كيف رأى الشيخ "رشيد رضا" السلطان عبد الحميد؟
(الشيخ محمد رشيد رضا في وصفه ارتباط المصريين بالعثمانيين)
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بَهاء الدين بن علي خليفة القلموني، البغدادي الأصل، الحُسيني القُرشي النسب، صاحب مجلة "المنار"، وأحد رجال الإصلاح الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين. كان رشيد رضا من ألمع الكتّاب والعلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير، ولد ونشأ في القلمون قريبا من طرابلس الشام، وتعلم فيها وفي طرابلس علوم عصره من العربية وغيرها، وقد نظم الشعر في صباه، وكتب في بعض الصحف، ثم رحل إلى مصر سنة 1315هـ (يناير/كانون الثاني) 1898م بعدما فشل في التلمذة والاجتماع بجمال الدين الأفغاني الذي وافته المنية في الأستانة، فلازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له، وكان قد اتصل به قبل ذلك في بيروت، ثم أصدر مجلة "المنار" بعد ثلاثة أشهر من قدومه إلى مصر في (مارس/آذار) 1898م لبثّ آرائه في الإصلاح الديني والاجتماعي بمساعدة من الشيخ محمد عبده[1].
وبمرور الوقت أصبح رشيد رضا مرجع الفتيا في التأليف بين الشريعة والأوضاع العصرية الجديدة، ولما أعلن الدستور العثماني (سنة 1326هـ/1908م) زار بلاد الشام، واعترضه في دمشق وهو يخطبُ على منبر الجامع الأموي أحد أعداء الإصلاح، فكانت فتنة عاد على أثرها إلى مصر، وأنشأ مدرسة "الدعوة والإرشاد"، ثم قصد سوريا في أيام الملك فيصل بن الحسين وانتخب رئيسا للمؤتمر السوري فيها، وغادرها على أثر دخول الفرنسيين إليها (سنة 1920 م)، فأقام في وطنه الثاني مصر مدة.
ثم رحل إلى الهند والحجاز وأوروبا، وعاد فاستقر بمصر إلى أن توفي ودفن بالقاهرة سنة 1935م. أما أشهر آثاره: مجلة "المنار" التي أصدر منها 34 مجلدًا، و"تفسير القرآن الكريم" اثني اعشر مجلدا منه، و"تاريخ الأستاذ الإمام" في سيرة شيخه محمد عبده، وغير ذلك[2].
كان السلطان عبد الحميد قد ارتقى عرش الدولة العثمانية سنة 1876م في مرحلة شديدة الضعف كانت تمر بها الدولة، وسرعان ما أجبره مجلس النواب العثماني (المبعوثان) على الدخول في حرب لم تكن على استعداد لها أمام الروس، وكانت نتائج الهزيمة وخيمة، هذه النتائج التي جعلت السلطان عبد الحميد يعتمد على المركزية المطلقة في اتخاذ قراراته، والتي كانت لها بعض النتائج الوخيمة التي وُصفت بالاستبداد والتسلط، وظهور جمعية الاتحاد والترقي، وسُخط بعض العرب على هذه السياسة.
ورغم ذلك كان رشيد رضا في حقبة السلطان عبد الحميد (1876 – 1908م) يرى أن الدولة العثمانية هي الجامعة الحقيقية لكافة المسلمين، بيد أنه كان يُجلّ العرب ويُقدّر دورهم الكبير استقراء من التاريخ والواقع، ويرى أنهم الأقدر على قيادة المسلمين وتجديد الإسلام، بعكس الترك الذين اعتبرهم مجرد بناة مملكة سياسية، ولعل الشيخ كان يرى في العرب هذه المكانة لأن القرآن الكريم قد أُنزل عليهم، وأنهم الأجدر بمعرفة الدين وفهم حقيقته. ومع ذلك، كان رشيد رضا يعترف بأن الخلافة العثمانية "خلافة تغلّب وضرورة"، وكان يرى أن الجنسية العثمانية هي الأنسب لجمع كافة عناصر وأعراق هذه الدولة، وكان يشجع على تقوية رابطة العلاقة بين العرب والترك انطلاقا من دور الإسلام في إزالة العصبيات، وخوفا من السياسة الاستعمارية لأوروبا وما قد يترتب عليها من سيطرة واحتلال[3].
لكنه في المقابل لم يكن يتوسّع في ثنائه على العرب، خاصة في زمن السلطان عبد الحميد لعدم إشعار العثمانيين بتفوق العرب عليهم، وحتى لا يُظنّ بأنه طعن في الخلافة العثمانية في وقت كانت تمر فيه الدولة بمرحلة حرجة من الضعف والقلاقل، ونلحظ هذا الأمر قبل وفاة شيخه محمد عبده سنة 1905م.
