كيف نظر الشيخ رشيد رضا للعداء بين العرب والترك؟
في العام 1909م كتب الشيخ رشيد رضا عدة مقالات عن العلاقات بين العرب والترك عقب الانقلاب الحاصل على السلطان عبد الحميد الثاني من قبل المنتمين لجمعية الاتحاد والترقي من المدنيين والعسكريين على السواء، مستجليا في هذه المقالات أسباب سوء التفاهم الحاصل بين الفريقين حينئذ، وأولها وأخطرها الجهل وبث الشائعات، لكن رشيد رضا لم يكن يدرك كيف ساعد الاتحاديون على بث الشائعات، وبدأوا في اتخاذ سياسات تعسفية ضد العرب، وكيف أثرت في المقابل هذه الشائعات والإجراءات في نفوس العرب والترك على السواء بالسلب وسوء الظن.
لقد ذهب رشيد رضا إلى إسطنبول "الأستانة" محاولا وأد الخلافات التي كانت تتصاعد حينذاك بين الفريقين؛ لأنه كان يدرك أن بقاء واستمرار الدولة العثمانية قوية في وجه عواصف الفوضى والقوة الأوروبية، إنما يكون بواسطة التفاهم والوحدة بين أعراق وأجناس هذه الدولة، ولقد كان الأوروبيون يحتلون شطرا من البلدان العربية آنذاك، وكان من مصلحتهم أيضا نفخ الصراع بين الطرفين، لزيادة الفرقة، وبث الشقاق، وكانت بعض الجرائد تساعد على ذلك من باب الدعاية والتضخيم كما يقول الشيخ رشيد رضا، وهو في هذا المقال يستعرض بعض الحوادث، ليقف بنفسه على أسباب سوء التفاهم، ثم إنه يقدم هذا المقال الذي نُشر أولا في جريدة "إقدام" العثمانية ناصحا أولي الأمر من الاتحاديين الذين انقلبوا على السلطان عبد الحميد الثاني، وهم الذين كان يظن رشيد رضا فيهم خيرا حينذاك باعتبارهم قضَوا -في نظره- على "الاستبداد الحميدي"، الذي يشير إليه في ثنايا هذا المقال.
وقد عرَّفنا في تقرير سابق بالشيخ الإمام محمد رشيد رضا صاحب جريدة المنار، اللبناني الأصل، المصري الوفاة في العام 1935م، وموقفه المناوئ من السلطان عبد الحميد الثاني وأسبابه، وقد كانت المنار في عصره جريدة تُعنى بالإصلاح الإسلامي، وبالوحدة بين الأقطار العربية وغيرها في ظل دولة العثمانيين، بيد أنه سرعان ما عرف حقيقة الاتحاديين الذين ورّطوا الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم تقسيمها، ومناوأتهم للعرب، فذهب يدعو إلى الوحدة بين الأقطار العربية في العقد أو العقدين الآخيرين من عمره.
والحق أن المنار واحدة من أهم نوافذ التأريخ للحقبة الحديثة من تاريخ المنطقة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، ومن المهم للغاية أن نقف مع هذه المجلة نستعرض أهم ما كان يدور فيها من قضايا لا تزال -للغرابة الشديدة- أصداؤها باقية بعد مائة عام، فإلى ما كتبه رشيد رضا.
تلك قوانين الأخلاق وسنن الاجتماع التي تسير عليها الأفراد والأقوام، فالعرب والترك هما الصنوان في شجرة الملة الحنيفية، والأخوان الشقيقان في الجامعة العثمانية، والركنان الركينان لبناء الخلافة الإسلامية، فالرابطة بينهما جديرة بأن تبقى دائمًا كما وصفها كمال بك نامق زعيم النهضة الأدبية في الترك بقوله: (إن كان يطمع أحد في حلها فهو الشيطان، وإن كان يقدر عليه أحد فهو الله) .
