شعار قسم ميدان

بين ركاكة الدراما وحقائق التاريخ.. هذه حقيقة لغة الإمام الشافعي وفصاحته

أثار مسلسل "رسالة الإمام" الذي يعرضه عدد من القنوات المصرية في شهر رمضان المبارك الجدل حول الطريقة التي قُدمت بها لغة وثقافة وتكوين الإمام الشافعي، فتارة يتكلم الممثل القائم بدور البطولة بالعامية المصرية المعاصرة التي تختلف حتى عن بوادر العامية المصرية في العصر الوسيط التي بدأت في الظهور بعد وفاة الإمام الشافعي، وتارة أخرى ينطق العربية بركاكة لا يُخطئها مسمع، مع أسلوب لا يكاد يقارب لغة رجل قُرشي فصيح عاش بين العرب متنقلا بين مكة والمدينة وبوادي الجزيرة العربية سنوات طوال مثل الشافعي.

وحجة القائمين على العمل في هذه المآخذ أن الإنتاج الفني الدرامي لا يخضع للمنطق التاريخي، وهذا كلام مردود عليه؛ إذ ظهرت أعمال فنية مبدعة راعت الجوانب الفنية والدرامية، ولم تخرج عن المنطق والسياق التاريخي والتراثي الذي نشأت في ظلّه فأحيت التاريخ بعد مواتٍ؛ منها فيلم "الرسالة" الذي قام ببطولته الفنان المصري عبد الله غيث، فضلا عن أعمال تاريخية درامية في السنوات العشرين الأخيرة، لا سيّما التي أشرف عليها الكاتب المبدع وليد سيف والمخرج الراحل حاتم علي.

هذا الجدَل والمآخذ دفعت أستاذ اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب جامعة المنوفية بمصر خالد فهمي لوصف مسلسل "رسالة الإمام" بأنه "عبث يرقى إلى مستوى الجريمة"؛ جريمة من حيث لغة الشافعي وملكاته وفقهه وأسلوبه الذين تم تقديمهم في المسلسل بشكل يتناقض تماما مع ما عرفناه عنه في سيرته الذاتية التي حكاها هو عن نفسه، فضلا عن عشرات من شهود العيان والمؤرخين والأثبات الذين تكلموا في حقّه، وعن عبقريته اللغوية والاجتهادية التي اعترف بها حتى المخالفون له. ومثل هذا الجدل يستدعي منا أن نتساءل: كيف كانت لُغة وفصاحة الإمام الشافعي؟ وأين تعلّم هذه اللغة؟ وبماذا وصفت مصادر التاريخ والتراث العربي فصاحة الشافعي ولسانه؟

في ديار هُذيل

من المعروف على أصح الروايات أن محمدا بن إدريس بن شافع المُطَّلبي القُرشي وُلد في مدينة غزة على ساحل البحر المتوسط لأب قُرشي من بني المُطَّلب في حدود عام 150هـ، والمطلب كان له ثلاثة إخوة هم هاشم، الذي من نسله النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعبد شمس، ومن نسله الصحابي عثمان بن عفان والأمويون ثم نوفل. وعلى هذا فإن نسب الشافعي يلتقي مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد مناف.

وقد تُوفي والد الشافعي صغيرا، وعرف الفتى وأمه الأرملة الشابة معنى الفقر واليُتم في سن صغيرة وهو إذ ذاك ابن عامين، فقررت أن تأخذه إلى قومه قُريش في بطون مكة المكرمة، كي يتربَّى بينهم، وينال حظا من "سهم ذوي القُربى"، وهو مال خُصص لذوي قُربى النبي صلى الله عليه وسلم وفق أنصبة معلومة. ومن ثم بقي الشافعي بينهم حتى أتم حفظ القرآن الكريم، وتعلم على يد علماء مكة مثل سفيان بن عيينة والزنجي وغيرهم، ثم طمحت نفسه المحبة إلى اللغة العربية والأدب أن يستزيد من هذا الجانب عند أشعر العرب وأكثرهم فصاحة وهم قبائل هُذيل الذين كانت ديارهم تقع حوالي مكة، ولهم بها عدد ومنعَة[1].