لكن مع وفاة شيخه الذي ضُيّق عليه الخناق من قبل السلطان عبد الحميد الذي أوهم له بعض المقربين مثل أبو الهدى الصيادي شيخ مشايخ الدولة العثمانية وبعض تلامذته أن محمد عبده كان يسعى إلى إحياء "خلافة عربية"، وبعض من ذلك الأذى قد أُصيب به رشيد رضا وأسرته في القلمون، ومن ثم فقد أطلق لنفسه العنان في النقد العلني لسياسة السلطان عبد الحميد في السنوات الثلاث الأخيرة من سلطنته (1905- 1908م).
ففي تاريخه لشيخه "تاريخ الأستاذ الإمام" وبعد عرضه لمقترحات شيخه محمد عبده التي كتبها في عدد من مقالات مجلة "العروة الوثقى" لإصلاح العلاقة بين الأقطار العربية وشعوبها وأعراقها وبين العثمانيين، ولمَ لم يأخذ العثمانيون بهذه المقترحات، فإن الشيخ رشيد رضا يقول "ولو أن الدولة العثمانية عقلت تلك النصائح واتبعتها لصلحت البلاد، وارتقى العباد، وثبت سلطانها فيها، وانتقل نفوذها الديني والسياسي إلى غيرها. ولكن رجال الدين فيها كغيرها لم يكونوا يعقلون معنى لإصلاح مدني يُستمد من القرآن ومن السنة"[4].
وقد زادت وتيرة النقد في مجلة "المنار"، ثم تحول النقد النظري إلى حركة على الأرض حين أنشأ "جمعية الشورى العثمانية"، والتي بدأت في إرسال منشوراتها السرية إلى سائر أرجاء البلاد العثمانية، حتى وصل صداها إلى السلطان عبد الحميد فأقلقته أشد القلق، وقد قابلَ بعضا من أفراد جمعية "الاتحاد والترقي" التركية الشيخ رشيد رضا وحاولوا دمج جمعيته معهم، لكنه رفض ذلك لأنه رآهم أشد تعصبا للأتراك دون غيرهم من الشعوب الأخرى ومنهم العرب، وقال لذلك المندوب "إن تعدد الجمعيات مع وحدة الغاية والمقصد لا يُعد تفرّقا ولا يُحدث ضعفا، وإننا نرى أنه لا نجاح للعثمانيين إلا باتفاق عناصرهم على المطالبة بالدستور"[5].
والحق أن رشيد رضا كان محتفيا بفكرة "الجامعة الإسلامية" التي كان يدعو إليها السلطان عبد الحميد الثاني رغم نقده ومواجهته التي صارت علنية، لكن حين انقلب عليه الاتحاديون سنة 1909م، وبدأت حقبتهم التي باعدت بين العرب والترك، وأدخلت الدولة في حالة من الضعف السياسي والعسكري بعدم قدرتهم على الدفاع عن البلدان العربية بعد احتلال إيطاليا لطرابلس الغرب سنة 1911م، وانفصال دول البلقان، وازدرائهم للعرب، فقد اختمرت لديه ولدى غيره فكرة إنشاء جمعية جامعة للعرب، يقول في "المنار" "وأما جمعية الجامعة العربية التي أسسناها بعد عودتي من الأستانة فكان الغرضُ الأول منها أمرين: أحدهما السعي لاتحاد حلفي بين أمراء جزيرة العرب للاتفاق ومنع الشقاق، والثاني التعاون على عمران البلاد والدفاع عنها، وللتعاون بين الجمعيات العربية في سورية والعراق وغيرهما"[6].
وحين هُزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الثانية، ودخلت في مفاوضات مع الحلفاء، كتب في غضون سنة 1922م قُبيل إلغاء الخلافة العثمانية عدة مقالات في "المنار" عن مسألة "الخلافة"، عاد فيما بعد وجمعها في كتابه "الخلافة" أو "الإمامة العظمى"، وكانت الظروف التي كُتبت فيها هذه المقالات تدفعه إلى استعادة النص الفقهي الذي يرى في الخلافة الراشدية النموذج الصحيح للخلافة، وكان يرى أن الأحداث التي تعصفُ بالعالم الإسلامي وبتركيا مناسبة تماما للتذكير بشروط الإمامة وبصفات أهل الحل والعقد المشروط لاختيار الخليفة، وكان يكتب بعد أن أسقط من حسابه الرهان على إحياء الخلافة العثمانية التي قامت على التغلّب، ودخلت في "دور الجور والبغي"[7].
إننا يمكن مما سبق أن نرى في رشيد رضا رجلا مجتهدا باحثا عن الوحدة الجامعة بين أبناء الأمة عربهم وتركهم وعجمهم، وحين فشلت هذه الوحدة عاد فبحث عن اللُّحمة والوحدة العربية، وظل الشيخ على هذه القناعة حتى وفاته سنة 1935.
أما هذا المقال الذي انتقيناه من "المنار" ففيه يحتفي الشيخ رشيد رضا بذكرى ارتقاء السلطان عبد الحميد الثاني لعرش السلطنة العثمانية، وذلك في العدد الرابع عشر من السنة الأولى من صدور "المنار" سنة 1898م، ونراه يصف بعض الاحتفالات والمظاهر التي كانت تُقام في القاهرة آنذاك.
