شعار قسم ميدان

من هو الأبله؟ دوستويفسكي ناقداً للحداثة

midan - people - old
في كتابه "جذور الرومانتيكية"، يتتبع الفيلسوف البريطاني إيزايا برلين تاريخ الحركة الرومانتيكية التي ظهرت أواسط القرن التاسع عشر، وأحدثت تحولا فكريا هو الأعظم في الوعي الغربي كما يصفه برلين في الكتاب نفسه، إذ لم تكتف بنقد منتجات الفكر الغربي، بل شمل نقدها العقل والعقلانية وآليات إنتاج المعرفة.

 

ظهرت الحركة الرومانتيكية ردَّ فعل على التفاؤل الذي اتسم به التنوير الأوروبي المتمثل بالإيمان بقدرة الإنسان على الوصول إلى الحقائق الكونية الكلية، وقدرته على التحكم بالطبيعة وإعادة تشكيلها وفقا لاحتياجاته ورغباته، وتنظيم حياته الاجتماعية بعقلنة ومثالية [1].

 

وقد كان المجال الأدبي هو الحقل الذي ازدهر فيه الإنتاج الرومانتيكي، ذلك أن نمط السرد الأدبي يمثل انفكاكا من قيود العقلانية الصارمة التي يتسم بها نمط الإنتاج الفلسفي أو الفكري [2]، حيث يتيح السرد للروائي الكشف عن جوانب مبهمة ودوافع خفية للإنسان ليست عقلانية بالضرورة، وهو ما ذهب له الروائي التشيكي ميلان كونديرا عندما اعتبر أن وظيفة السرد الأدبي تتمثل في أن "تقول شيئاً عن كينونة الإنسان لا تستطيع غير الرواية قوله" [3].

 

ليس بالإمكان الحديث عن الرومانتيكية وتجلياتها الفلسفية والأدبية دون التطرق لفلسفة الأنوار عموما، بعدها نتطرق إلى الطريقة التي مثلت بها الرومانتيكية رد فعل على التنوير، مستعرضين رواية "الأبله" التي تعد واحدة من أشهر روايات الأديب الروسي دوستوفسكي، وتمثل تجسيداً نموذجياً للنقد الرومانتيكي للعقلانية الأنوارية.

 

قيم التنوير الأوروبي
تأسس علم الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصادية تحديداً على افتراض أن الإنسان كائن عقلاني تتحدد علاقته بالآخرين وفقاً لمحددات المنفعة والتبادل النفعي
تأسس علم الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصادية تحديداً على افتراض أن الإنسان كائن عقلاني تتحدد علاقته بالآخرين وفقاً لمحددات المنفعة والتبادل النفعي
 من الممكن رد مختلف الاتجاهات التي برزت في عصر التنوير إلى ثلاث مقولات رئيسية كما ذهب إلى ذلك إيزايا برلين في كتابه سابق الذكر "جذور الرومانتيكية"، تتمثل هذه المبادئ في الإيمان بما يلي:

 

أولا: "أن كل الأسئلة الصحيحة يمكن الإجابة عليها"، وإذا كان ثمة سؤال لم نجد له جوابا فذلك يعني أن السؤال إما أنه غير صحيح منذ البداية، أو ربما لا نملك الإجابة عنه حاليا، لكن هذا لا يلغي إمكان اكتشاف إجابته مستقبلا.

 

ثانياً: "أن جميع هذه الأجوبة قابل لأن يُعرف ويُعلّم للآخرين بعد ذلك"، ما يعني أن للحقيقة وجودا موضوعيا خارج الذات، يستطيع أي إنسان تعلّمها وتعليمها في آن.

 

ثالثا: "ينبغي أن تكون كل الأجوبة متسقة بعضها مع بعض، لأنها إذا لم تكن متسقة فستكون النتيجة الفوضى"، وعلى ذلك فإن الحقائق والقيم لا يمكن أن تتصادم، بل يجب أن تمثل في مجموعها اتساقا وتكاملا مثاليا بحيث يصل الإنسان بها إلى عالم مثالي منسجم ومتناغم تماما.

 

كانت هذه المقولات الثلاث هي الافتراضات التي تأسست عليها فلسفة الأنوار الأوروبية، وعلى ضوئها بنت معارفها وعلومها[4] ، فتأسست العلوم الطبيعية على اعتبار أن الطبيعة "تمثل نظاما مستقلا بذاته، من الأشياء والظواهر والسيرورات الخاضعة لقوانين سببية ضرورية، لا نحتاج معها إلى مبدأ خارجي غريب عنها لتفسيرها"[5]، بل إنها تجد تفسيرها من داخلها.

