مسرح إدوارد ألبي.. صورة للواقع المتناقض

ميدان - إدوارد ألبي
"كل واحد يحصل في النهاية على ما يظن أنه يحتاجه"(1)

نزل إدوارد ألبي عن مسرح الحياة يوم 16 سبتمبر 2016 عن عمر 88 عامًا بعد صراع مع المرض. ألبي، المسرحي الأميركي، صاحب الثمانية عشرة عملًا مسرحيًا وثلاث جوائز بوليتزر غير العديد من الجوائز الأخرى، له نفس مكانة أرثر ميلر وتينيي ويليامز وأوجين أونيل كأعمدة للمسرح الأميركي. العمل الأشهر له كان "من يخاف فيرجينيا وولف" والذي حجز لنفسه مكانة مهمة في السينما كما المسرح، وشارك في فريق التمثيل ريتشارد بيرتون أمام اليزابيث تايلور وإخراج مايك نيوكلاس. نال ألبي جائزة البوليتزر الأولى عام 1966م عن مسرحية التوازن الثمين، الثانية عام 1975م عن مسرحية مشهد البحر، والثالثة عام 1994م عن مسرحية ثلاث نساء طويلات(2).

وبرز على خارطة المشهد الثقافي والمسرحي الأميركي في الخمسينيات من خلال تقديمه لعدد من الأعمال التي تناولت المجتمع الأمريكي، والتي تمتلئ -أعماله- بتفاصيل نمط الحياة المزيفة والمقنَّعة والمعاناة وخيبة الأمل في تلك المرحلة التي شهدت تحولًا في حياة المجتمع الأميركي من حالة الهدوء في فترة حكم أيزنهاور إلى مرحلة الستينيات المضطربة، كل ذلك إلى جانب مسائل عدة بنفس ساخر كالخلاص والتطهر وهوس القوة والقيم الاجتماعية.

كان يتطلع لأن يكون أكثر من مجرد كاتب مسرحي.. أن يكون بصورة ما مسرحيا شاملا، اشترك بنفسه في إنتاج بعض مسرحيات لكتاب آخرين، داعب فكرة صناعة الموسيقى، كتب نصوصا للأوبرا، وقد كان مترجمًا واعيًا للمسرح الأميركي كمؤسسة، وحتى ناقدا عاما للدراما المهنية. وأسس وحدة الكتاب المسرحيين التي كان يديرها، المسرحيون 66 (شجعت 30-35 كاتبًا) لأنه لم يكن يعجبه المناخ الذي يعمل فيه المسرحيون، وظن أن مساعدتهم من واجبه.

بدأ ألبي الكتابة في سن السادسة، وتوقف في سن السادسة والعشرين لأن كتابته كانت تتطور ببطء. في الخامسة عشر، بعدما توقف عن كتابة الشعر الذي بدأ به، قرر تجريب حظوظه في الرواية، فكتب رواية "بالغة السوء" على حد تعبيره، كانت مضحكة ولكنه ظل يعتز بها كثيرًا. بعد ذلك، في التاسعة عشر، كتب رواية أخرى من مائتي صفحة لم تكن أفضل من سابقتها. حافظ ألبي على تصميمه أن يكون كاتبًا، خصوصًا بعد أن فشل في الاندماج مع المجتمع وطرده من مدرسة في نيو جيرسي ومن الجيش بعدها (3).

درس إدوارد ألبي المسرح في جامعة هيوستن وعمل أستاذًا فيها (رويترز)
درس إدوارد ألبي المسرح في جامعة هيوستن وعمل أستاذًا فيها (رويترز)

ألبي المولود لأبوين تخليا عنه بعد أسبوعين من ولادته، والمتبنَى من أسرة أرستقراطية في بلد آخر غير الذي وُلد فيه (ولد في واشنطن وأخذه من تبنوه إلى نيويورك) لم يعرف أمه التي ولدته إلا بعد وفاتها. تلقى تعليمه في مدارس خاصة، لم يكن مهادنًا أو هادئًا وأظهر تمرده في سن مبكرة، خاصة بعد رفض والده لمسألة أن يكون كاتبًا. فغادر المنزل وهو في العشرين من عمره، وأصبح صديقًا لعدد من الكتاب والفنانين مثل وليام إنج وآرون وبلاند ووليام فلانجان، وعمل في بعض المهن المتواضعة قبل أن يتجه إلى دراسة الفنون والأدب. ولأنه لم يكن روائيًا أو شاعرًا جيدًا، فكر في مسألة بدت أفضل قليلًا وهي تجربة الكتابة المسرحية، فدرس المسرح في جامعة هيوستن وعمل أستاذًا فيها(4).

حكاية حديقة الحيوان

كتب ألبي "حكاية حديقة الحيوان" كهدية لنفسه في عيد ميلاده الثلاثين. كان ممتلئًا بالخواء وعدم الرضا والتيه، ومع فشله في كتابة الرواية والشعر، باتت قناعته أنه سيكون مثل معلمه ويليام فلانجان أسيرًا لطموحاته الأدبية دون معرفة لأي مكان ستأخذه تلك الطموحات.

