حاربوا الصليبيين وخرجوا العلماء.. دور الأكراد العظيم في تاريخ الإسلام
الأكراد، أمة عريقة في تاريخ منطقتنا، والعراقة هنا ليست مقتصرة على الوجود في المكان والزمان، لكنها مصحوبة بتأثير اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، إلا أن الأمر اللافت أن ذكر الأكراد لا يأتي إلا مصحوبا بمعلومات شحيحة صدّرتها عنهم وسائل الإعلام، فلا يكاد يأتي ذكر الأكراد إلا مُحمّلا بمجموعة من المآسي، منها المشكلات الحدودية، ومطالبهم بإنشاء وطنهم القوميّ، وغيرها. لكن قلّما عرف الناس تاريخ الأكراد وإسهاماتهم الفذة في تاريخ الإسلام وحضارته، وهو تاريخ يستلزم منا كشف بعض الضوء عن مناطقه المظلمة في المخيال العربي المعاصر.
الانخراط والتعايش
يمتد وجود الكرد اليوم في عدة دول كبرى في الشرق الأوسط هي إيران والعراق وسورية وتركيا، وبأعداد أقل في كلٍّ من أرمينية وأذربيجان وجورجيا، وقد فتح المسلمون أقاليم الأكراد في هذه المناطق منذ بداية عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي بلاد الأكراد دارت بعض أشرس المعارك بين العرب والفرس، مثل جلُولاء ونهاوند حيث كان الفرس قد اتخذوها مناطق عسكرية يتمركزون فيها.
انخرط الكرد في الإسلام، وظهر منهم عدد من التابعين مثل ميمون الكردي[1] أو ميمون بن جابان، وكان أحد حملة الحديث النبوي الشريف، وجاء اسمه في عدد من مصنفات الحديث مثل "أسد الغابة" لابن الأثير، و"تجريد أسماء الصحابة" للحافظ الذهبي، وقد انتقل ميمون من بلاد الأكراد إلى المدينة المنورة ليتعلم الحديث النبوي والفقه على كبار الصحابة والتابعين في نهاية القرن الأول من الهجرة.
وكانت مناطق الأكراد في أذربيجان وأرمينية وشرق الأناضول في هذا التاريخ المبكر من الإسلام في عصر الراشدين والأمويين لا يتولاها إلا ثقاة القادة وكبار الأمراء، فمن أشهر ولاة الأمويين على هذه المناطق كان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ويبدو أن مروان سار سيرة حسنة في الأكراد، هذا فضلا عن أن مروان كانت أمه كُردية وقد ورث عنها هيئة الأكراد وشكلهم حتى كان الخليفة الأول ذا عينين زرقاوين[2]؛ فوقفوا بجواره أثناء أزمة النزاع الداخلي بين الأمويين أنفسهم قبيل سقوطهم على يد العباسيين.
اعتمد العباسيون في مراحل كثيرة على عدد من كبار قادة الأكراد، فقد ولّى الخليفة المعتمد على الله (ت 279هـ) على الموصل شخصية كردية هو علي بن داود الكردي، وفي عهد هذا الخليفة كان أمير الأهواز (خوزستان) هو محمد بن هزار مَرْد الكردي، وقد كان ابن هزار من جملة القادة الأكراد الموالين للعباسيين بقوة حتى دخل في محاولات مستميتة لوأد ثورة الزنج في منطقة الأهواز لما هُزم على يد علي بن أبان قائد الزنج في هذه المنطقة[3].
