على خط النار.. كيف غيرت مجازر النظام المصري رؤية الإخوان المسلمين للمرأة؟

ميدان - فتيات الإخوان االثورة المصرية رابعة
اضغط للاستماع

   

المشهد الأول: عام 2010

تخرج لنا جريدة الشروق بتصريح للسيدة جيهان الحلفاوي، أول مرشحة من جماعة الإخوان المسلمين للبرلمان، بقولها إن ترشيح المرأة في الانتخابات يخضع للأزواج لا الجماعة. حيث مثّل ولوج الحلفاوي لساحة الانتخابات بداية من عام 2000 والتصدر للعمل السياسي سابقة من نوعها خلال تاريخ الجماعة، مستندة إلى دعم زوجها د. إبراهيم الزعفراني، العضو السابق بجماعة الإخوان بالإسكندرية، وخبرته في خوض الانتخابات.

 

استندت صلاحية جيهان الحلفاوي للترشح خلال انتخابات 2010 إلى عدة أسباب، منها؛ معايشتها لفترة سجن زوجها، واقترابها من الإخوان، وحديثها المستمر مع وسائل الإعلام، كما أن تخففها من مسؤولية البيت بعد أن زوجت بناتها ساهم في قدرتها على التحرك، وأن أبناءها الذكور يمكنهم الاعتماد على أنفسهم، كما أن ترشيح امرأة في مثل هذا العمر يكسبها احترام رجل الشارع العادي، بخلاف نظرته للشابة الصغيرة.

   

undefined

   

المشهد الثاني: عام 2013

أصوات هتافات تعلو ويتردد صداها في الأفق أمام مشيخة الأزهر: "نحن فتيات الأزهر.. أقسمنا بالله لن نقهر.. وكتاب الله بأيدينا.. نقتحم اليابس والأخضر"، "والله زمان وبعودة.. ليلة أبوكو ليلة سودة"، "اغضب ثور.. خلّي فساد الجامعة يغور". لم تكن تلك سوى هتافات فتيات الأزهر في إحدى المظاهرات بعد حادث تسمم الطلاب بالمدينة الجامعية، وقد عبّرت إحدى المشاركات في هذه المظاهرة أنها كانت المرة الأولى التي تنضم فيها للمظاهرات دون كثير من الحسابات، وتردد الهتافات بحماس، يتزاحم بداخلها نشوة الشعور بالتحرر، وحينما اتصل بها والدها، أخبرته أنها أمام مشيخة الأزهر وأغلقت الهاتف. وحينما رجعت البيت، استقبلها والدها بالتوبيخ لذهابها دون استئذانه، إلا أن ذلك لم يهز قناعتها بضرورة المشاركة، وتضيف: "إحساسي بالمسؤولية زاد لما حطيت النية إني بنزل معاهم عشان نصرة أخويا المسلم، وإن الأزهر هيتغير بسببنا، فقد شعرت يومها بأني رجل"، قائلة بضحك: "حاسة إني رجل.. أيوه رجل وأعترف".

  

الفرق بين المشهدين ثلاث سنوات، تغيرت فيهم نظرة المرأة داخل جماعة الإخوان المسلمين للعمل السياسي ولدورها ولأنوثتها بعدما تفاعلت بقوة مع أحداث 25 يناير واعتصام رابعة ثم أحداث فض رابعة والنهضة وما تبعه من احتجاجات، كانت النساء فيها على خط المواجهة المباشرة مع قوات الأمن، وتعرضت كثيرات منهن للاعتقال والإصابة والقتل. فكيف انعكس تفاعل المرأة مع هذه الأحداث على رؤية المرأة لنفسها؟ ورؤية جماعة الإخوان المسلمين للمرأة ودورها؟

   

