شعار قسم ميدان

ماذا صنع قُطُز في عام حكمه؟

midan - قطز

"كان السلطانُ الملكُ المظفّر – رحمه الله- رجلًا شجاعًا مقدامًا حتى قيل: إنه لم يركب الفرس قبله من التُّرك أفرس ولا أشجع منه، ولم يكن يُوصف بكرم ولا شُحٍّ، بل كان مقتصدًا في ذلك، وهو أول من اجترأ على التتار، وكسَرهم، وأخرق ناموسهم بعد جلال الدين خوارزم شاه."

– المؤرخ اليُونيني في وصفه للسلطان المظفَّر سيف الدين قُطُز (ت 658هـ/1260م)

 

اشتُهر سيف الدين قطز في التاريخ بقاهر المغول، وبطل معركة عين جالوت، وأحد كبار القادة العسكريين في تاريخ العسكرية الإسلامية. لقد حاز قطز شهرته وهو السلطان المملوكي الذي لم تتجاوز فترة حُكمه العام الواحد، تنبع هذه الشهرة الطاغية من عين جالوت بلا شك، تلك البقعة الفلسطينية التي أوقفت المد المغولي في العالم الإسلامي وربما على العالم الغربي أيضًا!

 

قطز: حلم يأخذ الفتى إلى السلطنة
 (pixabay.com)
 (pixabay.com)


كان قطز كمن سبقه ولحقه من سلاطين المماليك في مصر والشام، مملوك جيء به قسرًا من وسط آسيا ليُباع ويُشترى في أسواق النخاسة في الشام أولاً ثم مصر فيما بعد. لقد رأى الأيوبيون في العنصر التركي القادم من هذه الأصقاع شدة وبأسًا وقوة لافتة في المعارك، خاصة منذ عصر السلطان الأيوبي الكامل محمد بن العادل (ت 635هـ/ 1237م) وابنه الصالح أيوب (ت 647هـ/1249م)، فالمماليك الذين تمكنوا في فترة وجيزة من حكم هذا الأخير للفت الأنظار في المشرق الإسلامي كله، ومقاومة الحملة الصليبية السابعة على مصر، في لحظة مفصلية تمكنوا فيها من أسر ملك فرنسا العظيم لويس التاسع، والسلطان الأيوبي على فراش الموت، ووريثه الشرعي تورانشاه هناك في حصن كيفا (بمحافظة بطمان بجنوب تركيا الآن).


لقد انتهى المطاف بالفتى قطز في القاهرة، فاشتراه الأمير عز الدين أيبك التركماني حتى صار "أخصّ مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني -رحمه الله- به، وأقربهم إليه، وأوثقهم عنده"([1])، وقد ترقّت به مهاراته بالجيش المملوكي حتى صار من أكبر أمرائه فأضحى الرجل الثاني خلف قائد الجيش فارس الدين أقطاي المستعرب، ثم تم تعيينه نائبًا للسلطنة زمن السلطان المعز أيبك وولده المنصور علي، ولقد وصف لنا المؤرخ قطب الدين اليونيني بعض صفات قطز فقال: "كان السلطان الملك المظفّر -رحمه الله- رجلًا شجاعًا مقدامًا حتى قيل: إنه لم يركب الفرس قبله من الترك أفرس ولا أشجع منه، ولم يكن يُوصف بكرم ولا شح، بل كان مقتصدًا في ذلك، وهو أول من اجترأ على التتار، وكسرهم وأخرق ناموسهم بعد جلال الدين خوارزم شاه"([2]).

 

لقد كان قطز من كبار الأمراء المعزّية، ومن المعروف في التاريخ المملوكي أن الانتماء للعصبية المملوكية كان أصلاً من الأصول التي تقوم عليها الفلسفة السياسية والعسكرية للدولة والجيش، فالملك الصالح مماليكه المنسوبون إليه "الصالحية"، والسلطان المعز أيبك المماليك المنسوبون إليه "المعزّية"، وهكذا نجد هذه النسبة طوال العصر المملوكي، وكانت الترقية في وظائف الجيش والدولة تراعي في الاعتبار هذه النسبة إلى الأستاذ/الأمير أو السلطان، كما تُراعي الزمالة "الخشداشية" داخل الفرقة المملوكية.