كذلك كانت مناطق الأكراد في ذلك العصر منطقة تماس وثغور بين الدولة العباسية وبين الدولة الرومية البيزنطية، وقد أبلى الأكراد بلاء حسنا في الدفاع بكل طاقتهم عن ديارهم وعن كافة المسلمين في أوقات ضعف الخلافة العباسية، وقد حفظ لنا التاريخ هذه البطولات، ففي عام 387هـ هاجم الجيش البيزنطي بلاد الشام، واستطاعت جيوشه التوغل حتى منطقة حمص التي كانت تتبع الدولة الفاطمية حينها، وحاصر حصن أفامية، حتى أكل أهلها الجيف، فخرج إليهم أهل طرابلس الشام وقواتها ليدفعوا عن أهل حمص وأفامية ما لاقوه من الحصار والهزيمة؛ إلا أن أهل طرابلس وقواتها العسكرية انهزمت هي الأخرى أمام القوة العسكرية البيزنطية، وقتلوا من المسلمين ألفي رجل، واستولوا على خيولهم وسلاحهم، وهنا أدرك أهل أفامية الهلاك.
لكنّ حادثا فرديا جرى في أرض المعركة غيّر من مشهد الهزيمة بالكلية، فيروي ابن أبي الهيجاء في تاريخه قائلا: "كان ملك الروم قد وقف على رابية تُطل على ميدان المعركة، وبين يديه ولدان وله عشرة نفر من غلمانه، ليُشاهد ظفَرَ عسكره، فقصده كردي يُعرف بأبي الحجَر أحمد بن الضحاك السليل على فرس جواد، وعليه درع وخوذة، وبيده اليمنى خِشت (حديدة حادّة)، وباليُسرى العنان وخِشت آخر، فظنّه الدُّقس مستأمِنا له ومستجيرا به، فلم يحفل به، ولا تحرّز منه، فلما دنا منه حمل عليه، والدقس متحصّن بدرعه، وضربه بالخِشت فقتله، وصاح بالمسلمين: قُتل عدوُّ الله! فرجع المسلمون، ونزل من كان في الحصن فأعانوهم، وانتصر المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم، وبات المسلمون غانمين مسرورين"[4].
الأكراد والأتراك يدا بيد!
في عصر السلاجقة الذين استطاعوا السيطرة على العراق والشام وبلاد فارس، برز العنصر الكردي من جديد، وكان يعطى إليهم مهمة حفظ الأمن في مناطق شمال العراق، فبعد وفاة السلطان السلجوقي طغرل بك سنة 455هـ، تم استدعاء رؤساء وزعماء مناطق العراق وكان منهم أبو الفتح بن ورّام مقدَّم أو زعيم الأكراد الجاوانية لإعلامه بالمستجدات، وعلى رأسها إيكال مهمة حفظ الأمن في منطقته، ولكن هذا الرجل وافته المنية في بغداد وحُمل إلى بلاده.
عضّد الأكراد من الوجود السلجوقي ودانوا له، بل أبلوا بلاء كبيرا في معركة ملاذكرد الشهيرة بين السلطان ألب أرسلان وبين البيزنطيين التي كانت السبب الأكبر في دخول الأتراك إلى بلاد الأناضول وانسيابهم فيها حتى خليج مرمرة على الجهة الآسيوية المقابلة للقسطنطينية، كان جيش ألب أرسلان يتكون من خمسة عشر ألف مقاتل، أكثر من نصفهم كان من متطوعة الأكراد في المناطق القريبة من أخلاط وملاذكرد، وقد أثنى كثير من مؤرخي الأتراك على الدور الذي قام به الأكراد في هذه المعركة المفصلية في التاريخ الإسلامي مثل المؤرخ التركي عثمان طوران في كتابه "تاريخ السلاجقة وحضارتهم"، ويجعل كثير من الناس هذا الدور الكبير للأكراد في هذه المعركة الخالدة.
ومن رحم السلاجقة خرجت الدولة الزنكية التي استطاع آق سنقر وابنه عماد الدين زنكي وهما من العناصر التركية أن يستولوا على مناطق الأكراد، ويقيموا واحدة من أجمل القلاع والمدن الباقية حتى يومنا هذا، وهي مدينة العمادية المنسوبة إلى زنكي، وقد استطاع أن يسترد كافة المناطق الكردية التي كان يسيطر عليها الصليبيون في حملاتهم الصليبية الثانية مثل ديار بكر وماردين وكثير من قراها وحصونها، وقد أدرك عماد الدين زنكي قيمة الأكراد ومكانتهم، فتقرب منهم، ولعل هذا التقرب كان سببه الحادثة الشهيرة حين كاد أن يُقتل على يد الخليفة العباسي المسترشد بالله.
