "ضبط للنهر" عن طريق بناء القناطر والسدود، وما الجدوى إذن من وجود ضبط للنهر دون وجود "ضبط للناس"؟ فبدون "ضابط للنهر" يتحول النيل النبيل إلى فيضان حطام جارف، وبغير "ضابط للناس" تتحول عملية توزيع المياه إلى عملية دموية يسيطر عليها قانون الغاب.(3)
وفي ظل الإطار الطبيعي للبلاد، أصبح "التنظيم" شرطا أساسيا للحياة، إذ يتحتم على الجميع التنازل طواعية عن حريته؛ ليخضع لسلطة أعلى تُوزِّع الماء بين الجميع. فلم تعد الطبيعة وحدها سيّدة الفلاح، بل أضاف الري سيدا آخر هو "الحاكم". ليلعب الحاكم بذلك دورا وسيطا بين الإنسان والبيئة، وهمزة الوصل بين الفلاح والنهر، ووصيا على العلاقة بينهما، ومن أجل السيطرة على الناس كافة كان لا بد أن يتحوَّل الحاكم إلى نوع من أنواع القداسة، فظهر الفراعنة الآلهة وأبناء الآلهة في مصر كنوع من أنواع القوى التي يستخدمها في السيطرة، بصفتهم ضباط النهر والناس.(4)
في الدولة المصرية أصبح الفرعون شرعيا أو نظريا هو المالك الأوحد للأرض، وصار الوطن كله قطاعا عاما ملكا للدولة، وبات الفرعون ملك الأرض ومَن عليها والكل يخضع له خضوعا مطلقا، لذلك كان تأليه فرعون ظاهرة قديمة ومحورية، فالمصريون "عبدة النيل"، ثم أصبح عبدة النيل "عبدة للدولة"، ثم عبدة لفرعون بالتبعية، ومن هنا بدأ الطغيان الفرعوني للمصريين.(5)
أما الدولة الفرعونية فبدورها صارت سلطة مركزية ونظاما شموليا يحكم كما يملك ويتحكّم كما يحكم، باختصار كانت الدولة الفرعونية نظاما ديكتاتوريا مطلقا، فأدى النظام الفرعوني، على علّاته، دوره في تأسيس الحضارة المصرية وأرسى دعائمها، لكن سرعان ما تحول إلى القهر، فمن مُوزِّع الماء إلى مالك الماء، ومن الحاجز والقاضي بين الناس إلى المُتحكِّم في الناس، فلم يكن من الغريب أن يسأل فرعون: "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟".(6)
وبذلك، انقسم المجتمع المصري إلى فراعنة وفلاحين، فبقدر قوة وقسوة وثراء الطبقة الأولى بقدر انسحاق وفقر وتبعية الطبقة الثانية. فجوة جعلت من الدولة الفرعونية تتحول إلى دولة بوليسية تحمي الإقطاع والمُلّاك عن طريق رجال الفرعون، وتجعل الفلاحين أشبه بالعبيد الذين يستخدمهم الفرعون في التشييد والبناء، فآثار كالأهرام والمعابد العملاقة على الرغم من عقمها الاقتصادي فإنها ليست سوى دليل على أنها نصب تذكاري هائل للطغيان.(7)
لذا، ليس من الغريب تأثُّر النظريات الاجتماعية بالأمة المصرية القديمة، فكما يقول جمال حمدان: "لم تكن مصر هي أول حضارة إنسانية ودولة قبل أن تعرف الإنسانية معنى الدولة، لكنها أيضا هي أول دكتاتورية ونظام استبدادي عرفه التاريخ"، فاستعان ماركس وأنجلز بالحضارة المصرية بجانب الحضارات الآسيوية في الصين والهند لبناء نظريتهم "نمط الإنتاج الآسيوي" التي تحولت بعد ذلك إلى "نمط الاستبداد الشرقي" على يد كارل أوغست ويتفوجيل، النظرية التي تشرح الارتباط الوثيق بين نشأة الديكتاتورية بالدول التي تنشأ على أنهار. وتقول النظرية بوجود فئة حاكمة تسكن المركز، وتُصادِر بشكل مباشر فائض المجتمعات القروية ذات الاكتفاء الذاتي، نتيجة لاحتكار الدولة للأرض ونظام الري والقوة العسكرية.(8)
وظلّت الدولة المصرية بأشكالها المتعاقبة في العصور الوسطى، واصطبغت علاقتها بالشعب بما خلّفه الاستعمار الخارجي وما تراكم لدى حكامها من استبداد داخلي. فلم تختلف علاقة الدولة سواء كانت دولة فرس أو يونانيين وبطالمة أو رومانيين أو قبط أو مسلمين أو دولة علوية، فيقول كلوت بك: "إن الشمس لا تطلع على شقاء ولا تعاسة أشد مما يوجد بهذه الجنة الأرضية، بفضل نظام من الحكم أساسه استغلال الفرد والسطو المنظم".