الملاحقة الأمنية.. ذريعة لعدم تصدر المرأة داخل الجماعة

قبل ثورة 25 يناير 2011 كان الخوف من الملاحقة الأمنية من أكثر الحجج المتداولة لمنع تصدر النساء للمشهد القيادي أو تقلد المناصب داخل الجماعة، وكان الزواج ممن لديهن الانتماء نفسه أمرا مستحسنا داخل أوساط الجماعة بسبب الهاجس الأمني، فثمة قناعة أن من تنتمي للجماعة ستكون أكثر دعما لزوجها في عمله الدعوي والسياسي، وأكثر قابلية لتحمل تبعات غيابه في حالة تعرضه للاعتقال، كما أن الزواج من إخواني عامل مهم لاستمرار مشاركة المرأة بفعالية داخل الجماعة. هنا، تظهر علاقة مباشرة بين الجانب الأسري والأمني، وبين دور المرأة داخل الجماعة قبل ثورة 25 يناير؛ فهي مستبعدة لصالح دورها الأسري خشية تعرضها للإيذاء الأمني، وهي مستدعاة -في الوقت نفسه- لتحمل تبعات الملاحقة الأمنية كزوجة لا كعضوة داخل الجماعة. 1

 

ما قبل الثورة.. الجماعة كحيز آمن للنساء

بينما ينتقد البعض الجماعة لعدم تمكين المرأة أو تصدرها لمناصب قيادية، وحصر دورها في التعبئة والحشد، تظهر على الناحية الأخرى آراء تُبيّن أن جماعة الإخوان المسلمين قدمت مساحة آمنة لتفاعل المرأة داخل المجال العام، فحيز الإخوان يعد بيئة حاضنة للمرأة، خاصة الملتزمات دينيا، والراغبات في الانخراط في العمل الدعوى، وأجادت الجماعة توظيف رغبة النساء في التطوع ومساعدة الآخرين في دفعهن للمشاركة في المجال العام بوازع ديني. وثمة دافع عاطفي في انضمام النساء للجماعة لم يجعلهن في صدام مباشر مع الجماعة لعدم حصولهن على التمثيل السياسي المرجو أو دمجهن في آليات صنع القرار. 2

   

undefined

    

لذا، فمن الملاحظ أنه في الحين الذي شهدت فيه الجماعة خروج الكثير من الشباب خارج عباءتها، لم تكن هناك حالات مشهودة من الفتيات مقارنة بالشباب داخل الجماعة، وذلك بسبب احتياج الفتيات إلى هذا الحيز الآمن المكفول داخل الجماعة. فالفتيات لم يكنَّ في حالة صدام مع الجماعة قبل الثورة، ولم يتخذن قرارات راديكالية مقارنة بالشباب؛ لأنهن لم يمتلكن آليات اتخاذ هذا القرار، أما خروج بعض الشباب من الجماعة، فيمكن ملاحظة عدد من الصفات التي تجمعهم مثل: كثرة السؤال وكثرة القراءة، واحتكاكهم بالأرض وتفاعلات الأفكار، وليس باعتباره مجرد انتماء عاطفي، فباستبعاد الجانب العاطفي يصبح قرار الخروج من الجماعة قرارا واردا، إلا أن ثورة 25 يناير شكلت منعطفا هاما.

 

ثورة 25 يناير وإعادة اكتشاف الذات

أتاحت ثورة 25 يناير آفاقا أخرى غيّرت كثيرا من المشاهد المعتادة في الوسط الاجتماعي المصري، حيث تروي بعض الفتيات، خلال مقابلة أجراها موقع "ميدان" معهن، أن الثورة أكسبتهن وعيا ونضجا أكبر بدورهن، وأصبحن أكثر سعيا لتوسيع مجال مشاركتهن داخل الجماعة، وأكثر جرأة وقدرة على التحرر من قيود التنظيم وأخذ قرار الخروج منها على إثر مواقف الجماعة السياسية خلال أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء، وبعد صعودها السياسي وقرارها للدفع بمرشح للرئاسة.

   

فبعد الصعود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين بعد الثورة، وخوض الانتخابات الرئاسية، اعترض بعض الأعضاء على هذه القرارات، وقامت مجموعة منهم بتنظيم وقفة ضد مكتب الإرشاد لرفضها. تضمّنت هذه الوقفة سيدتين. تروي إحدى هاتين السيدتين المشاركتين فيها: "أن أمسك لافتة مكتوب عليها لا للحزب وأنا امرأة كان شيئا مستغربا للغاية، وكنا سيدتين فقط، وقد أعلنت الجماعة أن كل من وقف عند مكتب الإرشاد ليسوا إخوانا".

