شعار قسم ميدان

"الأقارب عقارب".. هكذا أسقطت الخلافات الداخلية دولة السعوديين الثانية

ميدان - السعودية قديما

في المرحلة الأخيرة من عمر الدولة السعودية الثانية تبدأ القصة وتنتهي، قصة قيام الدولة/العائلة وسقوطها، الصراع على العرش أساس الحكاية ومنتهاها، والملك عقيم؛ قولة عربية جاءت من عمق الصحراء العربية وإليها تعود، والحسد والفرقة آفاتان من آفات السياسة والأخلاق السياسية على السواء.

  

الصراع المكتوم!

لم تكن الفتنة لتبدأ مع موت الملك فيصل بن تركي الأول آل سعود في ديسمبر/كانون الثاني 1865م، وإنما عاين الرجل فصولا منها في حياته، كانت فصولا يلمحها الوالد على أبنائه في بيتهم الصغير قبل أن يكون بيت الإمارة، فضلا عن ملك في قلب نجد لديه أربعة أبناء هم عبد الله الابن الأكبر، ومحمد، وسعود، وأصغرهم عبد الرحمن. كان سعود بن فيصل يحسد أخاه عبد الله على مكانته وثقته التي حازها بين القبائل، وانتصاراته وتثبيت أركان الدولة السعودية الثانية حين كان يخرج قائدا للجيوش في أماكن متفرقة من شرق وجنوب الجزيرة العربية، فصنع عبد الله لنفسه قاعدة شعبية تكفل له التأييد والدعم ضد الهزّات.

  

لمح فيصل ما كان يجول في خاطر ابنه سعود، فأراد أن يهدّئ من نار الغيرة والحسد فولّاه إمارة الخرج والأفلاج من مناطق جنوب العارض، ومع ذلك ظل سعود حاقدا ناقما، وما كاد والده يلقى ربه وتُعلن البيعة لأخيه عبد الله "إماما" على آل سعود ودولتهم إلا ويعلن سعود راية العصيان، لتبدأ مرحلة النزاع على العرش السعودي، والذي سيستمر ربع قرن قزّمت دولة آل سعود، وأدخلت قبائلها في حروب أهلية[1].

     

أم سعود وإحدى زوجاته كانت من قبيلة العجمان الذين سكنوا المنطقة الواقعة بين الكويت ونجد، وكانوا على عداوة وكراهية لعبد الله الذي أيّدته قبائل قحطان
أم سعود وإحدى زوجاته كانت من قبيلة العجمان الذين سكنوا المنطقة الواقعة بين الكويت ونجد، وكانوا على عداوة وكراهية لعبد الله الذي أيّدته قبائل قحطان
     

على أن الرحالة والجاسوس البريطاني بلجريف يؤكد أن عبد الله بن فيصل كان رجلا نشيطا شجاعا، ولكنه كان قاسيا صارما، الأمر الذي يروق لسكان المدن المحافظين. أما سعود فكان صريحا سخيا يحب الفخفخة، الأمر الذي يروق للبدو[2]. على أن النسب والعصبية القبلية من جهة الأم كان لها شأنها في استعار نار العداوة بين الشقيقين، فأم سعود وإحدى زوجاته كانت من قبيلة العجمان الذين سكنوا المنطقة الواقعة بين الكويت ونجد، وكانوا على عداوة وكراهية لعبد الله الذي أيّدته قبائل قحطان[3].

 