فإن عماد الدين زنكي قد تلقى أمرا من السلطان السلجوقي بمواجهة الخليفة العباسي المسترشد بالله الذي كانت قوته في اطراد حينذاك، لكن الخليفة استطاع هزيمة زنكي وقواته، ولم يُنقذه إلا أن فتح له نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه قلعة تكريت التي كانوا يحكمونها، لتكون ملاذا له؛ لكن هذا الفعل أثار غضب الخليفة العباسي، الذي أمر بعزل نجم الدين وإجلائه عن القلعة.
ومن هنا أدرك عماد الدين زنكي أهمية استقطاب القوة القتالية الكردية، وقد وظّفها بذكاء شديد في قتال الصليبيين وفي توسيع رقعة الدولة الزنكية، ومن هنا حين لجأ إليه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه فقد قرر زنكي أن يكونا من كبار رجالاته عسكريا وسياسيا، وقد حفظ الأخوان شيركوه وأيوب هذا الصنيع لعماد الدين زنكي، فأيدوه وقووا موقفه، وحين استشهد في قلعة جعبر سنة 541هـ/1146م قرروا الوقوف بجوار ابنه نور الدين محمود، ودعموه في الصعود إلى السلطة في مواجهة فريق آخر كان يريد سيف الدين غازي بن زنكي.
إن الأدلة كثيرة على أن الكُرد كانوا يشكلون قوة قتالية مهمة في جيش نور الدين، وكانوا يُباشرون الحروب بإخلاص، وحسبُنا دليلا على ذلك أن نجم الدين وأخاه شيركوه كانا من أعظم قوّاده، وهما اللذان قاما بدور كبير في الانتصارات التي حققها نور الدين، وقد ساعده نجم الدين في فتح دمشق، وكان لفتحها أثر كبير؛ إذ أصبح نور الدين محمود يتاخم المناطق التي يسيطر عليها الصليبيون في بلاد الشام، وكانت سيطرته على دمشق وما يُجاورها من بلاد الشام تمهيدا لبسط سيطرته من بعد على مصر، ووضع الفرنج فكّي كمّاشة على الصعيد الإستراتيجي[5]. ويبدو أن استخدام الأكراد كمقاتلين في صفوف الجيش الزنكي بهذه الكثافة كان يرجع إلى ما اشتهروا به من الشجاعة والصبر على القتال، حتى إننا نرى القلقشندي في موسوعته "صبح الأعشى" يقول عن بعض طوائف الأكراد إنهم "رجال حرب، وأقيال طعن وضرب… وهم ذوو شجاعة وحميّة"[6].
ذروة الصعود الكردي!
كان أسد الدين شيركوه يقوم في دولة نور الدين بمنصب يُماثل منصب وزير الدفاع في عصرنا هذا، وكان نور الدين يكلفه بالمهام العسكرية الكبيرة، فيعيّنه قائدا على الجبهة الغربية في منطقة حمص لمواجهة الوجود والنفوذ الصليبي في هذه المناطق، يقول المؤرخ البنداري: "ولمّا كان ثغرُ حمص من أخطر الثغور؛ تعيّنَ أسدُ الدين لحمايته وحفظه ورعايته؛ لتفرّده بجدِّه واجتهاده وبأسه وشجاعته". بل إننا نجد المؤرخ ابن الأثير يزيد على ذلك فيقول في مكانة أسد الدين شيركوه عند نور الدين محمود: "فقرّبه نورُ الدين، وأقطَعَه (أعطاه إقطاعا)، ورأى منه في حروبه ومشاهدِه آثارا يعجزُ عنها غيرُه لشجاعته وجُرأته، فزاده إقطاعا وقُربا، حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مُقدَّم عسكره"[7].