دولة قبل الدول..
"في هذه الحالة، لا يوجد مكان للصناعة لأن إنتاجها غير مؤكد، وبالتالي لا توجد ثقافة للأرض، ولا ملاحة، ولا استخدام للسلع التي يمكن استيرادها عن طريق البحر، ولا مبنى حضاري. لا توجد أدوات للتحرك، والإزالة، وأشياء كهذه تتطلب الكثير من القوة، ولا علم لوجه الأرض، ولا يوجد حساب للوقت، ولا فنون، ولا خطابات، ولا مجتمع. الأسوأ من ذلك كله هو الخوف المستمر وخطر الموت العنيف، وحياة الإنسان المنعزلة، والفقيرة، والشريرة، والبهيمية، والقصيرة".
(توماس هوبز)
بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، اشتعل صراع فكري بين الفلاسفة حول مدى شرعية الدولة كمُمثِّل للشعب، وكيف يمكن خلق موازنة بين تلك السلطة المُمثَّلة في كيان الدولة دون سلب حقوق وحريات مواطنيها. من أشهر صانعي ذلك الصراع كان الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز صاحب كتاب "اللفياثان"، والفيلسوف الإنجليزي الآخر جون لوك، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.
افترض هوبز أن البشر في الظروف الطبيعية لا يمكن السيطرة عليهم، حيث يتحول "الجميع إلى محاربة الجميع"، ويطغى شعور البشر بالخوف المستمر وخطر الموت العنيف والانعزال والفقر. ولذلك، ومن أجل تجنُّب تلك الكوارث، على البشر أن يصنعوا عقدا اجتماعيا. وحول الفكرة ذاتها، اختلف جون لوك مع هوبز حول الحالة الطبيعية للبشر، حيث أكّد جون لوك أنه حتى في ظل غياب القوانين في الحالة الطبيعية، فقد امتلكت البشرية أُسسا أخلاقية. إلا أن جان جاك روسو جاء بعد ذلك مخالفا لرأي هوبز وجون لوك، وذلك حينما اعتقد أن البشر في الحالة الطبيعية كانوا أكثر سلاما واكتفاء في ظل المبادئ الأخلاقية، وأن تلك الظواهر التي أثارها هوبز لم تنشأ إلا باجتماع البشر حول الاختراعات والرغبة في زيادة الإنتاج بتقاسم العمل.
تقول نظرية العقد الاجتماعي إذن إن القانون والنظام السياسي ليسا طبيعيين، بل هما من اختراع البشر، حيث يكون العقد الاجتماعي والنظام السياسي الذي ينشأ عنه وسيلة للوصول إلى غاية، وهي منفعة الأفراد الذين يشملهم العقد الاجتماعي، أي مواطني تلك الدولة.
لكن في حين كانت نظريات العقد الاجتماعي ونظرية القوة والطبيعية تُطرح لأول مرة في كتابات الفلاسفة بداية من أفلاطون المُتوفَّى سنة 347 ق.م، كانت دولة الفراعنة في مصر أكثر ما تناولته كتابات الفلاسفة ووصف الرحالة في محاولتهم لدراسة الإقليم المصري، ومع غزارة الكتابات ظهرت صراعات حول تفسير قيام الدولة المصرية.
يُظهِر جمال حمدان ذلك الصراع في هيئة تساؤل يقول فيه إن "ثمة سؤالا يثور: مَن الأسبق؛ الأمة المصرية أم الدولة المصرية؟ الأصل فى الدول أنها نتاج الأمة، بمعنى أن الأمة سابقة على الدولة، أي إنها هي السبب، والدولة هي النتيجة، هي الأساس الوطني أو القومي، والدولة هي الصرح السياسي الذي يشيد عليه".
