ضحايا الصهيونية يتكلمون.. كيف فكك إدوارد سعيد جذور الفكر الصهيوني؟

كتاب "الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها"
كتاب "الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها" (الجزيرة)

"نقطة البداية هي الوعي بما هو المرء فعلا، ومعرفة الذات كنتاج للعملية التاريخية التي رسَّخت فيك آثارا لا نهائية، بدون ترك أي سجل لهذه الآثار، لذلك من المهم أن تعمل على إنتاج سجل خاص بك".

أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن

بهذا الاقتباس يُفتتح كتاب "الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها" للكاتب والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والكتاب في الأصل بحث مطول نُشر في عدد شتاء 1979 من مجلة "النص الاجتماعي" (Social Text) بالعنوان نفسه (1)، وقد نقله إلى العربية فؤاد عبد المطلب، وصدرت الطبعة التي نعتمد عليها في هذا التقرير عن دار شفق للنشر والتوزيع عام 2019.

يمكن اعتبار الاقتباس سابق الذكر بمنزلة لبنة أساسية في النهج الذي يتبعه إدوارد سعيد في كتابه، حيث يلحظ غياب المعرفة التاريخية بالفكر الصهيوني لدى غير الصهاينة، ويحاول من خلال الكتاب طرح رؤية نقدية واعية حول ما مثَّلته الصهيونية بالنسبة للفلسطينيين، من أجل إعادة رؤية التاريخ وإنتاج "سجل"، وفقا للمصطلح الذي استخدمه غرامشي، يُعبِّر عن وجهة نظر الضحية، لا المستفيد، بوصف هذا السجل/الوعي ضرورة أولية للفهم.

"والهوية؟ قلت فقال: دفاعٌ عن الذات…

إنّ الهوية بنتُ الولادة لكنها

في النهاية إبداعُ صاحبها لا

وراثة ماضٍ

أنا المتعدِّد… في

داخلي خارجي المتجدِّدُ

لكنني أنتمي لسؤال الضحية

لو لم أكن

من هناك لدرَبتُ قلبي على أن

يُرَبي هناك غزال الكناية".

محمود درويش

وربما تفسر الأبيات التي كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش في رثاء إدوارد سعيد ما يذكره في كتابه، باعتباره عربيا فلسطينيا مع خلفية فكرية غربية، بحكم تعليمه ونشأته التي حللها في كتاب سيرته الذاتية "خارج المكان"، وهو ما ساعده، كما يشير، على رؤية الظاهرة نفسها عبر وجهتَيْ نظر مختلفتين.

 

في البدء كانت فلسطين

الرئيس محمود عباس لوّح بالعودة لقرار التقسيم الذي يعطي دولة فلسطين 44% من الأرض (الأوروبية)
من خلال فهم الحقائق الديموغرافية والإنسانية لفلسطين، يمكننا فهم القوة السياسية لوعد بلفور الذي وُضع بواسطة قوة أوروبية حول أرض غير أوروبية، متجاهلا سكانها المحليين.  (الأوروبية)

في كتابه هذا يستخدم إدوارد سعيد أدواته الأكاديمية بصفته مفكرا وناقدا كي يرسم استعراضا لتاريخ الفكر الصهيوني في المجتمعات الأوروبية منذ نهايات القرن الثامن عشر، عبر تحليل عدد كبير من النصوص الأدبية، وكذلك كتابات المفكرين والسياسيين والوثائق والتقارير.

إعلان

في البداية يشير إدوارد سعيد إلى أهمية التسمية، ويستعرض كيف أصرت العديد من الأدبيات الصهيونية على نفي استعمال تسمية فلسطين قبل الانتداب البريطاني خارج إطار استخدامها بوصفها تسمية إدارية، وكيف استُخدم هذا النفي فيما بعد لتزييف الحقائق. ويتتبع الإشارات إلى فلسطين في أدبيات الجغرافيين والمؤرخين والشعراء العرب منذ القرن التاسع عشر، وكذلك في الأدب الأوروبي منذ العصور الوسطى، فيما يناقض النفي الصهيوني المزيف للحقائق.

