في ذكرى سايكس بيكو.. لماذا تعادي الدولة العربية شعوبها؟
ورغم مرور أكثر من مئة على اندلاع الحرب الكبرى؛ فإن مخلفات هذا الصراع العالمي، الذي غيّر خارطة العالم، لا تزال تلقي بظلالها على منطقة الشرق الأوسط تحديدا. فأعمال العنف التي ولّدتها لم تنته بعد. حيث أدى ترسيم الحدود عشوائيا على يد قوى استعمارية إلى ترسيخ تركة ثقيلة لم تتمكن منطقة الشرق الأوسط من تجاوزها.
من هنا اكتسبت ذكرى اتفاقية سايكس بيكو أهمية مضاعفة في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة والمآلات التي انتهت إليها دولها، فانكبَّت مراكز الأبحاث والقنوات الوثائقية على إنتاج مئات من المواد والأعمال البحثية والمصورة لدراسة هذا الحدث وفهم تأثيراته الراهنة، وأقيمت العشرات من المؤتمرات والندوات التي تناولت الحرب العالمية الأولى بصفة عامة، والنظام الجديد الذي أنتجته تلك الحرب في المشرق، بحيث بدا أن هذا الحدث راهن وفاعل حتى يومنا هذا [1].
لم تكن اتفاقية سايكس بيكو وحدها المسؤولة عن النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى في منطقة المشرق العربي، والذي نعرفه اليوم، حيث جرت بعدها عدة مؤتمرات واتفاقيات دولية أسهمت في خلق نظام ما بعد الحرب الأولى (اتفاقيتا سان ريمو١٩٢٠ ولوزان ١٩٢٣)[2].
ورغم ذلك فقد احتفظت الذاكرة العربية باتفاقية سايكس بيكو وحدها ودونا عن غيرها من الاتفاقيات الأخرى، ذلك أن الطريقة السرية التي جرى بها إبرام الاتفاقية بين فرنسا وبريطانيا جسَّدت بصورة رمزية كثيفة المؤامرات والمطامع الاستعمارية في المنطقة، والعلاقات الملتبسة والضبابية بين الشرق والغرب.
جاءت ولادة الدول الحديثة من رحم الإمبراطوريات البائدة، وقد كان النموذج الأوروبي القومي للدولة/الأمة هو المعيار المحتذى في تشكُّل تلك الدول الناشئة من رحم الإمبراطوريات، وظهر آنذاك ما بات يعرف دوليا بالحق في تقرير المصير، الذي يعني حق القوميات في تشكيل كياناتها السياسية ودولها الحديثة، إلا أن المشرق شهد مسارا مختلفا وغير طبيعي في صيرورة تشكل دُوَلِهِ الحديثة [3].
في المشرق العربي لم يتسنّ لشعوب المنطقة -والتي كانت بالكاد تلتقط أنفاسها بعد أن خرجت من لظى الحرب العالمية الأولى- اختيار مصائرها وشكل اجتماعها السياسي، ذلك أن المطامع الاستعمارية كانت لها بالمرصاد، فأخذت تقسِّم أراضيها وتعبث بجغرافيا المشرق العربي وفقا لمصالحها الاقتصادية ومطامحها العسكرية.
لم يُكـتَب لمخرجات اتفاقية سايكس بيكو أن تشق طريقها إلى الواقع، نظرا لمستجدَّات الأحداث أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، والتي كان أبرزها سقوط الإمبراطورية الروسية بفعل الثورة البلشفية، وهي التي كانت ضلعا ثالثا في اتفاقية سايكس بيكو، فجاءت معاهدة سان ريمو ١٩٢٠ لتعدل عليها وتحدد مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في بلاد الشام والعراق [4]. فوفقا لمخرجات هذا المؤتمر تم تقسيم بلاد الشام إلى أربع دويلات كما نعرفها اليوم: سورية، لبنان، الأردن، فلسطين. وقد أقرَّ المؤتمر وضع سوريا ولبنان تحت سلطة الانتداب الفرنسي بينما وضِع الأردن وفلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور للحركة الصهيونية في فلسطين.