تساؤل جمال حمدان كان لتوضيح الفرق بين أسباب قيام الدولة المصرية وتفرُّدها عن باقي البلاد، مفسرا ذلك "بأن الدولة قد تتحلل وتسقط لكن الأمة تظل باقية كالنواة الصلبة الدفينة التي قد تقفز من جديد بقوة، فتنبعث الدولة من جديد إلى الوجود، وهكذا دواليك، قيام وسقوط للدولة ثم بعث وإعادة خلق بفضل قانون بقاء الأمة، فالأمة كالمادة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم".
كان من الواضح إذن أن تاريخ الدولة المصرية مفعم بهذه الظاهرة من قيام وسقوط، إما لأسباب خارجية كالاستعمار، وإما لأسباب داخلية كعصور الإقطاع والانحطاط الوطني، غير أن الأمة المصرية ظلّت باقية خالدة منذ فجر التاريخ حتى اليوم، والسبب في ذلك الخلود طبيعتها المتفردة، فكما يقول المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي في وصفه لمصر، كانت مصر "دولة محمية من كل الجوانب بواسطة الطبيعة"، فكانت الجغرافيا الطبيعية لمصر بمنزلة الحاضنة للدولة في كل العصور.
ومن هنا تأتي خصوصية الإقليم المصري كما ذكر الجغرافي المصري جمال حمدان، حيث إن الطبيعة ساعدت في تشكيل الأمة المصرية قبل أن تكون هناك دولة، فعلى الرغم من اختفاء وتشرذم دول ضخمة مثل الإمبراطورية النمساوية المجرية، وجمهورية يوغسلافيا، وانقسام السودان، وغيرها من الإمبراطوريات والممالك والدول، كانت الطبيعة هي السبب الرئيسي في تكوين الدولة المصرية، وكانت هي السبب الأكبر في بقاء الدولة غير قابلة للتفكيك أو التشرذم، فأرضها كتلة واحدة صلبة ترتبط ببعضها بعضا جبرا بسبب تشكيلها الجغرافي.
بين الأمة والدولة.. صراع الشخصية المصرية
"رغم ذلك كله يبقى في النهاية أن الشعب لم يستكن ولم يستسلم أبدا في مواجهة الطغيان المستبد وشراسة الحكم المطلق محليا كان أو استعماريا، لا ولا انقطعت مقاومته الإيجابية قبل السلبية، فالتاريخ المصري القديم سجل صراعات طويل وحافل تنقطه الانتفاضات الشعبية التي قد تفصل بينها فترات اعتراضية من الصبر والتربص، لكنها قد تتحول إلى انفجارات عارمة وثورات مسلحة تعرف الدموية والعنف والوعي الطبقي".
(جمال حمدان)
لم تؤثر الجغرافيا المصرية على نشأة الدولة في مصر فقط، بل كانت السبب الرئيسي أيضا في تكوُّن أول دولة ديكتاتورية عرفتها الإنسانية، فجعلت حاجة المصريين إلى نظام يكون بمنزلة المُنظِّم للنهر، لضمان وصول الماء إلى كل الأراضي من الجنوب إلى الشمال، حاجة ضرورية. فاستغلت الدولة بعد ذلك، سواء كانت فرعونية أو سلطانية أو ملكية أو جمهورية، تلك السلطة لخدمة مصالحها الشخصية، وتحوَّل النهر إلى سلاح في يد الدولة لمعاقبة أعدائها من الشعب، فاتخذت الدول الفرعونية من مدن الجنوب عواصم لدولتهم، لضمان فرض سيطرتهم على مجرى النيل مما يعني ضمان بقاء البلاد كافة خاضعة لها. فلا عجب أن يصف جمال حمدان حياة المصريين قائلا إنه "ﻻ جديد تحت شمس مصر، فمصر سنة 1984 ميلادية هي سياسيا كمصر سنة 1984 قبل الميلاد".
تشابهت بذلك الدول المتعاقبة على الأرض المصرية في سياستها، كونها المالك الوحيد للأرض المصرية، بما يعني امتلاك مَن يعيش عليها، مما جعل علاقة الأمة المصرية بالدولة الحاكمة، سواء كانت محتلة أو محلية، علاقة مركبة شديدة الخصوصية، حيث تكوّنت تلك العلاقة عبر آلاف السنين من القمع من جانب الدولة، والتي يقابلها الشعب بالصبر حينا وبالمقاومة حينا آخر. يصف الكاتب والمفكر عباس العقاد تلك العلاقة قائلا: "هذه أمة ذات أرزاق مطردة ومعيشة مستقلة، لا يعنيها صلاح الحاكم كما يعنيها صلاح الأرض والسماء والعوارض والأجواء، فإذا دعاها الحاكم إلى حرب لا تعنيها، فذلك شأنه وليس بشأنها، وتلك خسارته وليست بخسارتها، أما إذا أُصيبت في عقائدها وموروثاتها أو ظهر لها من الجور على أرزاقها ومرافقها، فهنا يستعصي قيادتها كأشد ما يستعصي قيادة أمة".