ومن خلال فهم الحقائق الديموغرافية والإنسانية لفلسطين، يُبيَّن كيف يمكننا فهم القوة السياسية لوعد بلفور الذي وُضع بواسطة قوة أوروبية حول أرض غير أوروبية، متجاهلا سكانها المحليين، وكيف أُزيل الواقع القائم في فلسطين بالتأسيس لفكرة نفي الوجود عن فلسطين، ونفي الوجود عن السكان المحليين.

ومن أجل فهم هذه العلاقة المعقدة بين الصهيونية والاستعمار الغربي، يتفحص سعيد الصهيونية تاريخيا بوصفها فكرا سياسيا من ناحيتين؛ من حيث انتمائها وصِلَتها بغيرها من الأفكار والسياسات، ومن الناحية الثانية بوصفها نظاما يراكم السلطة والشرعية الأيديولوجية، بعد إزاحة السكان والأفكار والشرعية السابقة، فيقول: "على المرء أن يعترف بأن جميع الليبراليين، وحتى أغلب الراديكاليين، كانوا عاجزين عن التغلب على المناورة الصهيونية لمساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية". يعي سعيد صعوبة الكتابة عن الصراع الفلسطيني الصهيوني بسبب التلويح الدائم بمعاداة السامية، لكنه يؤكد دور الوعي النقدي في التفرقة بين معاداة السامية وبين معارضة الصهيونية.

ويعود سعيد إلى اللورد بلفور لقراءة ملاحظاته، وتحديدا إلى ملاحظة وضعها عام 1919 يقول فيها: "إن القوى الأربع العظمى ملتزمة نحو الصهيونية، سواء كانت مصيبة أم مخطئة، جيدة أم سيئة"، حتى لو تطلب الأمر "أذية 700 ألف عربي يسكنون الآن تلك الأرض القديمة". وينطلق إدوارد سعيد من هذه الملاحظة في محاولة تفسير شبكة علاقات القوى، التي تأسست في هذا الوقت ما بين الأوروبي الذي يرى نفسه متفوقا، والشرقي الذي يراه أدنى منزلة.

إعلان

ينطلق سعيد في رحلته من تحليل النصوص الأدبية وغير الأدبية التي تظهر فيها بذور الفكر الصهيوني، ومن بين الأمثلة التي يقدمها رواية الكاتبة جورج إليوت الصادرة في 1876 والتي تنظر إلى الصهيونية بوصفها مشروعا دينيا اجتماعيا متكاملا، وإلى الشرق بوصفه مكانا يحتاج إلى إعادة بناء وفقا للأفكار السياسية المتحضرة، مع تجاهل وجود السكان الأصليين. ويرى أن جورج إليوت هنا مجرد مثال لا تختلف عن غيرها من الأمثلة الأوروبية في القرن التاسع عشر في نظرتها إلى الشرق، وهم يتفقون جميعا على توطين الصهيونية في هذه المنطقة بمساعدة القوى الأوروبية الكبرى، كي تأتي بالتنوير والتقدم إلى ما اتفقوا على أنهم "سكان عرب غير موجودين، في أرض فارغة".

"هناك تشابه لا لبس فيه بين تجارب الفلسطينيين العرب على أيدي الصهيونية وتجارب هؤلاء الأشخاص السود والصفر والسمر مع إمبرياليي القرن التاسع عشر الذين عاملوهم على أنهم وضيعون وبشر ثانويون".

الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها، إدوارد سعيد

يشير سعيد إلى أن الصهيونية قُدِّمت لا بوصفها "حركة تحرر يهودية"، لكن بوصفها حركة يهودية للاستيطان الاستعماري في الشرق، مؤكدا كون الآراء الإمبريالية الغربية أساسية في الصهيونية ونظرتها إلى العالم وإحساسها بالآخر. ويوضح أن الأفكار الإمبريالية تشكلت بوصفها فلسفة سياسية هدفها هو التوسع الإقليمي وشرعنته، عبر إعادة تشكيل المنطقة وتحويل شعبها إلى أغراض يمكن استعمالها، وذلك عبر امتلاك قوة وسمعة العلم.

