شعار قسم ميدان

"توابع الفشل".. هل يتخلى الإسلام السياسي عن دولة الشريعة؟

ميدان - السياسة
 
 
مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية، بدأ تَشكُّل المجال السياسي العربي الحديث تحت هيمنة الاستعمار، ظهر ذلك في تأسيس دول ذات سيادة وطنية وجهاز بيروقراطي، وأجهزة أمن وتعليم مدني، وتم إعادة تعريف السياسة كحيّز مستقل عن الدين، وتراجعت وظائف الدين المعرفية والاجتماعية والسياسية.

 

وبالتزامن مع ذلك ظهرت التيارات الدينية الإصلاحية، والحركات الإسلامية السياسية من داخل تلك التحولات، واعتمدت بشكل أساسي على الخطاب الديني والنص الديني كأيديولوجية سياسية لإصلاح وإعادة تأسيس المجال السياسي العربي والإسلامي، وتأكيد حضور الدين الإسلامي كمرجعية حاكمة له(1)، مُعلنة بذلك ظهور مفهوم وتيار سياسي وأيديولوجي جديد في المجال الإسلامي والعربي تحت عنوان: "الإسلام السياسي الحديث".

 

المقولات الأساسية للإسلام السياسي
أتى تشكل تيار الإسلام السياسي التقليدي مع جماعة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي تحت ضغط موجة العلمنة، وتفكك عرى السلطنة العثمانية
أتى تشكل تيار الإسلام السياسي التقليدي مع جماعة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي تحت ضغط موجة العلمنة، وتفكك عرى السلطنة العثمانية

أتى تشكل تيار الإسلام السياسي التقليدي مع جماعة الإخوان المسلمين داخل مصر في عشرينيات القرن الماضي تحت ضغط موجة العلمنة، وتفكك عرى السلطنة العثمانية التي كانت تمثل -رغم علاتها- الحاضنة الأساسية للإسلام السني، وقد أحدث ذلك زلزالا كبيرا في الوعي والوجدان الإسلامييّن، وكان من النتائج المباشرة لذلك تشكل مفهوم "الجماعة الطليعية" التي تجسد وعي الأمة وميراثها الحضاري، وتأخذ على عاتقها إعادة بناء "الدولة الإسلامية" المفقودة.

 

ويعتبر رشيد رضا أول من نظّر لهذه الفكرة في كتابه الشهير المعنون "بالخلافة"، وقد بدأ إصلاحيا عثمانيا؛ لينتهي به المطاف -بعد إلغاء أتاتورك رسميا نظام الخلافة- إلى بلورة فكرة حزب الإصلاح والذي كان من المفترض أن يأخذ على عاتقه إعادة بناء الخلافة بعد أن سئم رشيد رضا من صراعات الملكيات العربية على وراثة السلطنة العثمانية.

 

لقد أصبح شعار الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة يُلهب المشاعر الجماعية في مواطن كثيرة من العالم الإسلامي، سواء في مواجهة الاستعمار أو فشل أيدلوجيا التحرر القومي كمصد لشرعية النظم الحاكمة بعد الاستقلال

ثم جاء من بعده مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا الذي تسلم منه مباشرة مجلة المنار الإصلاحية؛ ليقنن فكرة جماعة الإصلاح أكثر ممثَّلة في الإخوان المسلمين، باعتبارهم روحا تسري في جسد الأمة على حد تعبيره، واعتبارهم هم المؤتمنون على حاضر الإسلام ومستقبله في ظل غياب الكيان السياسي الرسمي.

 

بذلك أخذت مقولات الدولة الإسلامية والتنظيم الحركي الطليعي بالإضافة للمقولة الأهم "تطبيق الشريعة" موقعا مركزيا في خطاب الإسلاميين، وأصبحت المقولات الأساسية في أيديولوجيا الإسلام السياسي، خصوصا لدى المؤسس حسن البنا، ثم جاء من بعده أبو الأعلى المودودي من شبه القارة الهندية بخلفيته القانونية ليغرق أكثر في تقنين معنى الدولة الإسلامية، وتأصيل مفاهيم الحاكمية، وأصل الشرعية السياسية وغيرها، ثم أعقبه سيد قطب ليزيد في تجذير عقائدية الدولة الإسلامية، ونحت مقولات الحاكمية، والسيادة الإسلامية، والمفاصلة، وغيرها في مواجهة المد العلماني القومي(2).

