شعار قسم ميدان

المستعصم العباسي.. هل يمكن للمثقف الانتصار دون قوة؟

ميدان المستعصم

"كان ضعيف الرأي، قليل العزم، كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول، وكان إذا نُبّه على ما ينبغي أن يفعله في أمر "التاتار" يقول: أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلتُ لهم عن باقي البلاد"!
 

المؤرخ ابن العبري قي حديثه عن الخليفة المستعصم: هو أبو أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المنصور المستنصر بالله بن محمد الظاهر بأمر الله بن أحمد الناصر لدين الله الذي يعود نسبه إلى هارون الرشيد، وُلد ببغداد سنة (609هـ/1312م) وقُتل على يد "التتار" سنة (656هـ/1258م).

 

نشأة المستعصم وأخلاقه
undefined


نشأ المستعصم بالله حافظًا لكتاب الله، متعلمًا على كبار أشياخ عصره في العلوم الشرعية واللغوية والنقلية بصورة عامة؛ وقد أُقيم له احتفال مهيب لما ختم القرآن الكريم، وهو في سن الحادية والعشرين من عمره.

 

أُثر عن المستعصم حسن الخلق، وسلامة الصدر، وطيب المشرب؛ فقد "كان كريما، حليما، ديّنا، سليم الباطن، حسن الهيئة"[1]. هذه الأخلاق الطيبة يؤكدها جل المؤرخين؛ بمن فيهم القريب من الاتجاه الشيعي كابن الطقطقى الذي يقول: "كان المستعصم رجلاً خيّراً، متديناً، لين الجانب، سهل العريكة، عفيف اللسان، حمل كتاب الله تعالى، وكتب خطاً مليحاً، وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة"[2].

 

والأمثلة على هذه الأخلاق والتربية الحسنة أكثر من أن تُحصى؛ لعل أبرزها الرحمة والرأفة؛ فقد عزم على عدم السير على طريقة من سبقه من الخلفاء في حبس أولادهم وكبار الأسرة العباسي[3]، ومنها ما نقله ابن الطقطقى عن أمين المكتبة التي كان المستعصم يأتي إليها ويقرأ فيها؛ حيث نقل عنه قوله: "كنتُ مرة جالساً في حجرة صغيرة، وأنا أنسخ، وهناك مرتبة برسم الخليفة، إذا جاء إلى هناك جلس عليها، وقد بسطت عليها ملحفة لترد عنها الغبار، فجاء خويدم صغير ونام قريباً من المرتبة المذكورة واستغرق في النوم، فتقلب حتى تلفف في تلك الملحفة المبسوطة على المرتبة، ثم تقلب حتى صارت رجلاه على المسند، قال: وأنا مشغول بالنسخ، فأحسستُ بوطء في الدهليز، فنظرت، فإذا هو الخليفة وهو يستدعيني بالإشارة ويخفف وطأه، فقمت إليه منزعجاً وقبلت الأرض، فقال لي: هذا الخويدم الذي قد نام حتى تلفف في هذه الملحفة وصارت رجلاه على المسند؛ متى هجمت عليه حتى يستيقظ ويعلم أني قد شاهدته على هذه الحال تتفطر مرارته من الخوف، فأيقظه أنت برفق فإني سأخرج إلى البستان ثم أعود. قال: وخرج الخليفة فدخلت إلى الخويدم وأيقظته فانتبه؛ ثم أصلحنا المرتبة ثم دخل الخليفة"[4].