 

وتذكر أن ثمة ردود فعل كثيرة استهجنت موقفها من الرجال والنساء على السواء لأنها امرأة تعترض على قرارات مكتب الإرشاد، وتتابع أن هناك مبدأ مترسخا بحكم العادة داخل الجماعة باعتبار أن المرأة تطيع الرجل، لتسود بذلك داخل صفوف الجماعة حالة من السلطة الأبوية، وهو ما يتقاطع مع أن المرأة عادة ما تحتاج إلى إشباع الاحتياج العاطفي والنفسي، فترى في الجماعة الأب أو الحبيب الذي تستمد منه كينونتها، فهو سندها وأمانها الاجتماعي ومصدر الحماية.

   

undefined

  

هذه الوقفة -بحسب تأكيدها- مؤشر على تغير نوعي في علاقة المرأة بالتنظيم بعد الحراك الثوري في 25 يناير، فقد أصبحت المرأة بعد تفاعلها مع الحراك الثوري في 25 يناير أكثر اعتمادا على نفسها، ولم تعد كائنا "مسكينا" بحاجة إلى الآخرين لحمايته، فهي قادرة على حماية نفسها، وإن اختلفت درجة النضج من امرأة لأخرى، فهناك من ذهبت بهذا الشعور للبحث عن الحماية في كيان أو شيء آخر، سواء كان عملا يستغرقها، أو مسيرات واحتجاجات، كل بحسب تفكيره واستعداده.

 

ولكن ثمة رؤى مختلفة لدور النساء داخل الإخوان المسلمين ترى أن حضور المرأة ومشاركتها داخل الجماعة كان لها دور كبير قبل وأثناء وبعد الأحداث الأخيرة، مشيرة إلى أن من بين مستشاري الرئيس المخلوع مرسي كانت امرأة، فليس صحيحا أن آراء المرأة ليست موضع نظر ووجاهة، بل دائما ما كانت آراؤها ذات قيمة. إلا أن تناول الفروقات بين الأجيال داخل الجماعة، يمكن أن يحيلنا لفهم أعمق حول رؤية دور المرأة داخل صفوف الجماعة، فالشهادة السابقة لإحدى العضوات البارزات داخل الجماعة، وهي فوق الخمسين من العمر، لذا يمكننا أن نلمس فرقا جيليا واضحا في رؤية دور المرأة داخل الجماعة بين المبحوثين، فبينما تؤكد إحداهن، 40 عاما، أن قيمة طاعة الزوج قيمة مهمة جدا لا بد من احترامها، حتى في حالة عدم اقتناع الزوجة به، في الحين الذي تتحدث فيه شقيقتها صاحبة الـ20 ربيعا بقولها: "عملي الاجتماعي والسياسي ليس شيئا ينبغي أن يتدخل فيه زوجي".2

 

ورغم وضوح هذا الفارق الجيلي في رؤية النساء لدورهن داخل الجماعة داخل نطاقات واسعة بالجماعة، يمكن ملاحظة أن هناك بعض السيدات في الأربعين من العمر، وقفوا في وجه سياسات الجماعة، منهن تلك السيدة التي شاركت بوقفة ضد قرارات مكتب الإرشاد آنذاك. ولكن ماذا بعد 2013 وأحداث فض رابعة والنهضة، وكيف أثّرت على أدوار النساء بداخل جماعة الإخوان المسلمين؟

     

أحداث ما بعد فض رابعة.. فتيات على خط المواجهة

بعد 3 يوليو/تموز 2013 خرجت الجموع للشوارع في مواجهة مباشرة مع قوات الأمن، فجاء تقرير في صحيفة الغارديان البريطانية بعنوان "تأثير مذبحة رابعة على جناح النساء في الإخوان المسلمين". مما جاء فيه أنه حينما حُكِم على 14 عضوة من الأخوات في البداية بالسجن لمدة 11 عاما، لاحتجاجهن، لم تكن الدهشة مقتصرة على تعسف الحكم وشدته، ولكن لأنهن كن في الشوارع من الأساس.