 

ومنذ تلك اللحظة التاريخية المؤسسة التي ارتبطت بها الحركة الإسلامية أصبح شعار الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة يُلهب المشاعر الجماعية في مواطن كثيرة من العالم الإسلامي؛ سواء في مواجهة الاستعمار الأوروبي، أو بالتزامن مع تعمق إخفاقات دولة ما بعد الاستعمار واغترابها عن المجتمع، وفشل أيديولوجيا التحرر القومي كمصدر لشرعية النظم الحاكمة بعد الاستقلال(3).

 

تجاوز الإسلام السياسي أو ما بعد الإسلاموية
"أوليفييه روا"  عالم سياسة فرنسي وأستاذ جامعي

بدأ ظهور دعاوى فشل أيديولوجيا الإسلام السياسي في أوائل التسعينيات عن طريق الباحث الفرنسي "أوليفييه روا" وذلك في كتابه "فشل الإسلام السياسي" الصادر في العام 1992 ورغم أن "روا" لم يعن بكلمة  "فشل" ضعف الحركة النضالية الإسلامية بحد ذاتها، أو ضعف مُنجزاتهاأو ضعف أ، ولكن عجز الإسلاميين عن إنتاج سياسة قطع مع الأنظمة القائمة بالشكل الذي تأسس عليه خطابهم؛ هو ما مثل في رأيه فشل الإسلام السياسي.

 

وما لبثت أن انتشرت الدعوى إلى ضرورة تجاوز مقولات الإسلام السياسي داخل العديد من الأكاديميات الغربية والحركات السياسية والاجتماعية الجديدة فقد فشلت الحركات الإسلامية -من وجهة نظر أصحاب تلك الدعاوى-  فشلا بنيويا واضحا، عندما تواجهت مع الواقع؛ سواء كان ذلك في ممارسة السلطة السياسية في إيران، أو في معاناة الإخوان المسلمين من القمع على يد النظام المصري والسوري والعراقي وغياب أي أفق واقعي لمشروع حزب التحرير، في تحقيق الهدف في نهاية المطاف المتعلق بإنشاء دولة إسلامية بسبب التناقضات الداخلية بين طبيعة تلك التنظيمات، وموقعهم داخل المجتمعات الحديثة من جهة، والشعارات التي ينادون بها من جهة أخرى(4).

 

فتم اعتبار حالة الانزياح الأيديولوجي داخل خطاب الحركة الإسلامية نفسها خاصة في تركيا والمغرب العربي ثم في مصر وتخليها ضمنًا أو علانية عن أدبيات الإسلام السياسي الكلاسيكية ككتب سيد قطب والمودودي، ورسائل المؤسس حسن البنا، وما مثّلته من قطيعة ثورية مع الأنظمة القائمة، وسعيهم لتحقيق تسوية ديموقراطية مع الدولة الوطنية هو أول انتقال إلى ما بعد الإسلام السياسي.

 

حالة ما بعد الإسلام السياسي
كتاب
كتاب "ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي" تأليف آصف بيات

ويضيف "آصف بيات" في كتابه "ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي "إن اهتمام الإسلام السياسي الرئيس كان يتمثل تاريخيا في بناء مجتمع أيديولوجي نقي؛ تتحقق فيه مُثُل الإسلام، وأن السيطرة على الدولة وأسلمتها هي الطريق الرئيس لتحقيق هذه الغاية؛ لأنهم يعتبرون الدولة هي المؤسسة الأقوى والأقدر على إقامة "الخير" ومحو "الشر" من مجتمع المسلمين.