 

لقد كان الصراع والتحالف بين الطوائف المملوكية سمة من السمات اللافتة في ذلك العصر، ومبدأ "الحكم لمن غلب"، كان هو المبدأ الضمني الحاكم لتلك السياسة، ولقد تربع المماليك والأمراء الصالحية على عرش الدولة المملوكية حين خلفوا سيّدهم الصالح أيوب وعيّنوا المعز أيبك الصالحي سلطانًا على مصر، واستنّ المماليك العزّية بسنة الصالحية في هذا الشأن، فسعوا حثيثًا للقضاء على قوة الصالحية التي كانت طاغية في مفاصل الدولة والجيش المملوكي، ونجحوا في ذلك حين خلف قطز سيده أيبك في حكم مصر، وهرب الصالحية إلى الأيوبيين في الشام، لكنه على أية حال كان استثناء، وعاد الصالحية مرة أخرى للعرش بعد مقتل قطز، فتولى منهم ركن الدين بيبرس وسيف الدين قلاوون.

تبين لنا الروايات أن قطز حلُم منذ صغره مملوكًا أنه سيتولى حكم مصر، وحين رواها على أصدقائه المماليك سخروا منه كثيرا، لكن يبدو أن الحلم كان صادقًا
تبين لنا الروايات أن قطز حلُم منذ صغره مملوكًا أنه سيتولى حكم مصر، وحين رواها على أصدقائه المماليك سخروا منه كثيرا، لكن يبدو أن الحلم كان صادقًا
 

والحق أن سيف الدين قطز هو الذي أُنيط به القضاء على كبير الأمراء البحرية الصالحية فارس الدين أقطاي فقتله، وشرّد مِن خلفه أغلب الأمراء البحرية الصالحية من مصـر فنزحوا إلى الشام منذ عام 652هـ/1254م وظلّوا بها حتى بدايات العام 658هـ/1260م، وهو أيضًا الذي وقف أمام الهجومين الأيوبيين على مصـر في عامي 655هـ و656هـ المتحالفين مع المماليك البحرية، ونجح في محاولات استعادة الأيوبيين مجدهم وسلطانهم فيها، وهو الذي رتّب الأوضاع الداخلية لمصر في أشد مراحلها اضطرابًا عقب مقتل السلطان أيبك، فعيّن ولدَه المنصور علي بمساعدة زملائه من المماليك المعزية سُلطانًا على مصـر، فأصبح مدبّرًا للدولة داخليًا، وحافظًا لمصالحها الخارجية.

 

لقد كان الحلم يراود الفتى منذ صغره بالسلطنة والمكانة المرموقة، ولدينا بعض الروايات التي تناقلتها عدة مصادر تاريخية كانت قريبة من عصـر قطز مثل «ذيل مرآة الزمان» للمؤرخ اليونيني (ت726هـ/1326م) و«كنز الدرر» لابن أيبك الدواداري (ت بعد 736هـ/ بعد 1336م)، وكلاهما ينقلان عن المؤرخ شمس الدين بن الجزري (ت739هـ/1339م) في تاريخه الموسوم بـ«تاريخ حوادث الزمان».

 

تخبرنا هذه الروايات عن رجل دمشقي اسمه الحاج علي الفرّاش تقابل مع قطز صغيرًا في مشهد لطمه فيه أحد أسياده في دمشق، فأخبرنا قائلاً: "أتيتُه وهو يبكي بعد ركوب أستاذه، فقلتُ له: ما هذا البكاء العظيم، من لطشة تعمل هذه العمايل؟ فلو وقع فيك جرح سيف أو نشّاب "سهم" كيف كنت تصنع؟ فقال: والله يا حاج، ما بكائي وغيظي من لطشة، فإن السيوف والله ما تعمل فيّ، وإنما غيظي على لعنته لوالديّ وأبي وجدي، وهم والله أخير من آبائه وجدوده. فقلتُ له: ومن هو أبوك أنت ومن جدك وأنت مملوك تركي كافر؟ فقال: لا تقل هكذا يا حاج، والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلم إلى عشـر جدود، أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارزم شاه السلجوقي، ولابد ما أملك مصر وأكسر التتار. فقال الحاج على: فضحكتُ من قوله وطيبته، وتقلبت الأحوال إلى أن ملك مصـر وكسـر التتار، ودخل قطز دمشق وطلبني، فأحضرني وأعطاني خمسمائة دينار، ورتّب لي راتبا جيدا، رحمه الله"([3]). وهي الرواية التي لا ندري مدى صحتها، والتي تنسج على بطلنا منابت العز، وأرومة النسب العالي!