 

انسحبت هذه النظرة العقلانية إلى المجال الإنساني [6]، فتأسس علم الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصادية تحديداً على افتراض أن الإنسان كائن عقلاني تتحدد علاقته بالآخرين وفقاً لمحددات المنفعة والتبادل النفعي، من هذه النظرة أصبح بالإمكان البحث عن المحددات العقلانية للسلوك الإنساني في علاقته بالآخرين.

 

الاحتجاج على التنوير
"إنك امرؤ خالٍ من العاطفة والمشاعر، إنك لا ترى سوى الحقائق وحدها، يا لك من ظالم!"
– اقتباس من رواية "الأبله"

 undefined

مثّلت الحركة الرومانتيكية التي ظهرت أواسط القرن التاسع عشر احتجاجا على قيم عصر التنوير بعقلانيته وتوازنه وإصراره على قبول جميع الأسئلة للإجابة، ورغم صعوبة القبض على تعريف جامع للحركة الرومانتيكية، لأنها تنحو دائما باتجاه الانفكاك عن التصنيف والتأطير داخل قوالب جاهزة، يمكن ردها إلى عدة مبادئ وسمات تشترك فيها جميع الاتجاهات الرومانتيكية بمختلف مشاربها [7].

 

فبالإضافة إلى احتجاجها على سلطان العقل كما طرحه التنوير واتجاهها نحو الروح وما تمثله من مشاعر ملتهبة وأحاسيس مرهفة وعواطف واندفاع نحو الجمال، تقدس الرومانتيكية الحرية والدراما الإنسانية وما تفتحه من آفاق وإمكانيات لا محدودة، وتمجد كذلك حكمة اللايقين والقلق والشك والخطيئة باعتبارها تجليا لحرية الإنسان وعنفوانه [8].

إنها -كما يقول برلين- "النوستالجيا والحنين للعيش في الأماكن النائية خصوصا في الشرق، وفي الأزمنة البعيدة خصوصا في القرون الوسطي، وهي الكآبة الحلوة، والعزلة ومعاناة النفي والإحساس بالاغتراب وعذوبته"، وبجملة واحدة مثلت الرومانتيكية كل ما يمثل نقيضاً للعقلانية الصارمة والضبط والتنظيم الذي يفرغ الإنسان من أهم خصائصه، وهي حريته الإنسانية.

 

بهذا المعنى تعد رواية "الأبله" للأديب الروسي الشهير دوستوفسكي نموذجاً مثالياً للنقد الرومانتيكي لعقلانية التنوير.

 

من هو الأبله؟
أضحت العقلانية في العصر الحديث بمنزلة النظام الذي يحدد ويؤطر ويرسم الحدود بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول
أضحت العقلانية في العصر الحديث بمنزلة النظام الذي يحدد ويؤطر ويرسم الحدود بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول
 إذا طرحنا هذا السؤال على علم النفس فإننا سنجد إجابة واضحة ومحددة، حيث سيخبرنا أنه من يقلّ ذكاؤه عن نسبة 75% وفقا لمعايير علمية صارمة يمتلكها علم النفس، ليأتي بعد المعتوه ثم المجنون [9].

 

هكذا إذًا أضحت العقلانية في العصر الحديث بمنزلة النظام الذي يحدد ويؤطر ويرسم الحدود بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول، كما بيّـن هذا الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في حفرياته في المعرفة خاصة في كتابه  "تاريخ الجنون"، الذي نبش في مفاهيم مثل العقل والجنون مخلخلا البديهية التي تقول بالتناقض التام بين العقل والجنون [10].

 

يوضح فوكو في عمله كيف أن صورة "المجنون" في القرن الثامن عشر، أي بعد أن عرف الإنسان بوصفه كائنا عقلانيا نفعيا، قد تغيرت بحيث بدا المجنون في ذلك العصر شخصا كسولا وغير نافع في خطة التنمية، فنُظر إليه أنه عالة على المجتمع وعلى الصالح العام، ما أدى إلى عزله ونفيه خارج المجتمع من خلال حجزه في المصحات والمستشفيات [11].