الإنجليز يستغلون الفرصة

كانت المسألة العُمانية لا تزال سجالا بين البريطانيين الذين يؤيّدون سلطان مسقط الموالي لهم ثويني بن سعيد، وبين آل سعود الذين يؤيّدون حكام المناطق الداخلية من عُمان والتي كانت تتبع الدولة السعودية فضلا عن استيلائهم على ميناء صور العماني والذي رفض الإنجليز هجوم السعوديين عليه، وإرغامهم ثويني على دفع إتاوة سنوية مبالغ فيها، لذا استغل البريطانيون وفاة فيصل وصراع أبنائه، فدعّموا موقف سلطان مسقط، وأرسلوا يطلبون من عبد الله بن فيصل الاعتذار وعدم تكرار ما حدث ودفع التعويضات، وإلا فاستخدام العنف هو السبيل الوحيد للتعامل مع السعوديين، وبالفعل أطلقت السفينة الحربية البريطانية "هاي فلاير" النار على ميناء عجمان على ساحل عمان (في الإمارات اليوم)، وكانت مرفأ للسعوديين، بل دمر البريطانيون قلعة القطيف وعدة سفن صغيرة، ولم ينقذ عبد الله بصورة مؤقتة سوى مقتل ثويني بن سعيد على يد ابنه سالم، مما أعاق الألاعيب السياسية البريطانية التي كانت تتخذ من ثويني تكأة تهاجم بها السعوديين[4].

 

أيقن عبد الله أن الإنجليز يستغلون تشتت السعوديين، فسعى للحيلولة دون تدهور العلاقات وإلى تأمين اعتراف الإنجليز به حاكما للإمارة وإبعاد التآمر البريطاني عليه وتوجيهه صوب أخيه سعود، وحاول التواصل مع المقيم البريطاني في الخليج بيلي الذي أرسل من ناحيته رسالة عبد الله إلى مرؤوسيه في حكومة الهند البريطانية.

 

سعود من الثورة إلى السلطة

undefined

 

بدأت ثورة سعود بن فيصل آل سعود عندما اتجه إلى عسير في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية سنة 1866م والتجأ عند آل عائض وطلب العون من محمد بن عائض ضد أخيه، وقد رفض عبد الله إدخال الوساطة من أحد كبار آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فانتقل سعود من عسير إلى نجران ونزل على رئيسها المسمى بالسيد، يقول ابن عيسى النجدي في تاريخه: "ونزل (سعود) على رئيس نجران المسمى بالسيد، وأقام عنده وطلب منه النصرة فأجابه إلى ذلك، وقدم على سعود في نجران فيصل المرضف من شيوخ آل مرة وعلي بن سريعة من شيوخ آل شامر.. واجتمع على سعود بن فيصل خلائق كثيرة من يام وأمدة رئيس نجران بمال، وأرسل معه اثنين من أولاده وخلقا كثيرا من جنده وأتباعه"[5].

  

لم تكن الحرب التي سرعان ما أيّدتها الأطراف الخارجية، سوى حدث حفّز الأخوان على الانشقاق والتناحر، إلا أنها لم تمثل سوى حرب قبائل تجمعت لديها أسباب الحرب، وعادت إلى الوجود العداوات القديمة التي كانت بين القبائل بعضها وبعض من جهة والقبائل المتحالفة وآل سعود من جهة أخرى، لأنها تعيد إلى الأذهان فكرة الثأر، فكرة التخلص من التبعية لآل سعود والأيديولوجية الوهابية، فكان الخلاف بين عبد الله وسعود فرصة لتلك القبائل للانتقام والتكتل، فبنو خالد يريدون عودة سلطتهم القديمة في مناطق الشرق، والدواسر والعجمان وبنو مرة في الشرق والشمال، والأشراف يريدون السيطرة على القصيم وباقي نجد، وآل رشيد يحلمون بتوسيع رقعة إماراتهم خارج نطاق جبل شمر في حائل، والأتراك العثمانيون يريدون قمع الحركة السعودية الانفصالية في الجزيرة العربية[6].

 

التقت قوات عبد الله بن فيصل بقيادة أخيه محمد وقوات سعود والقبائل المتحالفة معه في منطقة المعتلا، وبعد قتال شديد انهزمت قوات سعود، وقتل زعيم قبائل شامر علي بن سريعة وأبناء أمير نجد، بل جُرح سعود بعدة جروح، ثم فر إلى الأحساء ثم إلى عُمان في واحة البريمي، ومن هنالك وبعدما اندملت جراح سعود بدأ في التفكير في فصل المنطقة الشرقية عن أخيه عبد الله ليفقده جزءا مهما، ومنفذه الوحيد على الخليج العربي، وكانت تلك المنطقة اختيارا مقصودا، ففيها بنو خالد العجمان الأعداء التقليديون لآل سعود، وآل خليفة في البحرين الذين كانوا يدفعون الإتاوة لآل سعود، فضلا عن عُمان وآل مرة، ولم يكن يقف مع عبد الله سوى قطر والأحساء والقطيف.