"في مثل هذا اليوم (19 و31 (أغسطس/آب) من سنة 1293هـ الموافقة سنة 1876م بويع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين والسلطان الأعظم على جميع العثمانيين السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان (نصره الله تعالى وأيده) بالخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، وهو يوم يحتفل فيه العثمانيون على اختلاف مِلَلهم ونِحَلهم، والمسلمون على اختلاف أقطارهم وحكوماتهم، ويظهرون فيه الابتهاج والسرور، ويزينون المعاهد والقصور، ويهنئ بعضهم بعضا بهذا الموسم الحميد، ولقد طفق المصريون يستعدون للاحتفال وإقامة معالم الزينة من أول شهر "أغستوس"، والجرائد العثمانية -وفي مقدمتها جريدة المؤيد الغراء- تحدو بهممهم، وتحرك من نفوسهم الأريحية العثمانية والمكارم العربية.
تجول في شوارع القاهرة وأسواقها فتسمع فوقك في كل بقعة حفيفا كحفيف الأجنحة الخافقة، وما هو إلا خفقان الرايات الحمر ذات الأهلة والنجوم البيض التي تمثل لك سماء من الياقوت، كواكبها من الماس واللؤلؤ، أو تخيل لك النيل يجري من فوق الرؤوس وقد عم فيضانه حتى رؤي ماؤه الأحمر مزينا بزبده الأبيض في كلجو، كما روي منه كل قاع. وإذا أصخت بسمعك لخفقان الراي (جمع راية) والأعلام سمعتها تتناجى مع أرواح النسيم بأن ارتباط مصر بالدولة العلية كارتباط الروح بالجسد، وأن كل ذرة من ذرات مصر تنجذب إلى العثمانية بطبيعتها، وكل نفس منفوسة في مصر تخضع لجلالة السلطان الأعظم بطوعها وإرادتها.
قال قائل: إن الاحتلال الإنجليزي أنمى محبة الحضرة السلطانية في قلوب المصريين، وفسره بما يبعد عن الصواب، ونحن نقول: إن لم يكن الاحتلال أنمى ذلك الحب فقد أيقظه ونبّهه، وإن لم يكن أوجد الرابطة العثمانية فقد أحكمها وقوَّاها، ليس لأن السلطان أذن للإنجليز في احتلال مصر وإصلاحها، كما زعم الزاعم، بل لأن استبداد الإنجليز في البلاد وتهديدهم استقلالها وإفسادهم معارفها واستيلاءهم على سفنها ومراكبها وأراضيها وأموالها، كل ذلك نبه المصريين إلى رحمة حكامهم الأتراك، وعرفهم أن من وجد في الأتراك إخوانهم من حاكم ظالم فإن ظلمه ناشئ عن جهله، لا عن إرادة الدولة العلية بمجموعها -سلطانها وحكامها- لهم السوء، على أن مصر جزء من أجزاء السلطنة، وعضو طبيعي من أعضائها، تربطها بها رابطة الجنس والدين، فلو أن الحضرة السلطانية أو أي حاكم عثماني اختص نفسه بشيء من مصر لكان ذلك في نظر المصريين كانتقال الخاتم من أصبع إلى أصبع، أما أخذ الإنجليز له فهو إضاعة وفقد لا يرجى عوضه. هذا ما نبه المصريين على شدة التعلق بأذيال الدولة العلية، والإخلاص في الحب للذات الشاهانية، مقتدين في ذلك بخديويهم عزيز مصر عباس حلمي باشا، الأمين المخلص لسلطانه، والخليفة عليه.
وستقام في مساء هذا النهار (ليلة الخميس) الزينة الكبرى في حديقة الأزبكية وقد استعدت الجمعية المصرية المؤلفة برياسة سعادة حسن بك مدكور التاجر الشهير لهذه الزينة أتم الاستعداد، وقد صدرت أوراق الدعوة لحضور الاحتفال ببيتين كل شطر منهما تاريخ للسنة الهجرية الحاضرة وهما:
أعزَّ الإله خليفتَنا … متين التجاريب عبد الحميد
أما الزينات الخاصّة التي تقام في القاهرة وفي سائر مدن القُطر فهي لا تدخل تحت الإحصاء، فإنك لا تكاد تجد بيتا من بيوت الوجهاء، ولا إدارة جريدة من الجرائد العثمانية، ونخص بالذكر إدارة جريدتي المؤيد والفلاح الغراوين، وإدارة هذه الجريدة -المنار- ولا مكتبا من مكاتب المحامين إلا وترى الأعلام خافقة في رحابه، والمصابيح تتألق على جدرانه وأبوابه، وبالجملة أن القلم ليعجز عن إعطاء هذه المظاهر الاحتفالية حقها من الوصف، ولا سيما إذا أراد أن يصف ما تمنحه من الشعور العام بمعنى الوطنية، وما تحكمه من روابط الجامعة العثمانية، لكننا أشرنا للإجمال وندع التفصيل للجرائد اليومية"**.
==========================================