شعار قسم ميدان

لماذا قَتل بيبرس قُطز؟

midan - knight
تناولنا في مقال سابق انتصار المماليك على المغول في المعركة الفاصلة عين جالوت وذلك في 25 رمضان سنة 658هـ/ سبتمبر 1260م، وعقب هذه المعركة التي تقهقر فيها المغول وانسحبوا من جنوب الشام ودمشق، استغل السلطان قطز هذا النصر واتجه مسرعًا صوب دمشق التي دخلها وسط ترحاب شديد من أهل دمشق، هؤلاء الذين رزحوا تحت الاحتلال المغولي مدة سبعة أشهر لاقوا فيها من المهانة ما حكاه المؤرخون بصورة مفصّلة في تواريخهم(1)، وقد مكث فيها قُطز من 2 شوال إلى 16 شوال من نفس العام(أ)، ليصلح أحوالها الإدارية، "فنظر في أحوال البلاد، وحسم مواد الفساد، وحدّد إقطاع الإقطاعات بمناشيره(ب)(2).
    
قُطز في الشام
كان من جملة الإصلاحات الإدارية التي أسرع بتنفيذها في الشام والتي صارت تحت الحكم المملوكي منذ تلك اللحظة، أنه قسّمها إلى عدة نيابات كبرى أو ولايات تابعة للقاهرة، هذه الولايات هي:
 
– دمشق وما يتبعها، وعيّن عليها الأمير المملوكي علم الدين سنجر الحلبي الصالحي ويعاونه الأمير الكردي أبو الهيجاء بن خُشتَرين، وأصبحت ولاية دمشق أهم ولايات الشام فيما بعد، بل أصبحت جل ولايات الشام تابعة لها، وكان أميرها يُطلق عليه ملك الأمراء.
  
 
حمص والرحبة وتدمر، وأقر عليها الملك الأشرف موسى بن شيركوه الأيوبي وكانت مملكته من قبل؛ مكافأة له على انضمامه للمماليك: حماة وما يتبعها، وأقر عليها الملك المنصور محمود بن الملك المظفر الأيوبي؛ مكافأة له على انضمامه للمماليك.
 
حلب وما يتبعها، وأقام عليها الملك المظفر بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وقد كان أخوه ملكًا للموصل، فأراد قطز أن يستثمر هذه العلاقة لمعرفة تحركات المغول الاستباقية، خصوصا وأن ولاية أو نيابة حلب كانت على تماس مع دولة المغول(3).
 
غزة وساحل فلسطين، وأقام عليها الأمير شمس الدين أقوش البُرلي العزيزي ومعه عدد من المماليك العزيزية، وهم مماليك الملك الأيوبي العزيز والد الملك الناصر يوسف، وكانوا قد لجأوا إلى المماليك في مصر أثناء هجوم المغول على الشام(4).
 
إضمار الغدر
عقب استقرار الأوضاع الأمنية والعسكرية والإدارية في الشام، وبعد غياب عن مصـر لمدة شهرين، عزم قطز على الرجوع إلى القاهرة،  دون استكمال توغله في شمال بلاد الشام، وخاصة حلب أهم مدنها، وقد لاحظ عدد من المؤرخين ذلك، منهم القاضي والمؤرخ عز الدين بن شداد (ت684هـ) في تاريخه لبيبرس الذي يقول: "إن الملك المظفر قطز كان عازمًا على التوجّه إلى حلب ليكشف أحوالها، ويُزيح أعدارها من خراب التتار، فوشي إليه واش أن الأمير ركن الدين البندقداري مع جماعة من الأمراء البحرية متنكرين له، ومتغيّرين عليه، فصرف وجهه إلى ناحية الديار المصرية، وهو أيضًا مُضمر لهم الشر، وربّما أسرّ ذلك لبعض خواصّه، فبلغ ذلك الأمير ركن الدين البندقداري، فخرجوا من دمشق، وكل واحد منهما محترز من صاحبه(5).
 
إن هذه الرواية المهمة من المؤرخ ابن شداد تكشف لنا كيف كانت العلاقة بين بعض المماليك البحرية بل والمماليك المعزية (نسبة إلى السلطان المعز أيبك) زملاء قطز، ويبين أن فكرة المفاجأة في قتل قطز لم تكن وليدة تلك اللحظة التي قُتل فيها في مدينة القُصير(6) القريبة من الصالحية في شرقية مصر.
 