 

   

يستند التقرير في ملاحظته تلك إلى أن جناح الإخوات قلما اتجه نحو الاحتجاجات من تلقاء نفسه، حيث كان مسؤول الأخوات حينها رجلا بالأساس،(3) أما بعد 2013 وقبل أن يتوقف الحراك السياسي نهائيا، كانت الجامعات تموج بالاحتجاجات التي شاركت فيها النساء بصورة بارزة. حيث تشير إحدى الفتيات المشاركات في الحراك الطلابي لجامعة الأزهر بعد الانقلاب، إلى أن من بين مشكلات الإخوان قبل الثورة وفض رابعة أن الشباب لم يكن مندمجا بشكل كاف في اتخاذ القرارات، لكن، وبعد الانقلاب وما تلاه من مجزرة رابعة واعتقال العديد من القادة، تغيرت الأمور، فالطلاب داخل الجامعة يشقون طريقهم الخاص، فقد جعلتنا تلك الأحداث ساعين لإعادة التفكير في طريقتنا التي اعتدنا التفكير بها، فنحن ضد اعتقال القادة، ولكن ما حدث، جاء في مصلحتنا من حيث امتلاكنا القدرة على كسر الروتين القديم.

 

انعكس ذلك عبر بروز طالبات الإخوان باعتبارهن فاعلين في مسار الحراك الثوري، خاصة في جامعة الأزهر، التي يحضر فيها التيار الإسلامي بقوة، حيث حمل حراك فتيات الأزهر الكثير من الأسئلة حول دور المرأة في الجماعة، وأثار معه العديد من الأسئلة الأخرى كسؤال الأنوثة والرجولة والحماية.

   

طالبات جامعة الأزهر.. الحراك الثوري والأنوثة الهاربة

عبر مقابلتنا في موقع "ميدان" لعدد من طالبات الأزهر الفاعلات في الحراك الثوري بالجامعة بعد انقلاب2013 تبيّن أنه ثمة تحولا في مفاهيم الرجولة والأنوثة بداخل الفتيات أنفسهن، فالجماعة كانت تكفل -كما أشرنا- نوعا من الحماية، والتي تتجسد في مخيالهن عبر صورة الرجل الحامي.  لكن فض رابعة، مثل حدثا مفصليا في مواجهة التهديد الأمني، حيث تهدمت صورة الحماية التقليدية، ليتحول المشهد تجاه مواجهة البنات لرجال الأمن بمفردهن، وقد رأين بأنفسهن كثيرا من مظاهر قهر الرجال والاعتقال الذي تعرض له رجال الجماعة العاجزين عن حماية نفسه من بطش الآلة السلطوية، لتولد المشاهدة تحركا على مستوى الأرض  لتقديم الحماية، لأنفسهن قبل الآخرين، وليزداد شعورهن بغياب الكيان الأبوي ومفهوم الحماية التقليدية من قِبل الرجل، فأصبح مفهوم الرجولة والأنوثة لديهن يعتريه الكثير من القلق المفاهيمي.

  

تذكر إحدى فتيات الأزهر أنها ظنت أن 30 يونيو/حزيران مجرد مظاهرات ستنتهي بلا أي تأثير، ولكن أحداث الفض، دفعتها للاشتباك مع الحراك الثوري، ولتتجه نحو المساعدة في تنظيم المظاهرات بحيث يكون هناك ثلاث مظاهرات خلال الأسبوع الواحد، ولم تقتصر على ضم الفتيات المنتميات للإخوان فحسب، بل ضمت معهن أخريات، ليؤدي ذلك لتواجد الأمن بكثافة داخل أسوار كليات البنات في سابقة غير معهودة، وبدأ معها الاعتداء على البنات بالغاز والخرطوش، الأمر الذي تطور في بعض المناطق للضرب بالرصاص الحي، تماما كما حدث داخل جامعة طلاب الأزهر بنين.

    

undefined

   

دفعتهن تلك الأحداث المكثفة لاكتساب خبرة ميدانية واسعة، تعلّمن معها الدفاع عن أنفسهن والتصدي للاعتداءات المتلاحقة والمفاجئة. حيث بدأ حراكهن بالمشاركة الهامشية في مسيرات الشباب، إلا أن تحولات المشهد، صاحبها خلال النصف الثاني من الدراسة، بداية تنظيم مظاهرات خاصة بمفردهن، وليصاحب ذلك التخطيط قدرة على شلّ الطرق، وإحداث اختناقات مرورية.