في هذا السياق، كانت أول حركة شعبية مقاومة عرفها التاريخ قد سُجّلت باسم الشعب المصري القديم، فأول ثورة عرفتها البشرية كانت "إيبوير"، حين توقف المصريون عن دفع الضرائب وحرث الأرض -لأنها كانت ملكا للدولة- وهاجموا خزائن الدولة، ولما كان للثورة من طابع شعبي، وضعها المؤرخون كأول ثورة عرفتها الإنسانية، حتى بعد انتكاستها وفشلها. كذلك يُعَدُّ الإضراب العمالي في عهد رمسيس الثالث هو الأول في التاريخ، حين أضرب عمال "جبانة طيبة" عن العمل بسبب الجوع.
فتاريخ الشعب المصري قديم وكبير، يمتد مع المقاومة والحراك الاجتماعي المناهض للاستعمار بشكليه الداخلي والخارجي، فالتاريخ الشعبي للمقاومة والثورات والفورات الاجتماعية الطبقية ضد النخبة الحاكمة كانت كثيرة جدا في العصور التي لحقت بالعصور الفرعونية، فلم يكد النظام الاجتماعي والتركيب الطبقي للشعب يختلف في مصر العصور الوسطى، فمنذ أن وقعت مصر تحت الاحتلال البطلمي ثم الروماني ثم البيزنطي، ظلّت ثنائية "النظام والدين" المؤسسة لشرعية الدولة المصرية الفرعونية باقية، فقط تغير الفرعون من ابن الإله أو الإله نفسه إلى إمبراطور.
ولم يكد النظام الاجتماعي والتركيب الطبقي يختلف في مصر الإسلامية عنه في مصر الفرعونية أو ما لحقها من دول محتلة كما يُقرِّر جمال حمدان، فالأرض لا تزال نظريا ملكا للدولة، ملكا للسلطان، فكما يقول المقريزي: "ونظرة السلاطين والأمراء والمماليك إلى الدولة نظرتهم إلى متاع خاص يملكونه"، فتحوَّل المصريون من عبيد فرعون إلى أقنان السلطان، وبقي نمط الطغيان الشرقي مستفحلا وقامعا للشعب مهلكا لخيراته.(9)
يصف الإمام محمد عبده فترة طويلة من الحكم الإسلامي لمصر قائلا: "كانت حكومة البلاد المصرية قبل دخول الجيش الفرنسي حكومات الالتزام أو حكومات الإقطاع، وأساس هذا النوع من الحكومة تقسيم البلاد بين جماعة من الأمراء يملك كل أمير منهم قسما يتصرف في أرضه وقوى ساكنيه وأبدانهم وأموالهم كما يريد، فهو حاكمهم السياسي والإداري والقضائي وسيدهم المالك لرقابهم، ومن طبيعة هذا النوع من الحكومة أن تنمو فيه أصول الاستبداد وفروعه".
وبالتزامن مع اشتداد قمع الدولة مُمثَّلة في الملك والأمراء، وغلبة الاستبداد والظلم الواقع على الشعب، لم تنقطع الحركات الشعبية المقاومة ولا استكانت، فعلى طول العصور الوسطى، ازدحمت صفحات التاريخ بالانتفاضات والمواجهات، فتعدّدت ما بين ثورات زراعية وثورات المدن، وثورات البدو والفلاحين والرقيق، من مدن الدلتا والصعيد إلى داخل العاصمة. صحيح أن أكثر تلك الثورات لم تزد عن مجرد "هبّات" وتمرد عجز أغلبها وفشل في مواجهة قوة الدولة، لكن تلك الثورات نجحت في كسر وتقييد الاستبداد نسبيا وانتزاع تنازلات مهمة من الحكام والأمراء.(10)
وفي يوليو/تموز 1798، دخل نابليون بونابرت مصر في حملة عسكرية استمرت ثلاث سنوات، عانى فيها الجيش الفرنسي من ثورات الشعب وعمليات الاغتيال لقادة الجيش، حتى أتت الجيوش العثمانية مدعومة من بريطانيا، فخرجت الحملة الفرنسية من مصر بسهولة كما دخلتها، في الوقت ذاته الذي دخلها العسكري العثماني محمد علي.