أسباب مصرع السلطان سيف الدين قطز تبدو أكثر تشابكًا من رواية رفضه تسليم نيابة حلب للأمير بيبرس، وأن هذا الرفض لم يعدُ أن يكون سببًا مباشرًا لمقتله عند الحدود المصرية
أسباب مصرع السلطان سيف الدين قطز تبدو أكثر تشابكًا من رواية رفضه تسليم نيابة حلب للأمير بيبرس، وأن هذا الرفض لم يعدُ أن يكون سببًا مباشرًا لمقتله عند الحدود المصرية
  
 
لقد اختلفت روايات المؤرخين حول الأسباب التي أدت إلى مقتل سيف الدين قطز على يد بيبرس وزملائه من الأمراء المماليك الصالحية (نسبة إلى السلطان الصالح أيوب)، وهي كما تتنوع وفق روايات المؤرخين، فابن أيبك الدواداري أحد المؤرخين لتلك الحقبة يرى أن سبب ذلك هروب بعض المماليك البحرية أصدقاء بيبرس من أرض المعركة أمام المغول في يوم "عين جالوت"، فلما انتهت المعركة، "وانتصـر الإسلام، تنمّر عليهم السلطان المظفر ووبّخهم، وشتمهم، وتوعّدهم، فأضمروا له السوء، وحصلت الوحشة منذ ذلك اليوم، ولم تزل الأحقاد والضغائن تتراءى في صفحات الوجوه وغمزات العيون، وكل منهم يترقب من صاحبه الفرصة"(ج).
 
أما الأمير المملوكي والمؤرخ بيبرس الدواداري المنصوري: وهو أقرب المؤرخين إلى الأحداث فيعيد قتل قطز إلى أسباب أهم وأعمق من تلك التي طرحها ابن أيبك، فقد كان قطز ضالعًا في مقتل الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أحد كبار الأمراء المماليك الصالحية أثناء التنافس المحموم بين السلطان أيبك وأقطاي على السلطنة، وقد اشترك قطز في تلك الوقعة، يقول: "وذلك أنه [أي قطز] رحل من دمشق عائدًا إلى الديار المصرية وفي نفوس البحرية منه ومن أستاذه ما فيها لقتلهما الفارس أقطاي، واستبدادهما بالملك وإلجائهم إلى الهرب والهجاج، والتنقل في الفجاج، إلى غير ذلك من أنواع الهوان التي قاسوها، والمشقات التي لبسوها، وإنما انحازوا إليه لما تعذر عليهم المقام بالشام، والتناصر على صيانة الإسلام لا لأنهم أخلصوا له الولاء، أو رضوا له الاستيلاء»(7).
 
لكن العلامة المؤرخ تقي الدين المقريزي فيرى أن سبب الأزمة رفض قطز إعطاء ولاية حلب للأمير بيبرس "فأضمرها في نفسه، ليقضي الله أمرًا كان مفعولا". والحق أسباب مصرع السلطان سيف الدين قطز تبدو أكثر تشابكًا من رواية رفضه تسليم نيابة حلب للأمير بيبرس، وأن هذا الرفض لم يعدُ أن يكون سببًا مباشرًا لمقتله عند الحدود المصرية، والواقع أن تلك الاسباب قديمة ترجع إلى أيام السلطان أيبك وتشـريده معظم المماليك البحرية الصالحية، وقتله زعيمهم أقطاي، إذ صار مماليك أيبك وهم المعزية ومنهم قطز، أصحاب النفوذ والسلطان في مصر.
  

تجلت قدرة قطز العسكرية والإستراتيجية في كل موقف وُضع فيه مذ تحمّل مسئولية الدولة المملوكية الوليدة عقب وفاة أستاذه السلطان المعز أيبك
تجلت قدرة قطز العسكرية والإستراتيجية في كل موقف وُضع فيه مذ تحمّل مسئولية الدولة المملوكية الوليدة عقب وفاة أستاذه السلطان المعز أيبك
  
واستمر العداء بين المعزية والبحرية قائمًا حتى أغار المغول على مصـر، فاضطر المماليك جميعًا إلى الاتحاد بدليل قول العيني إن المماليك البحرية انحازوا إلى قطز المعزي، "لما تعذر عليهم المقام بالشام، وللتناصر على صيانة الإسلام، لا لأنهم أخلصوا الولاء له"(8)، فلما انتصـر المماليك على المغول في عين جالوت، ولم تبق هناك ضرورة للاتحاد، ظهر العداء القديم بين الطائفتين من جديد، وكان من نتائج ذلك مقتل قطز المعزي على يد بيبرس الصالحي، وهذا هو المعنى الحقيقي لما أورده المؤرخ ابن أبي الفضائل تعقيبًا على مقتل قطز حين قال: "فلحِق الناس خوف عظيم من عودة البحرية إلى ما كانوا عليه من الفساد"(9).
 