هذا ما كان، وهذا ما يجب أن يكون إلى ما شاء الله. ولكن وجد شيطانان لا شيطان واحد يطمعان في حل الرابطة المتينة بين العنصرين اللذين امتزجا كامتزاج الأكسجين والإدروجين في تكون الماء، أو الأكسجين والنيتروجين في تكون الهواء زانك الشيطانان هما شيطان السياسة الأوروبية وشيطان الجهل في كثير من أفراد العنصرين، ولَكل واحد من هذين الشيطانين شر من شيطان الجن.
إن هذا العاجز كاتب هذا المقال ربما كان من أعلم الناس بقوادم هذه المسألة وخوافيها وهزلها وجدها؛ لأنني جئت مصر منذ اثنتي عشرة سنة (في يناير سنة 1898م)، فكنتُ أشتغلُ فيها بالدعوة إلى الإصلاح الإسلامي جهرًا، من حيث أشتغلُ بالسياسة العثمانية سرًّا، وإن مصر في هذا العصر لهي مرآة الشرق والغرب، بما فيها من الحرية المطلقة، والشعوب المختلفة، والجرائد الحرة، والاجتماعات المباحة، فالمقيم فيها يسهل عليه أن يعرف من أحوال البلاد العثمانية وسياسة الدول فيها ما لا يعرفه أهل الآستانة ولا غيرهم من المقيمين في الولايات، حتى في هذا العصر عصر الدستور (1908- 1918م)، فماذا نقول في عصر الاستبداد القريب: عصر الحجر على المطبوعات والختم على الأفواه، والمنع من الاجتماع والرعب من ذكر بعض الأسماء والألقاب، والعقاب الشديد على فلتات اللسان، وزلات الأقلام؟!
قضيتُ أكثر من أسبوع في هذه العاصمة لا أقابل أحدًا من أولي الأمر ولا من أصحاب الجرائد، وإنما كان همي فيها محصورًا في اكتشاف الآراء، واستخراج مخبآت النفوس، ومكنونات الصدور، في الأمور العامة، ومسألة سوء التفاهم بين الترك والعرب خاصة، فرأيتني بعد أن وقفتُ على كثير من المسائل والآراء، وما فيها من الأغراض والأهواء، لم أزدد علمًا بأصل المسألة، وإنما أضفت إلى ما عندي جزئيات جديدة من الحوادث والوقائع تؤيد الأمر الكلي، ولا تنقض منه شيئًا.
فالأمر الذي يجب التصريح به بالإجمال، قبل بيان الأسباب والنتائج بالتفصيل، والذي يجب أن يعلم وأن يعمل به، هو أنه يوجد شيء من سوء التفاهم بين العنصرين تخشى عاقبته إن لم يتدارك في الحال، وأَنَّ كبراء الدولة وقادة الأفكار في العاصمة ليسوا على بينة منه، وأستشهد على ذلك شهيدين قريبين: أحدهما: فتنة الشام في هذا العام، وثانيهما: ما نشر في جريدة (إقدام) من خبر اتحاد أمراء جزيرة العرب لأجل تكوين دولة عربية!
أما الأول الذي استدل به على أن حكومة العاصمة ليست على بينة من أحوال الولايات العربية، فهو أن بعض الوشاة في دمشق الشام، بلغوا هذه الحكومة بتقرير من تقاريرهم التي اعتادوها في زمن الحكومة الحميدية (السلطان عبد الحميد تولى الحكم 1867 – 1909م) بأن أفرادًا معينين يكونون دولة عربية وخلافة جديدة، فبادرت الحكومة الدستورية إلى التحقيق واستنطاق المتهمين بهذه الجناية جهرًا، وكانت الحكومة الحميدية تفعل ذلك في شأنهم وشأن أمثالهم سرًّا، وهم أفضل علماء الشام وأخلص المخلصين من أحرارها للحكومة الدستورية.