ولم يكن اختيار الشافعي للمكوث بين قبائل هذيل اعتباطيا أو لقربها من دياره في مكة فقط، وإنما لأنهم بالفعل كانوا أكثر العرب فصاحة وشعرا في الجاهلية وحتى زمن الشافعي في القرن الثاني من الهجرة الذي بدأت تُداخله اللّحنة بسبب مخالطة غير العرب، ولهذا يقول ابن حزم فيهم: "وفي هُذيل نيف وسبعون شاعرا مشاهير"[2]، وكانت إقامة الشافعي بينهم طويلة، إذ بلغت سبع عشرة سنة بتمامها، ولهذا لما التقاه مصعب حفيد الزبير بن العوام والشافعي لا يزال فتى، قال عنه: "كتبتُ عن فتى من بني شافع من أشعار هُذيل ووقائعها، وقرأ: لم ترَ عيناي مثله". ويسأله ابن أخيه الزبير بن بكار فيقول: "أي عمّ! أنت تقول لم ترَ عيناي مثله؟! قال: نعم، لم ترَ عيناي مثله"[3]. وهذا أول اعتراف من شخصية قُرشية ذات مكانة بعبقرية الشافعي وهو لا يزال فتى صغيرا، بل ويأخذ عنه الأدب وأشعار قبيلة هُذيل التي وعاها أثناء مُقامه بينهم.

إمام في اللغة والبيان

اشتهر الشافعي بهذه اللغة والفصاحة بين العرب الطارئين على مكة، ومنهم العلامة اللغوي الأشهر في ذلك العصر عبد الملك بن قريب الأصمعي المشهور بـ"راوية العرب" الذي يقولُ: صححتُ أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة يُقال له محمد بن إدريس[4]. ولم يقتصر حب الشافعي لأشعار الهذليين فقط، بل يبدو أنه أوعبَ شعر فطاحل العرب قبل الإسلام وبعده، ومنهم شاعر الصعاليك الشهير الشَّنفرى. ولقد سمعه مرة فقيه مصر ومؤرخها وتلميذه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعتُ الشافعي يقول أروي لثلاثمئة شاعر مجنون. ولهذا يعض ابن عبد الحكم المصري على يديه متحسرا أن التقى الشافعي متأخرا، لأنه وُلد عام 186هـ بينما توفي الشافعي في عام 204هـ، فيراه جبلا في كل علم من علوم العربية والشريعة، فيقول: "لو أدركتُ الشافعي وأنا رجل لاستخرجتُ من بين جنبيه علوما جمة، ما كان أتمّه في كل فنّ! لقد قرأتُ عليه أشعار هُذيل، فما ذكرتُ له قصيدة إلا أنشدنيها من أولها إلى آخرها. على أنه مات وله أربع وخمسون"[5]، يقولها ابن عبد الحكم متحسرا على موت هذا العلامة في تلك السن.

ولهذه الفصاحة التي عُرف بها الشافعي مذ كان فتى وشابا فإنه أصبح مقصدا لأهل العربية والمتخصصين في لغات العرب وآدابهم، وكنتَ تراهم بين يديه في مكة أو المدينة أو بغداد أو الفسطاط وكأنهم يقصدون شيخا من شيوخ الأدب ولغات العرب، لا رجلا مؤسِّسا لعلم أصول الفقه والشريعة، ولمذهب جديد من المذاهب الأربعة الكبرى في عالم الإسلام. ولهذا كان أحد تلاميذه يقول: "كان قومٌ من أهل العربية يختلفون (يحضرون) إلى مجلس الشافعي معنا، ويجلسون ناحية، قال: فقلتُ لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم (أي لا تهتمون بأصول الفقه والفقه التي يُدرِّسها الشافعي)، فلمَ تختلفون معنا؟ قالوا: نسمعُ لغة الشافعي"[6]. أما تلميذه الآخر يونس بن عبد الأعلى المصري فيقول: "كان الشافعي إذا أخذَ في العربية قلتُ هو بهذا أعلم، وإذا تكلَّم في الشعر وإنشاده قلتُ هو بهذا أعلم، وإذا تكلَّم في الفقه قلتُ هو بهذا أعلم"[7].