 

لكن إن كان بالإمكان قياس معدل الذكاء وفقا لمعايير عقلانية تتسم بالصرامة والدقة كما فعلت العلوم الإنسانية الحديثة، فكيف يمكن قياس المشاعر والقيم التي يحملها الإنسان وتمثل جانبا مهما من جوانب الشخصية الإنسانية؟ هذا بالتحديد ما سيقدمه دوستوفسكي في روايته التي حملت عنوان "الأبله" وتوجه نقدا للمجتمع العقلاني الحديث.

 

"أبله" دوستوفسكي منتقدا للعقلانية
undefined

تدور أحداث رواية "الأبله" لدوستوفسكي حول الأمير ميشكن الذي ينحدر من سلالة ملكية كانت قد حكمت روسيا، لكن شخصيته ومسار حياته لا يشبهان في شيء حياة الأمراء، فهذا الأمير كان قد فقد عائلته في صغره وعانى لفترة طويلة في حياته من نوبات صرع أفقدته بعض قواه العقلية، ما جعل الناس ينظرون إليه بوصفه "أبله" [12].

 

يقدم دوستوفسكي من خلال شخصية الأمير ميشكين نقداً للمجتمع الحديث وما يمثله من قيم عقلنة وضبط وإقصاء، فمن يصفه المجتمع -خاصة أبناء الطبقة الأرستقراطية الحاكمة- بالأبله لم يكن سوى إنسان أراد أن يعيش حياته بكامل مشاعره المتدفقة وحساسيته العالية تجاه الخير والحق والصداقة والقيم النبيلة وأن يكرس نفسه لنشر الفضيلة والحقيقة بين الناس.

 

إن كان بالإمكان قياس معدل الذكاء وفقا لمعايير عقلانية تتسم بالصرامة والدقة كما فعلت العلوم الإنسانية الحديثة، فكيف يمكن قياس المشاعر والقيم التي يحملها الإنسان

إلا أن "الأبله" وهو يمارس حياته بتلقائية وعفوية، وفقا لمبادئه وقيمه وبعيدا عن قواعد المجتمع العقلانية، صاغ من حيث لا يدري أسئلة تحاكم قواعد المجتمع وسلوكياته وعلاقاته النفعية، هذه القواعد نفسها التي ستجعله محل رفض وسخرية [13].

 

في ثنايا النص يقدم الأمير ميشكن تساؤلات أخلاقية وفلسفية عميقة تتعلق بتعريف "الحق" و"القانون" و"العقلاني" و"الطبيعي"، مخلخلا القواعد النفعية العقلانية التي تأسست عليها سلوكيات المجتمع وأفراده، وطارحا حقه في التعامل خارج ما تواطأ عليه المجتمع من قيم عقلانية ونفعية.

 

لكن الأمير ميشكن يجد نفسه في نهاية المطاف وقد حاصره المجتمع حصاراً خانقاً يصرخ بمرارة وأسى:

"لماذا تخلق الطبيعة أفضل الناس لتسخر منهم بعد ذلك؟ هذا ما تعمد إليه الطبيعة: حين أظهرت البشر على الإنسان الوحيد الذي عُدَّ الإنسان الكامل في هذا العالم، عهِدتْ إليه برسالة أن ينطق بأقوال كانت سببا في سفك دماء بلغت من الغزارة أنها لو سُفكت مرّةً واحدة لخنقت الإنسانية! إنها لسعادة أن أموت! ذلك أنّني إذا لم أمتْ فقد يُطلِقُ لساني كذبة رهيبة بدافع من الطبيعة!… أنا لم أفسد أحدًا.. لقد أردتُ أن أحيا لسعادة الناس جميعًا، أردتُ أنْ أحيا لاكتشاف الحقيقة ونشرها، فماذا كانت النتيجة؟ لا شيء! كانت النتيجة أنكم تحتقرونني. هذا دليل على أنّني غبيٌّ أحمق، على أنّني امرؤٌ لا خير فيه ولا فائدة منه، وعلى أنّني قد آنَ لي أن أزول! وحين أزول، فلن أُخلّف ورائي ذكرى: لن أترك صدى، لن أتركَ أثرا، لن أترك عملا! لم أنشر رأيا، لم أُذِعْ قناعة! لا تضحكوا من غبيٍّ أحمق! انسوه! انسوا كلَّ شيء! أرجوكم أنْ تنسوا! لا تكونوا قساةً!" [14].

المصدر : الجزيرة