هم الذين كانوا مضطهدين في الدور الماضي، فلما جاء الدستور ظنوا أن زمن اضطهادهم قد مضى، وجاء الزمن الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم، ويُعرف فيه للمخلصين إخلاصهم، وكانوا هم السابقين إلى مقاومة الرجعيين؛ إما ببذل نصائحهم وعلومهم كالشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال الدين القاسمي، وإما ببذل أموالهم ونفوذهم كعبد الرحمن بك اليوسف. والسبب في وقوع هذا الغلط عدم الوقوف على حقيقة الأحوال؛ ودليل ذلك أن ناظر الداخلية لم يلبث أن أصدر أمرًا حين علم بالحقيقة من مدة قريبة؛ بترك التحقيق عن المتهمين بالباطل، وجعل المسألة كأن لم تكن شيئًا مذكورًا. ولكن تلك الإهانة التي أصابت أولئك المخلصين؛ بسبب ما ذكرنا من عذر الحكومة قد تنسب إلى سوء القصد أو تضعف الثقة بالحكومة الدستورية -لو لم تتداركها- وسنبحث في طريق معرفة الحكومة والجرائد في العاصمة لأحوال الولايات في نبذة أخرى من هذا المقال.
وأما الأمر الثاني: وهو ما أستدل به على عدم معرفة الجرائد وقرائها هنا بأحوال البلاد العربية، فهو تصديق ما نشرته جريدة (إقدام) مترجمًا عن جريدة (الاتحاد العثماني) : من اتحاد أمراء العرب وشيوخهم في الجزيرة، واهتمام الناس هنا بذلك، وهذا ما حملني على زيارة هذه الجريدة ومكاشفة مديرها الفاضل بحقيقة الأمر في ذلك الخبر، والاتفاق معه على كتابة مقال في بيان ما عندي من الصواب في هذه المسألة، وفي المسألة الكبرى التي تعد هذه فرعًا من فروعها؛ وهي مسألة سوء التفاهم بين العرب والترك، وما يجب من طرق تلافيه بعد معرفة أسبابه، وقد شكرت للرصيف الكريم قبوله مني ما أكتب وترجمته ونشره في جريدته.
لمسألة اتفاق أمراء الجزيرة أصل عرفته من أوثق المصادر وأصحها؛ وهو أن شيخ لحج (ويلقب هناك بسلطان لحج في اليمن) قد كتب كتابًا إلى بعض أمراء العرب وشيوخهم، كإمام الزيدية في اليمن، والشريف أمير مكة في الحجاز وغيرهما، وأرسله مع رسل من قبله يحملون بعض الهدايا، وهي تتضمن الدعوة إلى المذاكرة في الاتفاق على حفظ جزيرة العرب من العبث باستقلالها ولو من قبل الدولة العلية!
ولكن لم يجبه أحد إلى دعوته، ولا حصل اتفاق بين أولئك الأمراء، ولا اتفاق على الاتحاد، ولا ذلك من المتيسر، ولا شيخ لحج ممن يسمع له أولئك الأمراء قولاً، أو يحترمون له رأيًا، أو يعتقدون فيه إخلاصًا، بل هم يسيئون الظن فيه؛ لما بينه وبين إنكلترا من الولاء، وما يأخذ منها من العطاء.
علمتُ بهذه المسألة من عدة أشهر، ولم أنشرها في (المنار) ولا في غيره من الصحف؛ لاعتقادي أنها لا ضرر فيها، وإنما الضرر في نشرها وخوض العامة بذكرها، لما سأبينه بعد. ولكن لما كان علم الدولة بها واجبًا ولا سيما أن كانت بدسيسة أجنبية، بادرت إلى إخبار بعض من يثق بي من كبراء الدولة بها في كتاب أرسلته إليه من مصر، على أنه بلغني أن أمير مكة المكرمة أخبر حكومة العاصمة بها أيضًا. بعد ذلك سمع بعض التجار في عدن وغيرها بالخبر، ولكن على غير وجهه، فتناقلوه حتى وصل إلى طرابلس الشام، فتلقفه مكاتب جريدة (المؤيد) المصرية هناك، وكبره وأضاف إليه ما جرت عادة مكاتبي الجرائد بالتوسع في مثله وأرسله إلى المؤيد، وبعد أن نشره المؤيد بزمن غير طويل، نشرته جريدة (الاتحاد العثماني) فوصل إلى الآستانة العلية في هذه الأيام، وكان له من سوء التأثير ما كان، ونحمد الله.