 

إن هذه الأخلاق العالية التي شبّ عليها المستعصم لم يكن يعضدها أهم صفات التخلق بالإمارة والزعامة؛ وهي الهمة والذكاء والحنكة، والقدرة على الخلافة وتكاليفها وتحدياتها، ولذلك انصب اهتمام رجال الدولة على اختياره؛ ليكون أُلعوبة يتحكمون فيه بأهوائهم، دون اختيار أخيه أو عمه الأقوى؛ قال اليونيني: "كان للمستنصر بالله أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول: إن ملكني الله تعالى أمر الأمة لأعبرن بالعساكر نهر جيحون، وأنتزع البلاد من يد التتر، وأفنيهم قتلاً واسراً وسبياً؛ فلما توفى المستنصر بالله لم ير الدوادار والشرابي (وكانا غالبين على الأمر) ولا بقية أرباب الدولة تقليدَه الخلافة؛ خوفاً منه، ولما يعلمون من استقلاله بالأمر، واستبداده بالتدبير دونهم، وآثروا أن يليها المستعصم بالله؛ لما يعلمون من لينه وانقياده؛ ليكون الأمر إليهم. فاتفق رأي أرباب الدولة على تقليد المستعصم بالله الخلافة بعد أبيه؛ فتقلدها واستبدوا بالتدبير[5].

 

غموض في اختياره خليفة!

undefined


والمتأمل في خلافة المستنصر (والد المستعصم) يجدها راقية إلى درجة كبيرة؛ فقد اهتم بالبناء والتشييد، والتقرب من الرعية، ومجاهدة "التتار" والعلاقات الخارجية الممتازة، وحرصه -إلى حد ما- أن يربي ابنه المستعصم تربية جيدة تجعله على درجة مقبولة لتولي أعباء الخلافة.

 

لكن من الملاحظ أن جل المصادر التاريخية لم تذكر أن المستنصر قد عَهِد لولده عبد الله المستعصم بالعهد ليكون خليفة من بعده؛ وحتى اللحظة الأخيرة من حياته لم نجده يميل إلى المستعصم؛ ولعل هذا الاطمئنان، وعدم التسرع قد يُرجح رواية المقريزي التي يؤكد فيها أن المستنصر مات مقتولاً بمبضع مسموم[6]؛ وقد لا يُستبعد من هذه الجريمة أرباب الدولة وكبارها؛ كإقبال الشرابي والدوادار وابن العلقمي أستاذ دار الخلافة والمشرف على القصور آنئذ!

 

يبدو أن عملية قتل المستنصر كان الهدف من ورائها إقصاء أخيه أو ابنه الخفاجي الذي أُثرت عنه القوة والحنكة المطلوبة لتقلد الخلافة في ظل تلك الظروف العصيبة التي كانت تمر بها الأمة؛ وعلى رأسها التحدي المغولي الذي كان على احتكاك وصراع مباشر بالخلافة العباسية بعد القضاء على الدولة الخوارزمية.

 

ومن الملاحظ -أيضًا- أن الأسرة العباسية، وعلى رأسها إخوة المستنصر بالله وأحد أعمامه الباقين لم يبايعوا المستعصم بالله، وهذا ما ذكره الإربلي بقوله: "استُدعي أحد أعمامه؛ وهو أبو الفتوح حبيب، وأُوهم أن جماعة إخوته حضروا وبايعوه، فلما حضرَ لم يرهم فبايع وعاد إلى داره، ثم طُلب الباقون للمبايعة فامتنعوا… وأما أعمامه، وكذا عم أبيه الممتنعون من الحضور والمبايعة؛ فأُشير باستدامة غلق باب الفردوس الذي يحتوي على دورهم؛ بحيثُ لا يدخل إليهم طعام ولا غيره، فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، فسألوا المبايعة وأُحضروا فبايعوا"[7].

وهذا النص الذي ذكره الإربلي في غاية الأهمية؛ إذ يبين لنا أن المستعصم لم يكن مرغوبًا فيه من الأسرة العباسية ذاتها؛ لوهنه وضعفه، أو لأنه لم يكن الابن الأكبر للمستنصر الذي أرادوه خليفة؛ ومن ثم لعل الأخ الآخر عبد العزيز كان هو الأكبر والموسوم بالخفاجي!