قاومت الشعوب العربية هذه المخططات التجزيئية، لكن ضعف البنى التحتية وشُحّ المقدرات العسكرية والاقتصادية للشعوب العربية آنذاك حالت دون تحقيقها نتائج ملموسة، ففي معركة "ميسلون" ١٩٢٠ وقف الجيش العربي بقيادة وزير الحربية الشهيد يوسف العظمة أمام القوات الفرنسية، برغم اختلال التوازن العسكري الكبير، وخاضت القوات العربية معركة الواجب كما يجب، لكن الفوارق التسليحية والعسكرية حالت دون إيقاف تقدم الجيش الفرنسي وسيطرته على دمشق، وفي العراق وبسبب عدم إيفاء الحلفاء بالوعود المقطوعة للعرب بنيل الاستقلال كدولة عربية موحدة قامت ثورة العشرين في المراحل المبكرة من الاستعمار البريطاني للعراق وتحديدا في عام 1920، والتي كانت تعبر عن طموح العرب لدولة عربية موحدة[5].
ترتب على هذا التقسيم الاستعماري أنْ حملت الدولة العربية منذ نشأتها عوامل تأزمها وانفجارها، ذلك أنها افتقرت إلى الشرعيتين، التاريخية والاجتماعية على حد سواء [6]. وقد زاد الأمور تأزما أن النخب السياسية في تلك المرحلة -القومية منها والإسلامية- نظرت إلى تلك الدويلات على أنها صنيعة الاستعمار، فانصرفت عن الانشغال بإصلاح واقع الدولة القائمة نحو التبشير بالنموذج المتخيل للدولة واجبة التحقق وفقا لسردياتهم الأيديولوجية، بينما كانت الدولة القُطرية تتضخم بيروقراطيا وعسكريا في واقع الحال [7].
ليست النخب السياسية وحدها التي رفضت التعاطي مع واقع الدولة القائمة، بل إن المفارقة تكمن في أن النخب العسكرية التي تولت زمام الحكم في تلك الدول في حقبة ما بعد الاستعمار -والتي تنحدر من أيديولوجيات قومية- قد نظرت إليها -أي إلى الدولة الوطنية- على أنها ليست سوى كيانات عابرة، وأن المجال العربي لن يلبث أن ينضوي في دولة عربية موحدة، الأمر الذي أدى إلى استحالة وجود أي ممارسة سياسية ممكنة في ظل البنية القائمة، وأجّل الحديث عن إمكانية إحداث إصلاح سياسي معتبر إلى حين تحقق الدولة العربية القومية الموحدة [7].
عن هذه المفارقة بين واقع الدولة العربية القُطرية وبين المثال الأيديولوجي المتخيل للنخب القومية العربية المتمثل بدولة قومية موحدة؛ تحدث المفكر عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الدولة" وتحديدا في فصل "المفارقة الحالية" قائلا: إن "طوبى الدولة القومية الموحدة المهيمنة على النخب العربية نزعت الشرعية عن الدول القُطرية القائمة، يوجد ولاء لكنه غير مرتبط بالدولة القُطرية، ويوجد إجماع لكنه ليس حولها. في الحالة التي نعيشها انفصلت السلطة عن الشرع، والقوة عن النفوذ الأدبي".
ويضيف العروي أيضا: "صحيح أن الدولة القُطرية تعلّم، وتشغّل، وتنظّم -وهذا هو مجال اجتماعيات الدولة القُطرية- إلا أن كل هذه الإنجازات لم تُكسبها ولاءً ولم تنشئ إجماعا حولها، خاصة إذا كانت دعاية النخب المهيمنة على الدولة تعيد باستمرار إلى الذاكرة أنها مرحلة فقط على طريق تحقيق الدولة العربية الكبرى".