جلس في مكتب ويسترن يونيون الذي كان يعمل فيه، على كرسي قديم وأمامه آلة كاتبة متهالكة على منضدة لم تكن أحسن حالًا، وبدأ الكتابة. "السطور كانت تنساب بسرعة كأنه انفجار. وهكذا لم تتوقف الكلمات" يقول ألبي.

نجحت المسرحية، مسرحيته الأولى، وكان ذلك مفاجأة ومصدر إلهام له، بعدما رفضتها، بسبب غرابة أحداثها، مسارح أميركا، نيويورك ومسارح برودواي بالتحديد، الذين عاد إليهم واحتضنوا أعماله بعد عرض المسرحية ونجاحها الكبير في برلين، وكتابة ناقد لمقال في النيويورك تايمز يرثى فيه حال المسرح الأميركي: "يتوجب على كاتب أميركي أن يتوجه إلى برلين لإنتاج مسرحيته وعرضها"(5).

 مسرحية
 مسرحية "حكاية حديقة الحيوان" لإدوارد ألبي (مواقع التواصل)

تدور المسرحية حول شخصين مختلفين كلية يمثلان الصراع الطبقي، بيتر وجيري، يلتقيان في حديقة السنترال بارك. جيري صورة للإنسان المهزوم والمحبط الذي لا يملك شيئا اللهم غرفة في بناية معدمة ويعيش مستسلمًا لهذا الوضع. أما بيتر فيعيش حياة على النقيض تمامًا؛ يعمل في دار نشر، متزوج وله ابنتان، ويصعد السلم الاجتماعي بثبات محاولًا زيادة أمواله.

يفيض الحوار بينهما بالمرارة والسخرية اللاذعة من الواقع، وتكون نهاية اللقاء/المسرحية أن يزيح جيري بيتر عن المقعد بالتدريج ويرمي له بسكين ليدافع بها عن نفسه، لكنه، بدلًا من ذلك ينقض على نفسه بالسكين، في إشارة لتيمة المسرحية وهي النزعة التدميرية في كل واحد والتي قد تكون ضد نفسه أو ضد محيطه، تلك النزعة التي تجعل من الإنسان حيوانا يمتلك القوة.

من يخاف فيرجينيا وولف

كتب ألبي مسرحية "من يخاف فيرجينيا وولف" عام 1961م، وتدور أحداثها حول امرأة (مارثا) لا تتوقف عن مضايقة زوجها (جورج) يزورهما ضيفان وأمامها يعري كل واحد منها الآخر ويتهمه بالخيانة.

خطر عنوان المسرحية على بال ألبي لما كان مرة في أحد الحانات، وأسفل المشرب في الحانة كان هناك مرآة كبيرة، اعتاد الرواد – رواد الحانة- أن يسلوا وقتهم بنقش كلمات ورسومات رديئة عليها، وإحدى تلك النقوش كان "من يخاف فيرجينيا وولف". لم يكن قد بدأ في كتابة المسرحية بعد، لكنه لما بدأ الكتابة تفجر العنوان في عقله مرة أخرى.

اختار ألبي شخصية الروائية الإنجليزية فيرجينيا وولف لتكون رمزًا للموت والتفكك واهتراء الحياة وافتقادها للجدوى. من يخاف فيرجينيا وولف، من يخاف الذئب الكبير السيء، العيش دون أوهام زائفة.

كتب إدوارد ألبي مسرحية
كتب إدوارد ألبي مسرحية "من يخاف فيرجينيا وولف" عام 1961 (مواقع التواصل)

لما بيعت المسرحية لتكون فيلمًا، كان ألبي قلقًا بخصوص ما قد يحدث لها على شاشة السينما. في البداية ترشح روك هدسون ودوريس داي، ثم بدأ التصوير بالفريق الفعلي: المخرج مايك نيوكلاس، لم يكن سبق له أن أخرج فيلمًا من قبل كونه مخرجًا لبعض المسرحيات الهزلية. ريتشارد بيرتون وإليزابيث تايلور، الذي كان من الغريب مشاركتها، إذ كيف ستؤدي امرأة في الثلاثين دور امرأة تجاوزت الخمسين؟

استوعب النقاد السينمائيين المسرحية كفيلم بصورة أكبر من نقاد المسرح. ورغم النجاح الكبير، لم يكن ألبي سعيدًا جدًا لأن الفيلم أظهر الجانب العاطفي وأخفى الجانب الذهني كما يقول. ما أراحه أنه لم يكن هناك سيناريو بالمعنى. إرنست ليهمان، الذي أًسند إليه كتابة السيناريو لم يقم بالكثير من التغييرات على نص المسرحية، المسرحية كانت موجودة بالكامل تقريبًا، اللهم بعض الحذف والتبسيطات هنا وهناك. وخرج الفيلم جميلًا بصورة مهولة؛ مايك نيكولاس استغل الكاميرا في توضيح نوايا ألبي بعدما فهمهما، وتايلور تخلت عن كونها حسناء وأدت الدور بمهارة.