على أن أكبر وأعظم المهام العسكرية التي تقلدها أسد الدين شيركوه والتي بزغ فيها نجم صلاح الدين يوسف بن أيوب والذي يُعتبر ذروة المكانة والوجود الكردي في التاريخ الإسلامي كان في حملاتهم العسكرية الثلاثة على مصر، وكانت حملات عسكرية على درجة عالية من الخطورة لوجود الصليبيين كعائق بين الشام ومصر في فلسطين، وقد أبلى أسد الدين شيركوه وابن أخيه بلاء عجيبا رغم التوحيد الصليبي الفاطمي ضده.
وفي الخبر الذي ذكره المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث ابن أبي الهيجاء في معارك سنة 544هـ دليل آخر على الدور الفعّال للأكراد عسكريا في الدولة الزنكية، يقول: "وفيها جمع نور الدين وطلب من دمشق نجدة، فأرسلوا إليه الأمير مجاهد الدين بُزان الكردي، وجاء عسكر أخيه سيف الدين غازي، وسار إلى أنطاكية، وخرج إليه البرنس (الصليبي)، وجرت بينهما وقعة عظيمة، فكسرهم نور الدين الكسرة المشهورة، وفتح حارِم، وقتل الفرنج، وكان لأسد الدين شيركوه في هذه الوقعة اليدُ الطولى، وأبان عن شجاعة وبسالة… وكذلك مُجاهد الدين بُزان بن مامِين مُقدَّمُ العسكر الدمشقي أبان عن شجاعة وبراعة"[8].
بل إن أحد المقاتلين الأكراد ضحّى بنفسه لينقذ نور الدين من موت محقَّق خلال معركة ضد الفرنج قرب حمص، ففي أحداث سنة 558هـ ذكر ابن الأثير هذا الخبر: "في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبُقَيعة… وقصدوا (الصليبيون) خيمةَ نور الدين، وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشِّبْحة في رجله (أي كان الفرس مربوطا)، فنزل إنسان كردي وقطعها، فنجا نور الدين وقُتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مُخلّفيه (أولاده وأقاربه)، ووقّفَ عليهم الوقوف"[9].
بل يروي الأمير أسامة بن منقذ، وهو واحد من شهود العيان على عصر الحروب الصليبية، ومن الشاهدين على أواخر عصر الفاطميين والزنكيين والأيوبيين، يروي شجاعة بعض الأكراد في معاركهم ضد الصليبيين، فيروي أن رجلا كرديا كان يُسمى حمدات، كان قديم الصحبة لوالده الأمير منقذ صاحب حصن شيزر في بلاد الشام، وكان من كبار الفرسان، لكن سنّه قد كبرت وأصبح شيخا كبيرا، فقرر الأمير عز الدين عم الأمير أسامة أن يحفظ الود القديم، يقول في مذكراته "الاعتبار":
"فقال له عمي عز الدين رحمه الله يا حمدات كبرتَ وضعُفتَ، ولك علينا حقٌّ وخدمة، فلو لزمتَ مسجدك -وكان له مسجدٌ على باب داره- وأثبتنا أولادك في الديوان (يجعل لهم مرتبات شهرية)، ويكون لك أنتَ كلَّ شهرٍ ديناران وحِمل دقيق وأنت في مسجدك. قال أفعلُ يا أمير. فأُجري له ذلك مديدة. ثم جاء إلى عمي وقال: يا أمير والله لا تُطاوعني نفسي على القعود في البيت وقَتْلي على فرسي أشهى إليّ من الموت على فرشي. قال: الأمرُ لك. فما مضى إلا الأيام القلائل حتى غارَ علينا السرداني صاحب طرابلس (أمير طرابلس الصليبي). ففزعَ الناس إليهم، وحمدات في جملة الروع (الخارجين لصد الغارة)، فوقفَ على رفعة من الأرض مُستقبل القبلة، فحمَلَ عليه فارس من الإفرنج من غربيّه فصاحَ إليه بعضُ أصحابنا: يا حمدات! فالتفت، فرأى الفارس قاصِدَه فردّ رأسَ فرسِه شمالا، ومَسك رُمحه بيده، وسدّده إلى صدر الإفرنجي، فطَعَنه فنفِذ الرُّمح منه، فرجع الإفرنجي متعلقا برقبة حصانه في آخر رمقه. فلمّا انقضى القتالُ قال حمداتُ لعمّي: يا أمير لو أن حمدات كان في المسجد مَن طعنَ هذه الطعنة؟"[10].