 

في خدمة الإمبريالية

تهجير أهالي الطنطورة عام 1948 (الجزيرة-أرشيف)
نظرت الصهيونية إلى فلسطين كما رأتها الإمبريالية أرضا فارغة، وارتكزت نظرتها على ما وصفته بـ"الغياب الفعال" للسكان الأصليين. (الجزيرة-أرشيف)

لقد تعامل الاستعمار مع السكان الأصليين من مختلف الأعراق الذين سكنوا أراضي الأميركتين وآسيا وأفريقيا بوصفهم عِرقا أدنى من العِرق الأوروبي، يمكن ببساطة تجاهلهم، أو استغلالهم سواء كانوا عمالة أو حتى تجنيدهم في الحروب الطويلة، أو بحد وصف هنري بوانكاريه، فيلسوف العلوم الفرنسي: "استُخدم السكان الأصليون باعتبارهم تلقيما لبندقية الفرنسي الأبيض".

إعلان

وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، تعززت فكرة أن على الأوروبي أن يحكم غير الأوروبي، وهي النظرة التي انسحبت بالتالي على العلاقة بالأرض، فساد الاعتقاد أن الرجل الأبيض/المتحضر يمكنه أن يزرع الأرض ويعمرها، بينما لا يستحق السكان الأصليون/الهمجيون الأراضي التي يسكنونها، التي يزرعونها بطرق غير فعالة (بحسب المعايير الغربية)، وهي الأفكار نفسها التي شرعنت للفصل العنصري في دولة مثل جنوب أفريقيا على سبيل المثال.

ومن أجل تعزيز هذه الأفكار تمكنت الإرادة الأوروبية الاستعمارية من تشويه العلم، وخلق حجج علمية زائفة في علوم الأحياء وفقه اللغة، وهو ما أشار إليه بـ"تشوه العلم"، وقد تطورت هذه المفاهيم العِرقية وانتقلت من حقل علوم اللغة إلى الأحياء والعلوم الاجتماعية.

ومن المنطلق نفسه، نظرت الصهيونية إلى فلسطين كما رأتها الإمبريالية أرضا فارغة، وارتكزت نظرتها على ما وصفته بـ"الغياب الفعال" للسكان الأصليين. ولفحص النظرة الصهيونية للعرب، تطرق سعيد لاستعراض العديد من الأدبيات الصهيونية والإسرائيلية، بما فيها أدب الأطفال الإسرائيلي، الذي لاحظ أنه يدور في أغلبه حول أطفال يهود شجعان يقتلون عربا خائنين وضيعين يحملون أسماء مهينة، وهي أفكار ليست مقتصرة على مؤلفين أفراد، وإنما تستمد أفكارها من مؤسسات الدولة، وفقا لإدوارد سعيد.

ويلفت إدوارد سعيد النظر إلى تفصيلة مهمة، وهي أن نجاح الصهيونية في شق طريقها يرتبط بكونها ليست مجرد رؤية استعمارية عامة، بل سياسة تستند إلى تفاصيل ومؤسسات منظمة، وبرنامج استيطان، ومجموعة من الأدوات للسيطرة على الزراعة والثقافة والتجارة والصناعة، وهو ما يكشف عنه عبر تحليله عددا من مقاطع كتاب "التجربة والخطأ.. سيرة ذاتية" لحاييم وايزمان.

يشرح سعيد كذلك دور الصندوق الوطني اليهودي، الذي يُعد بمنزلة تأكيد مؤسساتي أن الدولة الصهيونية لن تكون دولة مواطنين، لكنها دولة لشعب كان أغلبه في الشتات، ويفحص كيف تأسست أفكار الإبادة وتدمير القرى والمنازل، وكيف تحولت الصهيونية من معاملة العرب بوصفهم غير موجودين نظريا إلى تأسيس اللا وجود واقعيا وقانونيا، عبر تدمير أكبر عدد ممكن من القرى العربية، ليصبح الفلسطيني لاجئا أو مواطنا من الدرجة الثانية، مستثنى من الاستفادة من الموارد المخصصة للمواطن اليهودي.