 

تواصل قائلة: "كنا نعرف أنه سيتم ضربنا ونستعد لذلك باستخدام الطوب، وإحضار الكثير من الفحم والبيبسي، كنا نكتشف أنهم يرشون حبر الفسفوري علينا من قِبل الأمن، لنكتشف لاحقا أنه يمكننا إبطال مفعوله باللبن وهكذا، واستخدمنا الشماريخ والألعاب النارية لإظهار قوتنا، وكنا نضرب الأمن بشكل عشوائي لنستفزهم حتى يضربونا داخل أسوار المدينة الجامعية، فيسهل علينا مواجهتهم بالداخل عوضا عن خارج المدينة".

   

وتُضيف في مقابلتها لـ "ميدان" بأن هذا الحراك أحدث أثرا سلبيا على علاقتها بذاتها، حيث أن رؤيتها لنفسها كأنثى اضطربت، فقد صارت أعنف، وأكثر جرأة من قبل، حتى تفاعلها مع المجال العام خلال 2010 في تنظيم الفعاليات المختلفة لم يكسبها هذا القدر من الجرأة الذي اكتسبته أثناء مشاركتها في المظاهرات. رغم ذلك، لم تكن مجرد المشاركة سببا رئيسا في تحول شخصيتها، حيث لم تكن مكتسبةً للشجاعة الكافية التي تدفعها للتقدم نحو الصفوف الأمامية، ففي أول مواجهة لها مع الأمن بتاريخ 24-12-2013 جلست تبكي وتشكي قوات الأمن لوالديها لأنهم أغرقوهم بالمياه، ولكن إحدى فتيات الأقاليم ساعدتها وأخذت تتعلم منها كيف تواجه ما يحدث لهن.
 

وعن تجربتها الشخصية، تروي فتاة أخرى من فتيات الأزهر ل"ميدان" أنها تحولت من مجرد فتاة تخجل من ذِكر الألفاظ العادية إلى الانفعال والغضب والسب، وصار لديها شعور كبير بالاستقلالية، فلم يكن لديها الحق من قبل في الاعتراض. وتضيف طالبة أخرى أن مجرزة الحرس الجمهوري كانت حدثا فارقا معها تضاءلت معه فكرة إنهاك النفس في الحوار مع أي طرف أو شخص يرى الدم ويجادل فيه، كما أن علاقتها بالمجتمع تغيرت بعد الانقلاب، وصارت أكثر نقما وسخطا على كل ما ترى فيه. فالخلاف لم يعد خلافا سياسيا، بل خلاف على "الآدمية"، فقد صارت أصلب وممتلكة لحجج أقوى، وقادرة على مواجهة العنف بالعنف. فقد كان معهن فتيات "تعض رجال الأمن وتركلهم"، مؤكدة أن العنف قد يكون سلوكا استباقيا في بعض الأحيان من قِبل الفتيات لحماية النفس.

    

undefined

   

إلا أن هذا العنف والجرأة في مواجهة رجال الأمن، لم يمر عليهن دون بعض المخاوف. فثمة صوت بداخلهن لا يرحب بهذا التغيير، قلق من هذا النمط العنيف، وخوف من فقدان "طبيعتهن الأنثوية"، فرغم أنهن أثبتن حضورا فعالا في مساحة الصراع والاشتباك التي كانوا يظنونها حكرا على الرجال، ولم يكن لها أن تخترقها يوما من قبل، فإنه لا يزال يساورهن القلق بشأن مفاهيمهن السابقة عن الأنوثة وطبيعتها الحيية الهادئة. وانعكس ذلك الهاجس على بعض صفحات طالبات الأزهر، فنجد صفحة "أولتراس بنات الأزهر"، إحدى الصفحات على موقع فيسبوك التي كانت فعالة إبان فترة الاحتجاجات الثورية، والتي تُضيف في تعريفها تأكيدا أن "النساء لا يفعلن مثل الرجال".

  

وبالرغم من استمرار هذا الهاجس، فإن نموذج الفتاة المثالية كان متجسدا في تلك الفتاة القوية التي تتصدى للأمن وتواجه بغلظة وجَلد، لتحضر الفتيات مواجهات رجال الأمن كأيقونة ثورية، وكاستدعاء لنموذج الصحابيات المشاركات في الغزوات مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا الحضور الأيقوني للفتاة الثورية ما يجعلنا نفترض أن ثمة حالة من تأنيث الحراك الثوري في مرحلة ما بعد الانقلاب، تعيد إثارة سؤال الرجولة والأنوثة ليس للنساء فحسب، وإنما للرجال كذلك.
 