"فجرت العادة من قديم الزمان، أهل البلد يعزلون الولاة، وهذا شيء من زمان، حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه"، كانت تلك الكلمات التي ألقاها عمر مكرم قد لاقت حفاوة بين الثائرين المصريين أثناء عزل الوالي خورشيد باشا ورفع القائد العسكري محمد علي مكانه. فتلك الثورة الشعبية التي نصّبت عمر مكرم قائدا لها لمجابهة الوالي العثماني خورشيد باشا وجنوده كانت ثورة شعبية.(11)
يقول الإمام محمد عبده: "ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يُحيي ولكن استطاع أن يُميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه.. فأخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يُبقِ في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه، فحقق بذلك جميع عناصر الحياة الطبيعية من رأي وعزيمة واستقلال نفس لتصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده". كما قال جمال حمدان في وصف محمد علي: "آخر المماليك العظام وأول الفراعنة الجدد"، أتى بمزج الثورة الشعبية بالانقلاب العسكري، وأسّس نظاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا هو مزيج من الفرعونية والمملوكية ليؤسس نسخة جديدة من الطغيان الشرقي، سُمّي بـ "بمصر الحديثة".
لكن ظلّت شعلة الثورة مشتعلة داخل الشعب المصري في عهد الأسرة العلوية، فحاول الشعب نيل حقوقه بأشكال عدة، تنوعت الثورات فشملت طوائف المجتمع كافة حتى وصلت لذروتها في ثورة مسلحة وطنية طبقية قادها عرابي في 1882، ثم ثورة شعبية عظيمة في 1919، ثم امتزجت الثورة الشعبية بالانقلاب المسلح في آخر فقرات عصر دولة محمد علي في عام 1952.(12)
بُنيت الدولة التي أعقبت فترة الملكية، التي سُمّيت بعد ذلك بـ "جمهورية مصر العربية"، على وعود لتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، فبدت العلاقة وكأنها شراكة بين الشعب والنظام أو تطبيق لنظريات "العقد الاجتماعي". فعُقد توافق اجتماعي شعبوي ذو مكونين رئيسيين: من جانب، وعد النظام في مصر بالتوزيع العادل للثروة على نحو يزيد من نصيب الفئات السكانية الفقيرة ومحدودة الدخل والسماح لها عبر وسائط التعليم والتوظيف بالترقي الاجتماعي، ومن جانب آخر تلتزم هذه الغالبية الشعبية بتأييد الحكم بشكل مطلق، والامتناع عن المطالبة بالحريات العامة كحرية التعبير عن الرأي والحق في الرقابة على الحكام عبر أدوات الدولة القانونية المتمثلة في المجالس النيابية والقضاء، أو المشاركة في الحياة السياسية، وبذلك انغلق المجال السياسي في مصر.(13)
ولكن سرعان ما تحولت تلك الجمهورية الحديثة وانقلبت على وعودها، متحولة إلى الصورة البدائية من الحكم الفرعوني باختلاف طفيف يتمثَّل في أن خطاب الدولة الموجَّه للشعب يناقض تماما سياساته، حتى أطلق عليها جمال حمدان لقب "الفرعونية الحديثة"، لكنها كانت أشد خطرا على الأمة المصرية من سابقتها، حيث كانت النقطة الفاصلة التي هزت مكانة مصر وحجمها وقدراتها متسلحة بجهل الشعب لبلاده نتاج قرون من الاستبداد والتجهيل، حتى وصلت مصر إلى ذلك التحدي الذي خسرته، وعنق الزجاجة الذي لم تخرج منه مصر منذ عام 1967، عام صدور كتاب "شخصية مصر"، وليُحدِّد حمدان مشكلة مصر قائلا:
"الخطر الحقيقي على مصر ينبع من داخلها، هي مصر نفسها، أكثر من الآخرين والغرباء، هو بطش وعجز الحاكم من جانب ورد فعل الشعب أو سلبيته من الجانب الآخر، هي قضية الديكتاتورية ضد الديمقراطية، ذلك هو التحدي الأزلي الذي كان الشعب المصري يواجهه دائما ليثبت نفسه ووجوده وسيادته".