 

حين رأى عبد الله هذا التكتل الخطير ضده في الشرق، اتخذ موقفا سريعا حيث جرّد حملة عسكرية قوامها من البدو والحضر فضلا عن أتباعه، وسار معه أخوه عبد الرحمن الأخ الأصغر إلى مكان يُدعى دعيلج قريبا من الأحساء، ومنها تمركز ليراقب الموقف وتطوراته، وأرسل قوات داعمة لقواعد السعوديين في قطر، وحين عاد بقواته أواخر سنة 1869م استغل سعود الأمر فانتقل من البريمي إلى البحرين وهناك التقى بشيوخ بني خالد والعجمان الذين منّاهم ووعدهم باستعادة نفوذهم القديم، لذا كوّن عبد الله بمساعدة العجمان وبني خالد جيشا قويا انطلق إلى الهفوف في الأحساء وسرعان ما استولى عليها، وجاءت نجدة بقيادة محمد بن فيصل الساعد الأيمن لعبد الله، فاعتقله أخوه سعود بعدما هزمه في في معركة عُرفت باسم بئر جودة في ديسمبر/كانون الأول سنة 1870م[7].

     undefined

   

كان استيلاء سعود على الأحساء واعتقال محمد بن فيصل البداية الحقيقية لسقوط الدولة السعودية الثانية، فقد بات الطريق إلى الرياض عاصمة السعوديين مفتوحا أمام سعود، لذا قرر عبد الله الهرب بأمواله وأولاده إلى حائل طالبا العون من آل رشيد الإمارة التي طالما دانت بقوة آل سعود على المنطقة، فضلا عن علاقات النسب، فقد كان عبد الله بن فيصل متزوجا ابنة عبد الله بن رشيد المؤسس الأول لآل رشيد في حائل، كما قرر الاتصال بالعثمانيين في العراق طالبا منهم مساعدتهم في مواجهة أخيه سعود[8].

 

العثمانيون في الواجهة من جديد

وبالفعل استطاع سعود بن فيصل الدخول إلى الرياض والاستيلاء عليها والتنكيل بأهلها الذين وقفوا مع أخيه عبد الله، وبهذا تبدأ مرحلة جديدة لحكم سعود وسقوط الفترة الأولى لحكم أخيه عبد الله، الذي أرسل إلى الوالي العثماني على العراق مدحت باشا رسالة يطالبه فيها بمساعدته، وبالفعل أرسل مدحت باشا وهو الوالي العثماني الذي عُرف بطموحه، والذي أعطت له الدولة العثمانية الفرصة في التوسع وإعادة الجزيرة العربية إلى النفوذ العثماني مرة أخرى لا سيما مناطق نجد.

 

لذلك أعدّ مدحت باشا حملة كبيرة زودت بباخرتين، وأبحرت بالفعل من البصرة في مايو/أيار 1871م ووصلت رأس تنورة قرب الدمام، ومن الكويت راقب مدحت باشا الحملة التي أعطى قيادتها إلى نافذ باشا، وقد ساعد الكويتيون الحملة فأرسلوا قوتين، الأولى بحرية بقيادة عبد الله بن الصباح حاكم الكويت، والثانية برية بقيادة مبارك بن الصباح، وقد استطاعت الحملة العثمانية الاستيلاء على القطيف والأحساء وامتدت إلى قطر التي طالب حاكمها قاسم آل ثاني العون من العثمانيين خشية من احتلال قطر من آل خليفة في البحرين الطامعين بها، والمؤيدين من الإنجليز، وفي الأحساء استقر خمسة آلاف جندي تركي نظامي مع بعض الخيالة، فضلا عن بعض السفن الراسية، الأمر الذي أغضب الإنجليز وحلفاءهم، واتهموا العثمانيين بتعكير صفو السلام في المنطقة[9]!