الفتاة الثورية.. أيقونة للبطولة

لم تُظهِر الأحداث شخصيات نسائية بارزة حظين بشهرة عامة واسعة، عدا بعض النماذج كأمهات الشهداء والمعتقلين، ولكن الملاحظ هو ظهور المرأة المناضلة كأيقونة، فصورة البنت التي تحمل قنبلة الغاز وتُلقي بها في وجه الجنود هي أيقونة للثورة يتم استدعاؤها والإشادة بها. أيقونية المرأة المناضلة ظهرت عبر ما كتبته إحدى الفتيات على حسابها في فيسبوك خلال هذه الفترة تعليقا على صورة لفتاة منتقبة تمسك بقنبلة غاز أعادتها إلى قوات الشرطة التي قذفتها باتجاهها في اعتصام العباسية:

 

"أنتم لا تعرفون شيئا عنها، صراحة، ولا أنا أيضا أعرف أي شيء، لكن مع مثل هذه اللقطة العبقرية، نحن لسنا بحاجة لمعرفة التفاصيل، فبعض التفاصيل قد تشغلنا عن رؤية النور الكامن على حواف الطريق، فإطار الصورة يشي بالكثير، مما يمكن أن يقال ويجب أن يقال، لأن ما فعلته هذه الفتاة لم يكن مجرد مشاركة في مظاهرة عابرة، و إنما كان تكسيرا ناعما وعنيفا، جبارا وبسيطا، لكل التابوهات والقوالب الفكرية والموروثات الجاهلية العقيمة التي لم ينزل الله بها من سلطان، لكن جعلها بعض كهنة الدين دستورا مقدسا وأعانهم في هذا أباطرة العالم، وبعض مغلقي الفكر الذين كانوا يريدون تنميط أمثال هذه الفتاة في نمط مخيف مرفوض، لقتل أي محاولة انتشار معرفي خارج قالبها النمطي المستحقر، هذه الفتاة حفرت في ركام من الأفكار والعادات والتقاليد والأقوال والنظرات والعبرات والأوامر والفتاوى والبيانات لتصل إلى الدين نقيا كما كان، لتصل إلى تاريخ قديم غريب، كانت فيه النساء تحارب مع الرسول، تدافع عن الرسول، تقتل أهل الكفر، تذود عن روح الإيمان، تفرق صف العدو، تجمع شمل الخلان.

 

      

في أيامنا هذه التي يحارب فيها الثائر، ويُقتل فيها الغاضب، وتُقمع فيها المظاهرة، وتُهان الفتيات وتُعرّى أجسادهن، ويركع الشيوخ وينحني القادة، يكون لجري فتاة متشحة بالسواد بين أعين الرصاص وأعمدة الدخان أثر بالغ في شكل المستقبل الذي نحلم به جميعا". وفي مشهد أخرى، كتب أحد الشباب الناشطين متباهيا بصورة حذاء لفتاة يبدو أنها خلعته لتتمكن من الجري هربا من مطاردة قوات الأمن لها قائلا:

"رحم الله زمانا كانت الفتيات تتباهى فيه بصور المجاهدين الرجال

وها قد أتى زمان صرنا نحن من نضع صور الفتيات

سامح الله من أوصلنا لتلك المذلة"

   

لكن، من الملاحظ أنه رغم الاحتفاء بصورة المرأة المناضلة الثورية، سواء في ثوبها الأسود أو بحقيبتها المزركشة وشرائط حذائها الملونة، والتي أنّثت النضال خلال هذه الفترة، فإن هذا الاحتفاء يحمل في طياته شعورا بالمذلة والعجز للرجولة غير القادرة على صد عنف وقمع السلطة. وكأن كل تأنيث للنضال وخوض المرأة مساحة الاشتباك الأمني انتقاص لنضال للرجل بصورة ما.