إعلان

يحلل سعيد كذلك القوانين المعقدة التي يصفها بأنها "كافكاوية"، ومَكَّنت دولة الاحتلال من الاستيلاء على آلاف الهكتارات من الأراضي العربية، مثل قانون مصادرة الملكية في وقت الطوارئ 1949، وقانون ملكية الغائب لعام 1950، وقانون استملاك أراضي عام 1953، وقانون حق الملكية 1958.

ولفحص العلاقة بين العرب ودولة الاحتلال بعد تكوُّنها، يحلل سعيد شهادات عدد من العرب الإسرائيليين الذين عانوا من الوحشية الإسرائيلية، من الإبعاد والسجن وتفجير المنازل والرقابة والإخضاع للأوامر العسكرية، ويستعرض الفصل بين العرب واليهود داخل إسرائيل، وتفرقة القوانين بين اليهود وغير اليهود. كما يستعرض عددا من الحالات التي تُبرز الاستهانة بأرواح العرب، من أبرزها حادثة كفر قاسم في أكتوبر/تشرين الأول 1956 التي قتل فيها أحد أفراد جيش الاحتلال الإسرائيلي 49 فردا من المدنيين العزل، وحين حوكم غُرِّم بقرش واحد، أي أقل من سنت أميركي.

ويعود إدوارد سعيد إلى أدوات تحليل النصوص عبر استعراضه وثيقة وضعها متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية الإسرائيلية يسرائيل كيننغ، التي تسرب نصها الكامل في 1976 وتشمل توصيات تحت عنوان: "مشروع مذكرة معاملة عرب إسرائيل"، وتحمل توصيات حول سُبُل إضعاف المواطنين العرب في إسرائيل وإعاقتهم اقتصاديا وتعليميا، عبر استعمال العلم عقابا سياسيا، والتشجيع على الهجرة، ويرى سعيد أن هذه الأفكار تُقدَّم من منطلق هيمنة أبوية على المواطنين العرب بوصفهم أدنى درجة.

انفو
(الجزيرة)

فحص الوضع الفلسطيني

ومن أجل تحليل النزوح الجماعي في 1948، يعود سعيد إلى تحليل الأوضاع الفلسطينية ما قبل النكبة، في محاولة لإعادة فهم المجتمع بجوانبه المختلفة في مواجهة الانتداب البريطاني والجهد الاستعماري الصهيوني، وينتهي الكتاب إلى إحصاء مختصر للقضايا التي يرى أنها مسائل تحتاج إلى انتباه واعٍ بوصفها مسائل ثقافية ليست أقل أهمية وعملية من غيرها، أبرزها حقوق الإنسان ومشكلة العنف وإرهاب الدولة الإسرائيلية، والحاجة إلى كشف زيف الادعاء الملفق بأن الصراع الفلسطيني هو في جوهره هجوم على الديمقراطية الغربية، ويتساءل عن دور المفكرين في شرعنة امتلاك الدولة لحق ممارسة العنف ضد المدنيين والاعتراف به دون مساءلة.

إعلان

ويُعد هذا الكتاب أو "البحث المطول"، على قصره، مدخلا مهما للبدء في قراءة مشروع إدوارد سعيد الأكبر الخاص بالقضية الفلسطينية، ومن أشهر الأعمال التي نشرها في هذا الإطار "قضية فلسطين" و"غزة-أريحا: سلام أمريكي" و"أوسلو: سلام بلا أرض"، وأخيرا كتاب "الاستشراق" الذي يُعد أهم أعمال سعيد وخلاصة مشروعه في هذا النطاق.

———————————————————————————-

المصادر

  1. Zionism from the Standpoint of Its Victims – JSTOR
  2. الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها – إدوارد سعيد
المصدر : الجزيرة

إعلان