لم يبرز الدور الكردي في زمن الدولة الزنكية على المكانة العسكرية التي بزّوا فيها، وإنما ظهر أثر الأكراد في المجال العلمي والقضائي، وكان على رأس هؤلاء القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري الكردي، وكان قاضي دمشق وجميع بلاد الشام في عصر نور الدين محمود، وقد سعى القاضي كمال الدين بقوة لدعم سياسة عماد الدين زنكي في مقاومة الصليبيين، من جانبه كان عماد الدين يُنيط به المهام الخطيرة الكبيرة، فكان سفيره إلى ديوان الخلافة في بغداد، كما كانت له اليد الطولى في إقناع الخلافة بتسليم مقاليد السلطة إلى نور الدين محمود بعد مقتل والده عماد الدين زنكي، وكان القاضي كمال الدين بمنزلة مستشار سياسي كذلك بجوار علمه وعمله القضائي، فقد كان يُشير على نور الدين بما يحفظ للدولة الزنكية قوتها، وأماكن ضعفها، وكثيرا ما استطاع جلب دعم عسكري من سلاجقة العراق[11] لعماد الدين زنكي في أوقات القوة الصليبية التي كانت تهدد الوجود الإسلامي في الشام.
بلغ الأكراد ذروة قوتهم وعظمتهم في عصر صلاح الدين الأيوبي والدولة الأيوبية من بعده وكلهم من الأكراد، وقد حرص صلاح الدين عندما اعتلى عرش مصر، وقضى على الخلافة الفاطمية، وأعاد الدعوة والطاعة للخلافة العباسية في مصر، وكان صلاح الدين صاحب مشروع كبير، مشروع توحيد المسلمين في مواجهة الغزو الصليبي الرابض والمحتل للأراضي الإسلامية في الشام وفلسطين، ومن أجل ذلك حرص على استنفار المسلمين للانضمام إليه، فلبوا النداء، وتحقق النصر الكبير في معركة حطين الخالدة، واستعادوا القدس في عام 583هـ.
وفي هذه المعركة أبلت الوحدات الكردية في الجيش الأيوبي بلاء واضحا لافتا، فكان الفتى الكردي درباس من غلمان الأمير الكردي إبراهيم المهراني هو الذي استطاع أسر ملك القدس نفسه، وهو القائد العام للصليبيين في تلك المعركة، وقد برز من الأكراد في هذا العهد عدد كبير من الأمراء والقادة العسكريين الذين كان لهم دورهم في دفع عادية الصليبيين عن بلاد الشام وفلسطين ومصر، مثل الأمير الكبير سيف الدين المشطوب وهو زعيم الأكراد الهكارية في مناطق شمال الموصل، وكان رفيق السلطان صلاح الدين الأيوبي في معظم معاركه وغزواته، حتى لُقّب بالمشطوب بسبب شطب/خدش في وجهه من أثر إحدى غزواته ضد الصليبيين في الشام[12]، وهكذا ظل للأكراد المكانة الكبرى في الشرق الأوسط في عصر الأيوبيين.
الأكراد بين شِقَّي الرحى!