 

وبالتالي يؤكد معيار الإسلاميين ومنظورهم التشريعي على التزامات الناس أكثر من حقوقهم، وفي هذا الإطار، يُنظر للناس على أنهم "رعايا مطيعون أكثر من كونهم مواطنين أصحاب حقوق". وهنا بالطبع يتنوع الإسلاميون في أدواتهم، وسبل تحقيق هذه الدولة وذلك المجتمع بين الإصلاحي السلمي المدني، والثوري الجهادي العنيف، وبعد انكسار أغلب الحركات الإسلامية المسلحة، مثل جماعات الجهاد في بلادها، توجه الإسلاميون لتدشين سياسة انتخابية تعلن إيمانها بالديموقراطية كأداة للمشاركة السياسية والتزامها بالمرجعية الإسلامية(5).

 

ويعتمد طرح "ما بعد الإسلام السياسي" بشكل رئيس؛ على تآكل شرعية وجود الحركات الإسلامية بصورتها التقليدية؛ سواء كانت في المعارضة أو في السلطة، خاصة مع سعيها إلى التسوية الديموقراطية مع الدولة الوطنية الحديثة، ما دفعها إلى تجديد نفسها، ومراجعة أصولها الفكرية، وبنية مشروعها الفكري والسياسي؛ ومن ثم تخليها عن مشروعها الأيديولوجي التقليدي المتعلق بإقامة الدولة الإسلامية.

 

وهنا يوسع "آصف بيات" تعريف ما بعد الإسلاموية أو (ما بعد الإسلام السياسي) باعتبارها "حالة" وليست "مشروعا" تقوم على محاولة واعية لوضع تصور واستراتيجية لتجاوز الإسلام السياسي في المجالات الاجتماعية والسياسية.

سيلقى مفهوم ما بعد الإسلاموية اهتمامًا واسعا في الفترة القادمة، خاصة مع تعثر تجارب التحول الديموقراطي في أغلب دول الربيع العربي وارتفاع وتيرة العنف، وأزمة الشرعية التي صارت تعاني منها
سيلقى مفهوم ما بعد الإسلاموية اهتمامًا واسعا في الفترة القادمة، خاصة مع تعثر تجارب التحول الديموقراطي في أغلب دول الربيع العربي وارتفاع وتيرة العنف، وأزمة الشرعية التي صارت تعاني منها

فمرحلة ما بعد الإسلاموية بحسب بيات ليست معادية للإسلام، ولا هي علمانية؛ بل تمثل محاولة لدمج التدين والحقوق، الإيمان والحريات، الإسلام والحرية، فهي محاولة لتحويل وقلب المبادئ الأساسية للإسلام رأسا على عقب بواسطة التأكيد على الحقوق بدلا من الواجبات، وعلى التعددية بدلا من الصوت الفردي السّلطوي، وعلى التاريخية والسياقية؛ بدلا من الالتزام الحرفي بالنصوص، وعلى المستقبل بدلا من الماضي في إطار سعي عام يهدف لمناهضة الاستبداد السياسي، وإقامة نظام ديموقراطي مدني يصون الحقوق والحريات(6).

 

في الأخير؛ تظل "ما بعد الإسلاموية" -في التحليل الأخير- مصطلحا يحمل الكثير من الغموض؛ وهي ككل مصطلح "ما بعدي" تتسم بالسيولة الشديدة من حيث تعريفها، فقد اصطُلح فلسفيًّا، على أن الـ"ما بعد" تشير إلى انتهاء توجهات معينة دونما النجاح في تأسيس غيرها، أو إلى تحولات داخل ظاهرة فكرية واجتماعية تنبئ بتطورها على نحو مغاير لأصول تكوينها.

 

إلا أنه يظل مفهوما محوريا سيلقى اهتمامًا واسعا في الفترة القادمة، ويُعاد تقديمه للاستشراف والرصد، خاصة مع تعثر تجارب التحول الديموقراطي في أغلب دول الربيع العربي وارتفاع وتيرة العنف السياسي والطائفي، وأزمة الشرعية التي صارت تعاني منها الدولة العربية الحديثة في منطقة المشرق العربي مع بدء انهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى (7)

المصدر : الجزيرة