قلت: إن العرب والترك يجب أن يكونا متحدين، كالعنصرين المكونين للماء أو الهواء، بحيث يكون الناظرون إليهما كالناظرين إلى الماء، يرون شيئًا واحدًا لا شيئين، والشاعرون بمقاومتهما كالشاعرين بمقاومة الهواء، وهو قوة واحدة لا قوتان منفصلتان، وقلت: إن شيطاني السياسة الأجنبية والجهالة الداخلية، يطمعان في حل رابطتهما القوية، وتحليل وحدتهما الدينية الاجتماعية بمحلل العصبية الجنسية، وإننا نبين ذلك بشيء من التفصيل.
لهذه القاعدة فروع كثيرة تتعلق بالدولة العلية (العثمانية) لا خير لها في شيء منها؛ لأنها مؤلفة من أجناس كثيرة، لا قوة للدولة إلا باتحادها كلها أو جلها بالإخلاص، فإن شذّ منها جنس صغير هو فيها كالكربون في الهواء، لم يكن ذلك ضارًّا لها ضررًا يضعف كيانها، فإن خلو الهواء من الكربون لا يبطل كونه هواء، وإن كان لا يخلو في الغالب منه.
وإنني لا أبحث هنا في هذه الفروع، وإنما أقول: إنه لا يغبن أحد من الأجناس العثمانية في سياسة الجنسية كما يغبن الترك العثمانيون؛ لأن من مقتضاها أن يحصر استقلالهم في بلاد الأناضول التي هم فيها أكثر عددًا، ولا تسمح لهم أوروبا بالاتحاد بأهل تركستان ولا هم يقدرون على ذلك بالقوة، فاتهام بعض العرب وغيرهم لساسة الترك بأنهم يريدون استخدام قوة الدولة؛ لتمييز جنسهم على سائر الأجناس العثمانية، هو اتهام لهم بالجهل بمصلحة الدولة وبمنفعة جنسهم، فوق الجهل بما يحظره عليهم دينهم من عصبية الجنسية.
قلت: إن القائلين بهذه السياسة في أوروبا فريقان: رجال الاستعمار الذين يستخدمونها لمصلحتهم بقدر مصلحتهم، ورجال الاجتماع الذين يسعون لها سعيها على الإطلاق؛ عملاً بما يعتقدون من خير البشر. فالأولون يبثون في البلاد العربية العثمانية فكرة الاستقلال العربي مخادعة للعرب؛ ليساعدوهم على الانفصال من جسم الدولة العَلِيَّة، وماذا تريد أوروبا بعد ذلك؟ تريد أن تضع هذه البلاد العربية تحت حمايتها أو تضمها إلى مستعمراتها، وتقطع عليها طريق الاستقلال باسم الاستقلال! وإن لأوروبا من الدسائس والوساوس في إطماع البلاد العربية العثمانية بالاستقلال، ما لا تسمح لنا الحالة السياسية في الآستانة الآن بشرحه، وإنما أشرنا إليه؛ لنُذكر أهل الحل والعقد ورجال الصحافة في هذه العاصمة بأن سوء الإدارة في عصر الاستبداد، كان هو المساعد لترويج تلك الدسائس، وإن حسن الإدارة وحده لا يكفي في هذا العصر لقطع عرق الدسائس وخيبة مساعي أصحابها، بل يجب أن يقترن بالمساواة وتأييد الوحدة العثمانية بالعمل من الحكومة وبأقوال الجرائد، وفي مقدمتها جرائد العاصمة، فإن كلمة واحدة من جريدة تركية أو من كاتب تركي تشعر بتفضيل الترك على غيرهم، تُحبط عمل ألف واحد من العرب في الدعوة إلى الاتفاق والاتحاد.
————————————————–
** نُشر المقال في مجلة إقدام العثمانية وأعيد نشره في المنار في عدد ديسمبر سنة 1909م.