 

بل لدينا رواية أخرى تبين لنا أن قطز الصغير أو محمود الخوارزمي حلُم منذ صغره مملوكًا أنه سيتولى حكم مصر، وحين رواها على أصدقائه المماليك سخروا منه كثيرا، لكن يبدو أن الحلم كان صادقًا [4]

 

استراتيجية قطز في عامه الأول
 (pixabay.com)
 (pixabay.com)

ارتقى قطز إلى عرش السلطنة في أوائل سنة 657هـ/1259م والمغول قد سيطروا على العراق، وفي طريقهم للسيطرة على الشام، الأمر الذي كان يعني سيطرتهم اللاحقة على مصر؛ لذا لم يكن أمامه إلا اتخاذ طريقة رشيدة وسديدة في الحكم، يقوي بها موقفه الداخلي، ويرفع بها همم الجيش والمماليك لمواجهة هذه الخطر الفاتك!

 

لقد سعى قطز إلى تعيين الشخصيات شديدة الكفاءة في المناصب العليا؛ فأبقى على قائد الجيش المحنّك فارس الدين أقطاي المستعرب، وهو القائد الملهم الذي ظل في منصبه هذا منذ سلطنة زميله أيبك وحتى سلطنة الظاهر بيبرس  فيما الذي أبقاه في منصبه لعدة أعوام احترامًا وتقديرًا لخبرته العسكرية، وعيّن وزيرًا جديدًا هو الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير وكان رجلًا بليغًا فصيحًا ذا خبرة في الشئون الإدارية ورئاستها، وقد ظل أيضًا في منصبه حتى بدايات سلطنة الظاهر بيبرس([5])، وغيرهم من العناصر التي رأى أنها تحقق عاملي الكفاءة والأمانة.

 

والأمر المهم في إطار ترتيب البيت الداخلي الذي قام به قطز أنه قَبل الصلح مع الأمراء المماليك البحرية الهاربين أصلاً من بطشه، وعلى رأسهم بيبرس وقلاوون وغيرهم، وقد اضطروا إلى مغادرة دمشق إلى غزة بسبب ضعف الأيوبيين وهجوم المغول. لقد أرسل كبير هؤلاء الأمراء البحرية ركن الدين بيبرس البندقداري الذي سيصبح سلطانًا فيما بعد برسالة عاجلة في شهر ربيع الأول سنة 658هـ إلى السلطان قطز يطالبه بتوحيد الجبهة المملوكية ضد الخطر المغولي الجارف، الأمر الذي قابله قطز بالموافقة والترحاب والتفهم ([6]).

 

وتعدى الصلح لكونه مجرد حدث عابر إلى استقبال حافل لبيبرس وصبحه في 22 ربيع الأول سنة 658هـ/1260م، وأُسكن بيبرس في "دار الوزارة" في مصر وهي الدار التي كانت سُكنى الملوك والأمراء الأيوبيين قبل بناء قلعة الجبل، وصارت من بعدهم منزل كبار السفراء والأمراء والملوك، وتم تعيين هؤلاء الأمراء العائدين في مناصب قيادية عسكرية([7])  لخبرتهم العسكرية، مما كان له أكبر الأثر في إصلاح الجرح الغائر بين المماليك المعزّية والصالحية ولو إلى حين!

 

في مقال قادم سنقف مع معركة عين جالوت والتكتيكات العسكرية والاستخبارية التي استخدمها المماليك، وكيف تمكنت قوة إسلامية من إيقاف المد المغولي التتري في العالم الإسلامي مذ بدأ ذلك الغزو قبل 40 سنة من عين جالوت، كما سنقف بهدوء مع الأسباب الحقيقية التي أدت إلى مقتل السلطان المظفر سيف الدين قطز على يد ركن الدين بيبرس.

المصدر : الجزيرة