  

بعد سيطرة العثمانيين على كامل إقليم الأحساء وقطر، أعلن مدحت باشا أنهم بصدد احتلال الرياض، وإقرار سيادة الدولة العثمانية عليها، وإعادة عبد الله بن فيصل إلى الحكم
بعد سيطرة العثمانيين على كامل إقليم الأحساء وقطر، أعلن مدحت باشا أنهم بصدد احتلال الرياض، وإقرار سيادة الدولة العثمانية عليها، وإعادة عبد الله بن فيصل إلى الحكم
  

بعد سيطرة العثمانيين على كامل إقليم الأحساء وقطر، أعلن مدحت باشا أنهم بصدد احتلال الرياض، وإقرار سيادة الدولة العثمانية عليها، وإعادة عبد الله بن فيصل إلى الحكم برتبة قائم مقام وسوف تعين الدولة ولاة وقضاة المقاطعات، ثم سرعان ما عدل مدحت باشا عن رأيه وأعلن أن السعوديين طالما عاملوا الناس بالقسوة والقوة، بما يعني رغبته في إنهاء الحكم السعودي بالكلية في نجد، وبدأ يوسع شقة الخلاف بين أبناء فيصل، فأطلق سراح محمد بن فيصل من قلعة القطيف ليكون له نصيب في الصراع على العرش، كما أن عبد الله بن فيصل الأمير المعزول كان قد انضم إلى العثمانيين في الأحساء.

 

في الجهة المقابلة، ونتيجة لقسوة سعود ومعاملته البغيضة لأهل الرياض، فقد قامت ثورة ضده عزلته عن الحكم وتعيين عمه عبد الله بن تركي، خاصة أن ذلك تزامن مع وجود مجاعة كبيرة، وكثرة الحروب، وقد استغل عبد الله بن فيصل هذه الأحداث فهرب إلى الرياض هو وأخوه محمد وابنه تركي، بعدما تأكد أن العثمانيين لا يرغبون في مساعدته بل جاءته أخبار بأنه سيتم نفيه واعتقاله في بغداد، وحين وصل فيصل وإخوته قابله الأهالي بالترحاب[10].

 

على أن سعود استولى على منطقة الخرج وجعل من تلك المنطقة مركزا للمقاومة ليتمكن من القضاء على أخيه وعمه عبد الله بن تركي، لذا وقع بين الجانبين معركة عُرفت باسم معركة الجزعة سنة 1873م، وعلى إثر هذه الوقعة سقطت الرياض مرة أخرى في يد الأمير سعود، واضطر عبد الله للهروب إلى الكويت ولاقى دعما من قبائل قحطان المؤيدة له، وجاءته الوفود النجدية المؤيدة له، لتأكيد الطاعة والبيعة في منفاه[11].

 

آل رشيد.. قوة في قلب الصحراء!

undefined

 

في مارس/آذار 1868م انتحر حاكم حائل طلال آل رشيد، الأمر الذي اعتُبر حالة نادرة في تاريخ الجزيرة العربية، وقد أشار المؤرخ ابن عيسى -مؤرخ تلك الحقبة- إلى أن طلال اختل عقله فانتحر. كان أمير حائل يحكم منطقة واسعة بصورة مستقلة تقريبا، وفي ذات الوقت لم يكن يعلن القطيعة والعداء مع السعوديين فيصل وابنه عبد الله، وكان يقدم لهم في بعض الأحيان مساعدة عسكرية كبيرة، ويدفع لهم الإتاوة المفروضة بما يعني التبعية الاسمية لآل سعود، وبعد مقتل طلال آل رشيد بعام واحد تُوفي عبيد بن علي آل رشيد أحد كبار آل رشيد والمتحمسين للتعاون مع السعوديين، وبسبب الصراع الداخلي بين عبد الله وسعود ابني فيصل، وبعد سلالة من الصراع "السريع" بين آل رشيد فقد ورث الحكم أخيرا محمد بن عبد الله آل رشيد الذي يصفه فيلبي بأنه دشّن عهدا من الازدهار والسلطة القوية في الإمارة، وكتب يقول: "لم تكن الحكومة فعّالة أبدا مثلما كانت في عهده"[12].