ألبي ومسرح العبث

قال بعض النقاد إن مسرحيات ألبي عامة تفتقر إلى وجود تيمة، البعض قالوا إنه حافظ على نفس التيمة بصورة أخف، وآخرون قالوا إنه مع كل مسرحية، يداهم، بشجاعة، تيمة جديدة.

بالنسبة له، كان يصعد إلى غرفته، لمدة تقارب الثلاثة أو الأربعة أشهر كل سنة، ويكتب. لا يولي اهتماما كبيرا إلى مدى ترابط التيمة بين كل مسرحية. كان يظن أن هذا خطير جدًا ليقوم به، لأنه في المسرح الواحد واثق بنفسه بما يكفي لئلا يخطط للمستقبل أو علاقة تيمة كل مسرحية بالأخرى. الواحد يأمل، أن يتطور، أن يكتب بشغف، وذلك ما يجب أن يقف عنده، أو هكذا يعتقد ألبي. تتأسس التيمة، طبيعة الشخصيات، وطريقة الإخراج من البداية إلى النهاية بفعل اللاوعي. لو عمل الواحد عن طريق الحدس، ثم، ألا يخرج الأمر عن السيطرة؟ حين يتحكم الواحد في الشكل، لا يقوم بذلك بواسطة ساعة توقيت أو رسم بياني. الواحد يقوم بذلك عن طريق الحس، ومرة أخري بديهيًا(6).

أُشير كذلك إلى تأثر ألبي بمسرح العبث، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. من نظريات أرتو (مسرحي فرنسي ساهم في بلورة مسرح العبث) وهو نفسه يجيب أنه وضع قائمة -لمتعته الخاصة- تضم، كتاب المسرح، كتاب المسرح المعاصرين، الذين تأثر بهم كما يقول النقاد. سجل حوالي 25 اسمًا، ضمت القائمة خمسة أعمال لم يعرفهم، لذا قرأهم وبالفعل يمكن القول إنه قد تأثر بهم، ويتهكم على حكم وصف مسرحه بالعبثي: "المشكلة أن هؤلاء الناس الذين كتبوا تلك المقالات، وجدوا التشابهات التي لا بد منها لمن يكتبون نفس النوع، في نفس القرن، في نفس الكوكب، ووضعوها معًا في مجموعة"(7).

إدوارد ألبي تحدث باستمرار عن تورطه مع الموسيقى وأنها قد ألهمته كتابة المسرح (رويترز)
إدوارد ألبي تحدث باستمرار عن تورطه مع الموسيقى وأنها قد ألهمته كتابة المسرح (رويترز)

يمكن القول إنه تأُثر بأرتو بصورة غير مباشرة، تأثر بسوفوكليس ونويل كوارد (مسرحي بريطاني). التأثير مسألة متفاوتة سواء إيجابًا أو سلبًا، والكاتب الذي أعجب ألبي دون أية تحفظات أيًا ما كانت هو صمويل بيكيت. أعجب كذلك بجان جينيه وتينسي ويليامز وهارولد بنتر.

المسرح صورة للواقع المتناقض

تحدث ألبي باستمرار عن تورطه مع الموسيقى وأنها قد ألهمته كتابة المسرح. كان يجد هذا صعبًا جدًا، لكنه كان مرتبطًا بطريقة أو بأخرى بالموسيقى منذ طفولته. يظن، والأفضل يحس، أن هناك صلة بين البناء الدرامي، النموذج، صوت وشكل المسرحية، وما يناظره في البناء الموسيقي. الاثنان يتعاطون مع الصوت بالطبع، وأيضًا مع الفكرة والتيمة. وجد أنه حين تسير مسرحياته على نحو جيد فإنها تشبه مقطوعات موسيقية، ولكي يكون أكثر دقة بذلك الخصوص يقول: "لن أكون قادرًا على الحديث عنه، بكل بساطة، إنه شيء أحسه".

كان حس ألبي بالواقع والمنطق مختلف عن معظم الناس. المسألة ربما تكون بسيطة هكذا. بعض الأمور المنطقية بالنسبة له، ليست على نفس الدرجة بالنسبة لباقي الناس. بصورة تحليلية، ربما هناك أسباب أخرى لكون المسرحيات ليست مترابطة بمنطقية، هذا محتمل. لكن يجب ألا يُغفل أن الناس حين لا تعجبهم الطريقة التي تنتهي بها المسرحية، يميلون إلى لوم المسرحية. هذا محتمل أيضًا. مثلًا، لم يميل ألبي إلى أن تنفيس العواطف في مسرحية ليس ضرورة أن يحدث في مسار المسرحية، عادة، يجب أن يحدث بعدها. لو اُتهم عدة مرات بكتابة مسرحيات حيث النهاية متباينة، في الواقع، هذه هي الطريقة التي كان يجد الحياة عليها، والمسرح صورة للواقع المتناقض.


إعلان