  

هذا ما جعل إحدى الناشطات مع اشتداد البطش والقمع الأمني ضد المتظاهرين، واعتقال الكثير من الفتيات، تعلن رفضها لمشاركة الفتيات في المظاهرات، وتستهجن نموذج الفتاة الثورية المناضلة، لغياب الرجولة التي تحمي النساء، فلن تكون بنزولها المظاهرات ومواجهتها للأمن مقاربة لمواقف الصحابيات، وذلك لغياب الرجال القادرين على حمايتهن كفعل الصحابة، فكتبت على صفحتها على فيسبوك تقول:

 

"من الآخر أي بنت هتنزل المظاهرات وهي عارفة إن مفيش تأمين الرجالة في المسيرة ميقدروش يحموها يبقى لا تلومن غير نفسها لما يتم التحرش بها واغتصابها، إحنا معندناش رجالة فاهمة الشرع الإسلامي صح وتدعوا للقصاص وتخطط له، ولا عندنا رجالة عايزة تتعب وتشيل سلاح وتقتص لأعراض المسلمات ويبرُّوا موقفهم بموقف وحيد للرسول صلى الله عليه وسلم من السيدة سمية بعدم ضربها أبو جهل في موضع عفتها ومغتصبهاش، وسايبين جيش المسلمين اللي اتحرك لصرخة مسلمة "وامعتصماه".

   

undefined

     

احنا معندناش رجالة أصلا، رجالتنا بتنزل بصدور عارية أمام الأسلحة الثقيلة والمدرعات يقولك دي شجاعة، لما تلاقي تأمين ورجالة تحميكي ابقي انزلي، زي ما الصحابيات كانوا واثقين إن خلفهم رجال يحموا أعراضهن، فخرجوا في الحروب والغزوات". اتخاذ الفتيات الثائرات أيقونة للحراك الثوري لم ينعكس على مساحة ضمنان حقوق المرأة بصورة جيدة وصونها، فالمشاركات في مذبحة العباسية -على حد قول إحداهن- قد ذهبن طي النسيان وبقي حضورهن كرموز وصور مجمدة، وغيرهن الكثير. ولكن هل مشاركتهن غيرت في رؤية الجماعة لدور المرأة كما غيّرت في تصورهن لأنفسهن؟

  

وجود النساء في حراك ما بعد الانقلاب.. قلّة حيلة أم تغير رؤى؟

تباينت وجهات النظر حول وجود النساء في التظاهرات، فبينما رأى البعض أن سماح الجماعة بمشاركة النساء بفعالية في الحراك الثوري لا يعدو عن كونه قلة حيلة، ثمة وجهة نظر تعتبر أن اعتصام رابعة يعد محطة مهمة فيما يرتبط بالنظر للمرأة وإدراك دورها، فالحركات الإسلامية عموما لم تكن لتقبل فكرة أن تمكث النساء خارج المنازل معتصمات في الشارع، فلا بد من العودة لبيوتهن قبل حلول المساء، ولا يحضرن وقت الاشتباك، فاعتصام النساء في رابعة نقلة نوعية غير متوقعة، فأن يكون هناك قرار جمعي بأن الاعتصام يضم النساء مؤشر على تغير في النفسية الجمعية للجماعة التي لم تكن تقبل ذلك.

 

فقد ساد اتجاه "متشدد" داخل الجماعة خلال فترة السبعينيات والثمانينيات انعكس على وضع المرأة ودورها، ومتأثرا بالحركة الوهابية والتسلف داخل الجماعة، لتحكم بذلك مجموعة من الأحكام الفقهية المحافظة على التصور العام لدور المرأة. إلا أن اعتصام رابعة مثل تحولا في تلك الرؤى، ليتم الاعتماد على المرأة بشكل حقيقي، لسببين: تهديد الوجود بعد انقلاب يوليو 2013، وتحول صراع الجماعة مع النظام إلى صراع صفري، فأصبح التنظيم يضحي بكل أفكاره في مقابل بقائه ككيان، لتفرض المعطيات الواقعية بذلك أحكامها على التصورات المسبقة للجماعة.

  

السبب الآخر، أنه خلال الأعوام الثلاثة التي أعقبت الثورة تحولت الكثير من المفاهيم السابقة، منها ما هو سلبي، وما هو إيجابي، كقبول وجود المرأة بقوة أكبر. فأصبح على المستوى الحركي هناك مجموعات خاصة بالنساء، كنساء ضد الانقلاب، وبعد فض رابعة أصبح من المقبول الدفع بالنساء في معارك مباشرة مع الأمن. كما أن نزول المرأة بقوة وثبات داخل الميدان كان عاملا للدعم القوي للمعتصمين، حيث تم استدعاء صور الصحابيات الجليلات من أمثلة السيدة نسيبة والسيدة سمية، وكان جزءا من الخطابات السائدة على المنصة. وتضيف إحداهن: "لقد لمست بنفسي قوة النساء النفسية وصمودهن من خلال الأحاديث مع المعتصمات، حتى في لحظات الفض الذي شهدته وجدت النساء في حالة من التماسك، بينما الرجال في حال من الذهول من هول ما حدث. ولكن رابعة رغم كونها محطة فارقة فإنها نتاج تراكمات لدور المرأة في التعبئة والحشد داخل الجماعة منذ 2005 حتى المشاركة في الثورة.