 

بلغت إمارة آل رشيد "جبل شمّر" في عهد محمد الرشيد (1871- 1897م) أوج ازدهارها، ففي سبعينيات القرن التاسع عشر استولوا على قرى في وادي السرحان حتى حدود وادي حوران، وكان استمرار ركود إمارة الرياض والتحالف مع العثمانيين قد مكّن محمد من بسط نفوذه على مدن القصيم في البداية ثم على كامل بلاد نجد سنة 1884م، مستغلا في ذلك تهلهل الحكم العثماني وعدم تماسكه في مناطق الأحساء والقطيف وقطر[13].

 

لعبة القط والفأر!

كان سعود بن فيصل يعتمد في صراعه على عون البريطانيين ومساعداتهم، وكان عبد الله يلجأ إلى العثمانيين، وفي منتصف السبعينيات من تلك الحقبة ظهر على مسرح الأحداث الابن الأصغر لفيصل الأمير عبد الرحمن المولود سنة 1850م والذي سيخرج من صلبه ابنه عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة، ففي عام 1874م تزعم عبد الرحمن انتفاضة على الأتراك العثمانيين في الإقليم الشرقي، وأيّده قسم من قبائل العجمان وآل مرة ومجموعة من القبائل الأخرى، واستطاعت القوات النظامية العثمانية إنزال الهزيمة بهذا التحالف، وفي العام التالي 1875م توفي سعود فجأة وقيل بأنه مات مسموما، وبدأ عبد الرحمن يطمع في الحكم فدخل في صراع ضد أخويه عبد الله ومحمد، واستطاع بالفعل الاستيلاء على الرياض، لكنه سرعان ما هرب من الرياض بعدما ثار أبناء سعود ضد عمهم عبد الرحمن، فلجأ هذا الأخير إلى أخويه عبد الله ومحمد الذين شكلوا جبهة موحّدة بزعامة عبد الله ضد أبناء سعود بن فيصل[14].

 

وبالفعل تمكّن عبد الله من دخول الرياض، وخلال السنوات الإحدى عشرة التي مرت على وفاة فيصل تبدلت السلطة في الرياض للمرة الثامنة، وقد أورد الرحالة والجاسوس البريطاني فيلبي جدولا زمنيا للحكم في الرياض بعد وفاة فيصل كما يلي:

  

undefined

 

سقوط الدولة السعودية الثانية

نتيجة لهذا الصراع الضاري بين أبناء وأحفاد فيصل بن تركي الأول آل سعود، أخذت الواحات والمناطق وقبائل البدو تنفصل الواحدة تلو الأخرى عن الرياض، وتنتقل طوعا أو كرها إلى حماية آل الرشيد وتدفع لهم الإتاوات، وزاد من وطأة المشكلة لجوء أبناء سعود بن فيصل إلى زعيم إمارة الرشيد محمد بن عبد الله واتحدوا معه، وجمعوا قسما من قبائل عتيبة وبعض سكان واحات العارض، ورغم هزيمتهم، فإن إمارة عبد الله بن فيصل آل سعود التي كانت تتركز في الرياض وما حولها كانت تتمزق إربا، وبعد عدة محاولات وفي أكتوبر/تشرين الأول 1887م استطاع أبناء سعود بن فيصل الاستيلاء على الرياض، وأسر عمهم عبد الله الذي كان أثناء حصاره قد طلب العون من ابن الرشيد الذي لم يتردد في قطف الثمرة الناضجة، فقد كان طلب عبد الله بمنزلة إعلان لضم الرياض إلى مملكة ابن الرشيد، وبالفعل اتجه ابن الرشيد إلى الرياض، فهرب منها أبناء سعود، وأخرج منها عبد الله ونقله مع أخيه عبد الرحمن إلى عاصمة آل رشيد "حائل"، وترك واحدا من أكثر القادة العسكريين قسوة وولاء لآل رشيد وهو سالم آل سبهان، وكان هذا العام هو البداية الحقيقية لسقوط دولة آل سعود الثانية[15].