وكما اعترفَ له شيخه الإمام مالك، إمام المذهب المالكي ومؤسسه، بالمكانة والعلم والفصاحة، فقد اعترف له تلميذه أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي بهذه المكانة، حتى كان يقول: "كلام الشافعي في اللغة حُجَّة"[8]. ولئن لم يُخصص الشافعي وقته في تصنيف الآداب واللغات كما فعل أئمة العربية مثل الخليل بن أحمد والأصمعي والأعمش والمبرد وغيرهم ممن اهتموا بهذا اللون من التصنيف في التراث العربي، فقد ربحته الشريعة مجتهدا عظيما[9]، ومدافعا عن السُّنة النبوية التي تعلمها من شيخه الإمام مالك.

ولئن كان مالك وأحمد بن حنبل من أئمة الفقه والحديث يثنون عليه؛ فإن رجلا مثل الجاحظ أديب عصره وأوانه يقر بمكانة الشافعي الأدبية واللغوية، ويراه واحدا من عباقرة عالم الإسلام في هذا الميدان. والجاحظ كما نعلم كان معتزليا، بينما كان الشافعي سُنيا ملتزما بالسُّنة على طريقة شيخه الإمام مالك، كارها للمعتزلة، مشنِّعا عليهم. ورغم ذلك يعترف له الجاحظ بهذه الموهبة حين يقول: "نظرتُ في كُتب هؤلاء النبَغة الذين نبغوا في العلم، فلم أرَ أحسن تأليفا من المُطَّلبي؛ كأنَّ فاه ينظُم درًّا إلى دُرٍّ"[10]. ويبدو تقدير الجاحظ الكبير للإمام الشافعي حين ينقل عنه في بعض كُتبه ثم يثني عنه قائلا: "رضي الله عنه".

(مواقع التواصل)

وقد كان لإلمام الشافعي بلغة العرب وأشعارهم وأيامهم وأدبهم أثره العظيم في مؤلفاته فيما بعد، ففيها البلاغة الواضحة، والفصاحة الخالصة. ولقد أثرت في أسلوبه الذي أحبَّه كل أحد قرأه، حتى إن الإمام مالك أستاذه قد استطربه وأحب منه سماع الموطأ لما رآه فصيحا لا يلحنُ أو يُخطئ في القراءة، فختمه عليه في أيام قلائل. ولهذا السبب بزغ الشافعي في تفسير الغريب من الحديث النبوي والقرآن، حتى إن سفيان بن عُيينة شيخ أهل مكة وفقيهها قد سأل تلميذه الشافعي يوما وهو جالس بين يديه عن معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‏أَقِرُّوا ‏ ‏الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا".

يحكي هذه القصة الإمام البيهقي في كتابه "مناقب الشافعي" فيقول: "قال الشافعي لابن عيينة: الرجلُ من العرب (قبل الإسلام) كان إذا أراد سفرا خرج من البيت فمرَّ على الطير في مكانته يُطَيِّرُهُ، فإن أخذ يمينا مَرَّ في حاجته، وإن أخذ يسارا رجع. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «أَقِرّوا ‌الطيرَ على مكانتها»"[11]، (أي لا تهيجوها لتطير وتتطيَّروا بها؛ إذ نهى الإسلام عن الطيَرة).

وهو في تفسير القرآن الكريم مثله في الفصاحة كمثله في تفسير الحديث وأشعار العرب وغريب لغاتها، ولا غرو في ذلك إذ نشأ الشافعي حافظا للقرآن الكريم، مُلِما بالسُّنة النبوية، متعلما في مدرسة عبد الله بن عباس المفسر الأعظم في الإسلام في مكة المكرمة. وقد تلقى عليه تلامذة نهل منهم الشافعي، وكان سفيان بن عيينة مثلما يرجع للشافعي في غريب الحديث الشريف إذا سأله سائل عن تفسير آية التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا. ولهذا يقول تلميذ الشافعي يونس بن عبد الأعلى المصري: "كنتُ أولا أُجالسُ أصحاب التفسير وأناظر عليه، وكان الشافعي إذا ذكر التفسير كأنه شهد التنزيل"[12].