 

استأثر رجال الدولة على الخليفة الضعيف، فقيادة الجيش العباسي كانت منوطة بالقائد مجاهد الدين الدوادار، والوزارة في يد ابن العلقمي الذي حرص على مدار سنوات حكم المستعصم منذ سنة 643هـ وحتى سقوط بغداد على يد التتار سنة 656هـ على تشجيع المستعصم للتقتير على الجيش ومعداته وسلاحه، الأمر الذي أدى إلى تسريح أعداد كبيرة من الجيش العباسي، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى الخسارة الفادحة وسقوط بغداد.

 

استئثار ودمار!
حين وقع المستعصم في الأسر، ومُنع عنه الطعام، وشعر بالجوع؛ أمر هولاكو أن تُقدم إليه الكنوز التي وجدوها في قصره؛ فقال له المستعصم:
حين وقع المستعصم في الأسر، ومُنع عنه الطعام، وشعر بالجوع؛ أمر هولاكو أن تُقدم إليه الكنوز التي وجدوها في قصره؛ فقال له المستعصم: "إن الكنوز لا تُزيل جوعًا".
 لقد لعب ابن العلقمي على وتر شُحّ المستعصم وحبه للمال، من المفارقة؛ أن المستعصم الذي كان شغوفًا بالقراءة والمطالعة في مكتبة دار الخلافة لساعات طويلة، لم تتمرّس ثقافته بواقع الخبرة العملية؛ بل رافقها ضعف بادٍ في الشخصية؛ ما استثمره رجال الدولة من الأمراء والوزراء لصالحهم؛ لذلك؛ حين وقع المستعصم في الأسر، ومُنع عنه الطعام، وشعر بالجوع؛ أمر هولاكو أن تُقدم إليه الكنوز التي وجدوها في قصره؛ فقال له المستعصم: "إن الكنوز لا تُزيل جوعًا". فرد عليه هولاكو ساخرًا: "إذا كانت الكنوز لا تسد الرمق، وإذا كانت لا تحفظ الحياة؛ فلماذا لم تعطها لجنودك ليحموك، أو إلى جنودي ليُسالموك"[8].

 

لقد عدّد الإربلي للمستعصم مناقب جمة، وأخلاقًا حميدة، لكنه أصرّ على أن ضعف الخليفة وسوء تقديره وضياع هيبته، ولهوه وعبثه -في أشد اللحظات وأخطرها- كان السبب في مآله السيء قال: "إنه كان مغرمًا بسماع الملاهي؛ محبًا للهو واللعب، يبلغه أن مغنية أو صاحب طرب في بلد من البلاد؛ فيراسل سلطان ذلك البلد في طلبه، ثم وكل أموره الكليات إلى غير الأكفاء، وأهمل ما يجب عليه حفظه والنظر فيه، فأنفذ الله فيه قضاءه وقدره، وأجرى عليه ما قدّره"[9].

 

وهي ذات السوأة التي نقلها غير الإربلي من المؤرخين؛ حتى ذكروا له موقفًا مخزيًا وقت هجوم المغول على العراق؛ فقد طلب المستعصم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل "جماعة من ذوي الطّرب، وفي تلك الحال وصل رسول السلطان هولاكو إليه يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار، فقال بدر الدين: انظروا إلى المطلوبين، وابكوا على الإسلام وأهله"[10]!

  undefined

وخلاصة حاله يذكرها ابن العبري بقوله: "كان ضعيف الرأي، قليل العزم، كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول، وكان إذا نبّه على ما ينبغي أن يفعله في أمر "التاتار" يقول: أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلتُ لهم عن باقي البلاد، ولا -أيضًا- يهجمون عليّ وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله"[11].

لم يقنع المغول ببغداد فقط، فلم يرضَ هولاكو إلا برأس المستعصم في نهاية المطاف، وهو ما تم له. إن التاريخ سيقف طويلاً أمام هذه الشخصية المركّبة، التي جمعت أخلاقًا وسموًا، وثقافة وعلمًا، ورهافة حسٍّ وحبا للطرب، مع الضعف والحماقة أمام إحدى أخطر الكوارث في تاريخ الإسلام!

المصدر : الجزيرة