 

عزم سالم آل سبهان على إبادة أبناء سعود بن فيصل، فتعقّبهم في أغسطس/آب من العام التالي على دخوله الرياض 1888م، واستطاع بالفعل أن يقتل أربعة منهم، ويفر الخامس إلى ابن الرشيد في حائل آملا منه العفو والصفح، والذي أبقى عليه ابن الرشيد أسيرا لا حول له ولا قوة، وفي شتاء 1889م توفي عبد الله بن فيصل آل سعود بعد مرضه، وبعدما سمح له ابن الرشيد بالعودة إلى الرياض، وفي العام التالي 1890م أعلن عبد الرحمن الثورة والعصيان على سالم آل سبهان، وبالفعل استطاع دحره رغم الإمدادات التي جاءته من ابن الرشيد، وفي نهاية المطاف أعلن الجانبان عن اتفاق هدنة أصبح فيها عبد الرحمن واليا على الرياض لكن بتبعية تامة لآل الرشيد في حائل.

 

  undefined

 

في تلك الأثناء فضّل أهالي عنيزة وبريدة في القصيم التحالف مع عبد الرحمن آل سعود ضد إمارة الرشيد بعد أن تأكد لهم أن سلطتهم تقوى، وأن الضرائب تزداد والامتيازات تتقلص، وبالفعل في أواخر سنة 1890م تشكل ائتلاف واسع من العناصر المناوئة لحكم آل رشيد في وسط الجزيرة العربية من قبائل القصيم ومطير والمؤيدون لآل سعود، وجمع ابن الرشيد كل قواته وبدو الظفير والمنتفق وحرب فضلا عن قبائل شمر، وكانت بين الجانبين وقعة كبيرة عُرفت باسم وقعة "المليدة" في القصيم، كانت تلك الحرب من أكبر المعارك منذ الغزو المصري في وسط الجزيرة، وبعد قتال دام شهرا كاملا، هزم محمد بن عبد الله الرشيد أعداءه المتحالفين، وفرّ عبد الرحمن بن فيصل آل سعود إلى الكويت، ليحظى بحماية شيخ الكويت محمد آل صباح، وقد خصصت له الحكومة العثمانية معاشا متواضعا بستين ليرة ذهبية شهريا، وأصبحت نجد منذ ذلك التاريخ 1891م تابعة بصورة رسمية لإمارة آل رشيد[16].

 

كان الملك عبد العزيز الذي صار فيما بعد ملكا للعربية السعودية يرى أن هناك ثلاثة أسباب لسقوط عمه الأمير عبد الله، قائلا: "لم يستقم الأمر لعبد الله لثلاثة أسباب: أولا وجود أبناء أخيه سعود في الخرج يحرّضون القبائل عليه، ثانيا: مناصرته لآل عليان أمراء القصيم السابقين على أعدائهم آل مهنّا الأمراء الحاكمين في ذاك الحين، وكان هذا جهلا من عبد الله في وقت ضعفه، فليس من الحكمة أن يتحزّب لبيت مغلوب فيضعضع نفوذه في القصيم، ثالثا ظهور محمد بن الرشيد الطامع بحكم نجد؛ فقد تحالف مع آل أبي الخيل وكانوا كلهم يدا واحدة على ابن سعود"[17].

 

بهذا تسقط الدولة السعودية الثانية، ومن رحم آل سعود الهاربين في الكويت بزعامة عبد الرحمن تبزغ الدولة الثالثة التي سيتزعّم تأسيسها وتوسيعها ابنه عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، فكيف فعل ذلك؟ وكيف كانت علاقته بالإنجليز والقوى الأخرى في الجزيرة العربية، وما الذي جرى بينه وبين آل رشيد؟ هذا ما سنتعرف عليه في تقاريرنا القادمة.

المصدر : الجزيرة