(مواقع التواصل)

ومع هذا تعمَّد الشافعي أن ينتقي اللفظة السهلة في مُصنفاته مثل "الأم" و"الرسالة" و"التفسير" و"المسند" وغيرها. ويتعجب أئمة العلوم الشرعية واللغوية من جزالتها وفصاحتها، وسمُّوها فوق غيرها من مصنّفات العُلماء حتى يومنا هذا؛ فهذه اللغة الفذة التي امتاز بها الإمام الشافعي جعلت رجلا أفنى عُمره في دراسة الأدب واللغة العربية، مستقصيا ألفاظها وغريبها ومهجورها، متخصصا فيها وهو الإمام محمد بن أحمد الهروي الأزهري صاحب المعجم الشهير "تهذيب اللغة" -نسبته ليست إلى الأزهر الشريف، وإنما لجَدِّه الأزهر- جعلته يتتبع غريب ألفاظ الإمام الشافعي العربية المحضة ويجمعها في كتاب بعنوان "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" فشرحها الأزهري وسهَّل بها على طلبة العلم بل والعلماء ممن يستصعبون هذه اللغة الفذة.

وقد صرَّح الأزهري بهذا في مقدمة كتابه الآنف بعدما تتبع مصنفات فقهاء وعلماء العراق والحجاز فيقول: "وألفيتُ أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -أنار الله برهانه ولقاه رضوانه- أثقبَهم بصيرة، وأبرعهم بيانا، وأغزرهم علما، وأفصحهم لسانا، وأجزلهم ألفاظا، إذ كانت ألفاظُه -رحمه الله- عربية محضة، ومن عُجمة المولّدين مصونة، وقدرتُ تفسير ما استُغرب منها"[13]. وفي مرة أخرى يقول: "كنّا إذا قعدنا حوله لا ندري كيف يتكلم كأنه سحر".

واللافت أن لغة الشافعي في المناظرة والشرح والتلقين في مجالس علمه كانت أفصح منها في كُتبه؛ لأنه أراد من وراء ذلك أن تكون لغته المكتوبة أسهل للعوام وطلبة العلم. وكان تلميذه الربيع يؤكد ذلك فيقول: "لو رأيتَ الشافعي وحُسن بيانه وفصاحته لعجبتَ منه، ولو أنه ألَّفَ هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة لم يُقدر على قراءة كُتبه لفصاحته، وغرائب ألفاظه، غير أنه كان في تأليفه يجتهد في أن يوضِّح للعوام"[14].

(مواقع التواصل)

أما محقق كتابه "الرسالة" في أصول الفقه، الشيخ المحدِّث أحمد شاكر الأزهري، وقد كان على المذهب الحنفي دارسا ومتخصصا، فقد وقع في غرام لغة الشافعي وعلمه الأصولي وعبقريته، حيث يعترف في مقدمة تحقيقه لكتاب الرسالة للإمام الشافعي فيقول: "ولو جاز لعالم أن يقلد عالما كان أولى الناس عندي أن يقلد: الشافعي. فإني أعتقد -غير غال ولا مسرف- أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط. مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والإيداع في إقامة الحجة وإفحام مُناظِره. فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة. تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده"[15].

بعد ما سُقناه من أدلة قاطعة على تسنُّم الإمام الشافعي الذروة في عالم اللغة العربية وبلاغتها، وسبره لأغوارها، واعتراف معجبيه ومخالفيه بموهبته، نرى أن من المثير للعجب أن تُجسَّد شخصيته في عمل درامي يجعله يتكلم بالعامية المصرية المعاصرة، على شاكلة حواره مع تلميذه البويطي الذي يقول له في المسلسل: "أكيد سمعتها كتير بس هاقولها تاني: نورت الفُسطاط"، فيرد عليه الشافعي: "الفسطاط منورة بأهلها!".

_________________________________________________

المصادر

  • [1] ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص198.
  • [2] ابن حزم: السابق ص197.
  • [3] ابن حجر العسقلاني: توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس ص59.
  • [4] تهذيب الأسماء واللغات ص50
  • [5] توالي التأسيس ص60، 61.
  • [6] ياقوت: معجم الأدباء 17/299.
  • [7] معجم الأدباء 17/300.
  • [8] توالي التأسيس ص57.
  • [9] عبد الغني الدقر: الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر ص270.
  • [10] توالي التأسيس ص59.
  • [11] البيهقي: مناقب الشافعي 1/308.
  • [12] توالي التأسيس ص58.
  • [13] الأزهري: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، ص17.
  • [14] توالي التأسيس ص77.
  • [15] الشافعي: كتاب الرسالة، مقدمة المحقق الشيخ أحمد شاكر ص5.
المصدر : الجزيرة