نتيجة لغياب رأس المال الرمزي والشرعي عن الدولة القُطرية وغياب الإجماع حولها، نشأت في الواقع العربي أكثر صور "الدولة الحديثة" تحكما وسيطرة وهيمنة، لا سيّما بعد هزيمة الأنظمة العربية أمام العدو الصهيوني ١٩٦٧، وسقوط المصدر الأخير لشرعيتها وهو مواجهة الصهيونية، وفشلها في تحقيق وعود الوحدة القومية والتحرر والتقدم؛ فاتجهت الدولة في علاقتها بالمجتمع نحو النموذج الأمني القمعي بالغ المركزية والسلطوية [6].
في كتابه المهم، والذي حمل اسما معبرا عن هذه المفارقة "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة"؛ قدم عالم الاجتماع السوري برهان غليون نموذجا نظريا لتفسير واقع الدولة العربية المتغولة، وأسباب القطيعة بينها وبين المجتمع، وذلك من خلال النظر في سياقات تشكلها المتعثرة. يقترح غليون إطلاق مصطلح "الدولة التحديثية" على الدولة العربية بديلا عن "الدولة الحديثة"، حيث اتسمت الدولة بالطبيعة الانتقالية فبرزت بوصفها الأداة الأكثر فعالية وقدرة على إخراج المجتمعات من حالة التأخر، الذي كانت تعيش فيه، مقارنة بمعايير العصر، إلى اللحاق بركب الحضارة الغربية وصولا إلى تحقيق حلم الدولة العربية القومية الموحدة.
اتسمت هذه الدولة التحديثية -والحديث لغليون هنا- بعدة سمات؛ فهي من جهة أولى: "دولة المركزية الشديدة والسلطة المطلقة" وهو ما يتناسب مع وظيفتها التحديثية، ففي سبيل استدراك التأخر التاريخي الذي يَسِمُ الواقع العربي قامت الدولة على مركزية الوظائف الاجتماعية والاستئثار بها، فحرمت المجتمع من حقه في بناء مؤسساته المدنية والاجتماعية، وأبقته بذلك عاريا أمام غول الدولة، وهي من جهة أخرى "دولة غير تمثيلية وغير ديمقراطية"، وهذا يرجع إلى سياقات تشكلها التاريخية والطبيعة الاستثنائية لها، حيث قامت على سردية الاستقلال ومواجهة العدو وتحقيق وعود التحرر والتقدم وأنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؛ فأجلت كل حديث عن الإصلاح والتمثيل السياسي لحين استكمال هذه الوظيفة التاريخية.
فشلت الدولة العربية في تحقيق وعودها، وقد أدى الرهان المتزايد عليها إلى "انفصالها الكامل عن المجتمع وسيطرتها الشاملة عليه، كما ولّد نزوعا مستمرا لدى النخب المسيطرة عليها نحو التغول على المجتمع والاستهانة بإرادته ووجوده قبل الانقلاب عليه"، واستغلال تفتته، لبناء نظام تسلطي يستخدم الدولة وسيلة للسيطرة، وبالنتيجة خلقت الدولة مجتمعا مسلوب الإرادة أمامها [8].
يرى ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن "الدولة صورة للعمران"، والعمران عند ابن خلدون هو الطور الاجتماعي والحضاري الذي تبلغه أمة من الأمم. لكن الدولة العربية في تشكلها وسيرورتها كانت غريبة وبعيدة كل البعد عن مجتمعاتها العربية، ومع مرور الزمن ازدادت الفجوة بين الأنظمة الأقلوية التي تولت زمام السلطة والشعوب التي حكمتها، وعندما خرجت الشعوب للمطالبة بالحرية والديمقراطية وتحرير المجال العام من هيمنة الدولة لم تجد سوى المزيد من القمع والتوحش. تحول مأزق الشرعية للدول التي خلّفها الاستعمار إلى إشكالية بنيوية ومصدر لعلاقة متوترة ومختلة بين النخبة الحاكمة والشعوب، فكانت مآلات هذه الدولة التي نعيشها اليوم ليست سوى نتيجة لفساد المقدمات التي تأسست عليها دول ما بعد الاستعمار [6].