وقد روى المؤرخ ابن إياس في هذا الصدد: "ولما تم أمر بيبرس في السلطنة، رسم بإحضار المماليك البحرية الذين كانوا منفيين في البلاد". كما روى في موضع آخر وكذلك المقريزي أن المماليك المعزية حاولوا اغتيال بيبرس، عقب عودته إلى القاهرة، فقتل بعضهم، وسجن ونفي البعض الآخر. وهذه النصوص وإن دلت على شيء، فإنما تدل على أن مقتل قطز كان نتيجة لعداء قديم مستحكم بين المماليك البحرية الصالحية والمماليك المعزية(10).
 
وقد رجح الدكتور قاسم عبده قاسم السبب الذي ذكره المؤرخ بيبرس الدواداري واعتبره السبب الرئيس لما حدث، فقد كان سيف الدين قطز أكبر مماليك السلطان عز الدين أيبك، وكان من أهم الذين شاركوا في قتل فارس الدين أقطاي، ومطاردة المماليك البحرية ، كما أن البحرية عاشوا سنوات منفيين في بلاد الشام، ولم يمر عليهم الوقت دون مشكلات وحروب وسجن ومطاردات، ساهم في بعضها سيف الدين قطز بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن المهم أن نتذكر أن رابطة الخشداشية (الزمالة المملوكية) التي كانت تجمع المماليك، كانت رابطة قوية للغاية، ومن ثم فإن بيبرس ورفاقه من المماليك البحرية كانوا يحملون رغبة الثأر لزميلهم أقطاي من ناحية ولزملائهم الآخرين الذين قُتلوا على يد قطز، أو بسببه من ناحية أخرى، فضلًا عما نالهم من الهوان والمذلة في منفاهم من ناحية ثالثة(11).
  undefined
  
إن كل ما ذكرته المصادر القديمة والمراجع الحديثة عن أسباب مقتل قطز، لا تغير من حقيقة مواهبه وكفاءته، وتلك اللحظة الفارقة التي قاد فيها الجموع بصبر وشجاعة لتخليص ليس بلاد الإسلام فقط وإنما العالم الغربي كذلك من خطر الموجة المغولية الجارفة التي لم تُهزم قط في موقعة سابقة، لقد تجلت قدرة قطز العسكرية والإستراتيجية في كل موقف وُضع فيه مذ تحمّل مسئولية الدولة المملوكية الوليدة عقب وفاة أستاذه السلطان المعز أيبك وأثناء سلطنة ولده الصغير المنصور علي ثم في عام الشقاء الذي ظهر فيه الخطر المغولي بجوار القلاقل الأيوبية في الشام، وإن تأملًا سريعًا في أسماء من قتلوا قطز ليكشف لنا أنهم لم يكونوا كلهم من البحرية بل منهم من كان زميلًا/خشداشًا لقطز، واشترك في هذه المؤامرة فقط لأن قطز عنّفه على انسحابه أمام المغول في عين جالوت.
 
وإننا يُمكن أن نتفهم سرّ غضب بيبرس والأمراء البحرية من قُطز الذي قتل زعيمهم فارس الدين أقطاي وشتّت شملهم في الشام ونالوا على يديه الهزائم حينما التحقوا بقوات الأيوبيين، لكن لا يمكن أن نفسر سبب اشتراك بعض الأمراء المعزّية في هذه الجريمة النكراء عقب هذا الانتصار العظيم للإسلام على عدوه الأخطر آنذاك "المغول"!

_______________________________
 
(أ): ذكر اليونيني أن قطز تحرك من دمشق باتجاه مصر في يوم الثلاثاء 26 شوال من نفس العام. اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/370.
  
(ب): أي بمنشور منه، والمنشور هو مرسوم بتوقيع من السلطان يوزّع على كبار الأمراء بإقطاعهم الإقطاعات الحربية التي هي المصدر الأساسي لمرتبات الأمراء في العصر المملوكي.
  
(ج): هذه المدينة غير القصير التي على البحر الأحمر، كذا ذكر اليونيني، وأكد أنها على بُعد مرحلة أي 40 كم تقريبًا من مدينة الصالحية. اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/370.
المصدر : الجزيرة