   

undefined

   

فلن ترضى النساء بمواقعها ودورها السابق داخل الجماعة، ولن تعود مجرد واجهة ديكور بعدما أثبتن وجودهن بقوة في الشارع رغم التهديدات والمخاطر، كما أن أمهات الشهداء والمعتقلين هم حجر الزاوية التي تفرض نفسها كواجهة للنضال الحقيقي الذي ينبغي أن يغير وجهة النظر عن المرأة وأدوارها. فحسبما تؤكد إحدى الفتيات بجماعة الإخوان: "فإنه لا يمكن أن يعود الوضع لمثل ما كان عليه من قبل، عندما كنا نتتبع الرجال بشكل أعمى، نحن الآن نعتقل، نتعرض للهجوم في الشوارع، فلا بد أن نشارك بشكل أكبر".

   

على الناحية الأخرى يستبعد البعض الآخر حدوث أي تغير جوهري في فكر الجماعة تجاه المرأة، فالجماعة استهلكت كل طاقتها، وكانت تحارب بكل أطرافها وطاقتها بعد الانقلاب، لذلك فإن وجود المرأة في الاعتصام لا يعدو عن كونه قلة حيلة، وليس انعكاسا لمراجعات قوية، أو تفكير متعمق حيال دور المرأة، فحركة بنات الأزهر ليست دليلا على أن بنات الأزهر قد تغيرن، كل ما في الأمر أن كل مفاصل الجماعة تحارب، وليس هناك أي اختلاف جذري، فالإخوان قد شاركوا في السابق يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 1954 في التظاهر بالقاهرة بنسائهن قبل أحداث المنشية بيوم! فما الجديد؟

 

الأحداث الأخيرة لم تكن الأحداث الأولى التي تضطلع فيها المرأة داخل الجماعة بالمواجهة المباشرة مع الأجهزة الأمنية، حسبما تذكر السيدة فاطمة عبد الهادي التي عملت كوكيلة للجنة الأخوات المسلمات منذ نشأتها في 1944 في شهادات نُشرت في كتابها "رحلتي مع الأخوات المسلمات"، أنه مع بدء سلسلة المحن والاعتقالات التي تعرضت لها الجماعة تولى قسم الأخوات رعاية الأسر مع غياب عائلها في السجون والمعتقلات، كانت الأخوات يجمعن التبرعات ويدبرن نفقات أسر المعتقلين، فما المختلف في التجربة الحالية؟

    

قد تثبت السنوات القادمة التأثير الواقعي لمشاركة النساء ومواجهتهن لقوات الأمن وتعرضهن لكثير من المخاطر على رؤية الجماعة لها في حالة صمودها واستمرار وجودها على الساحة. لكن من الواضح أن وضع ما قبل 2013 لن يعود كما هو، فقد صاحب الحراك الثوري مزيد من التفكك، وظهر كثير من التغييرات على النساء أنفسهن، ففتيات الأزهر المغتربات من الأقاليم الأخرى على سبيل المثال قبل الثورة كن أقل اختلاطا بالشباب، وأكثر خجلا في التعامل مع الجنس الآخر مقارنة بالقاهريات، ولكن ثمة تغيير حدث مع انفتاح المجال العام بعد الثورة وأحداث الانقلاب، فأصبحن أكثر وجودا في الفعاليات وجرأة على الاختلاط مع الشباب. ورُصِد الكثير من التغييرات التي ربما تظهر مآلاتها فيما بعد خلال السنوات القادمة، ولكن سيظل من الصعب إنكار أن المرأة حضرت بفعالية كحضور واقعي على الأرض وكأيقونة للحراك الثوري، فأصبحت رمزا للبطولة والقهر معا، وأضحت هناك حالة من تأنيث المقاومة.

المصدر : الجزيرة

إعلان