على أن مجيء المغول مع نهاية عصر العباسيين إلى العراق والشام قد جعل الأكراد في مقدمة الأمم التي تواجه هذا الغزو المغولي في أطراف العراق، وقد بذلوا كثيرا من دمائهم بحسب قدرتهم وإمكاناتهم المتواضعة أمام الغزو المغولي الجرار، وقد كان من وصية الإمبراطور المغولي منكوقان إلى أخيه وقائد الغزو هولاكو: "وأزِل من طريقك اللُّور والأكراد الذين يقطعون الطرق على سالكيه"[13]، مما يُدلل على أن الأكراد عملوا على قطع الطريق أمام الغزو المغولي تجاه العراق، والتخفيف عن آثار هذا الغزو بما تحصّلوا عليه من إمكانات.
في ظل عصر دولة المماليك في مصر والشام، ظل للكرد دور في وحدات الجيش المملوكي وإن أصبحت بصورة أقل نفوذا مقارنة بعصر الأيوبيين، وقد ظهر منهم عدد من كبار القادة والأمراء، منهم الأمير مجير الدين أبو الهيجاء الكردي في عصر السلطان قلاوون، ومنهم الأمير حسين الكردي[14] الساعد الأيمن للسلطان قبل الأخير للمماليك قنصوه الغوري، وكان قائد البحرية المملوكية، وقد واجه ببسالة كبيرة التمدد البرتغالي في موانئ الهند سنة 922هـ/1516م، بل إن الأمير الكردي ضم بلاد اليمن إلى سلطان مصر حيث افتتحها من بني طاهر، فأعطاه السلطان قنصوه الغوري بندر جدّة على ساحل البحر الأحمر إقطاعا سنويا يدر عليه أموالا جزيلة.
كانت أقاليم الأكراد مسرحا للصراع بين العثمانيين والصفويين طوال القرن السادس عشر الميلادي، حتى استطاع السلطان سليمان القانون (ت 1566م) إخضاع العراق وأقاليم كردستان في نهاية المطاف للدولة العثمانية، ونظرا للمهام الجزيلة التي قدمها الأكراد للدولة العثمانية في أثناء حربهم ضد الصفويين قد سمح العثمانيون للأكراد بحكم أنفسهم ذاتيا، ويذكر شرف خان البدليسي في كتابه "شرف نامه" أن الإمارات الكردية في العهد العثماني كانت تتمتع بالحكم الذاتي، فالضفة اليسرى من نهر الفرات الغربي وجميع مناطق الضفة الشرقية من نهر مُراد صُو (أحد فرعي الفرات)، كانت تحت حكم الإمارات الكردية، وكان الأمراء الكرد يقدّمون الطاعة والهدايا إلى السلطان، ويقدّمون الجيوش الاحتياطية للدولة[15].
وبعد صراعات طويلة بين الصفويين في إيران والعثمانيين، اتفق السلطان العثماني مراد الرابع والشاه الصفوي عباس الثاني سنة 1049هـ/1639م على رسم الحدود بين الدولتين العثمانية والصفوية، ووقّعت الدولتان معاهدة عُرفت باسم معاهدة "تنظيم الحدود" تقاسمتا فيها كردستان، وبموجبها أصبحت الأجزاء الشرقية من الأقاليم الكردية تابعة لإيران، والأجزاء الشمالية والغربية والجنوبية تابعة للدولة العثمانية، وعُزّزت تلك الاتفاقية بمعاهدة أرضروم الثانية سنة 1847م، ثم باتفاقية تخطيط الحدود سنة 1913م، ثم بمعاهدة لوزان بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1923م، وأخيرا بصكّ الانتداب البريطاني على العراق، وانقسم الوجود الكردي بين إيران والعراق وتركيا وأرمينية وأذربيجان وحتى جورجيا.
هذه بعضُ إضاءات على تاريخ الأكراد، والتي تكشف لنا أنهم جزء أصيل من تاريخ الأجناس والأعراق التي ساهمت في الدفاع عن منطقتنا وتاريخها، وساهمت بنصيب وافر في العلوم والمناصب الدينية والعسكرية، وأنهم استطاعوا الاندماج والتعايش مع العرب والفرس والترك على مدار قرون طويلة. نعم، الجملة الأخيرة كما قرأتها تماما، الاندماج.