"الإنسان الهش".. كيف صور "فالك ريتشر" مخاوف المستقبل؟
في ظل هذا الوضع، كان المسرح يتطور ويستعد ليتخذ دوره ويواجه العصر الجديد، فظهر مسرح العولمة الذي اعتمد على المسرحين؛ الملحمي والتسجيلي اللذين سبقاه، دون أن يتخذ شكل أي منهما. حيث ازدهر مسرح العولمة في ألمانيا بالأخص، وأشهر كتابه هو المخرج والمسرحي فالك ريتشر، وسعى ريتشر إلى مواجهة سطوة الحياة الاستهلاكية التي يعيشها الإنسان، والتي أصبح فيها مجرد رقم ضمن شبكة واسعة دون معرفة من أين يبدأ وأين سينتهي! مجرد عمليات حسابية سريعة ومتعاقبة.
اعتمد بريشت في المسرح الملحمي على كسر الإيهام والتصريح بأن المسرحية على خشبة المسرح تمثيل في تمثيل، بجانب تعدد المشاهد وسرعة التنقل بينها. بريشت كان قد عاصر صعود هتلر، وهرب من ألمانيا إلى الدنمارك حين استولى على السلطة، وهرب من الدنمارك إلى أمريكا هربًا من قوات الجيش الألماني المُجتاحة لأوربا وقتها. لم تعجبه الحياة الأمريكية، وتعرض لمحاكمة هناك قبل أن يعود إلى ألمانيا بعد التقسيم (رفضت ألمانيا الغربية دخوله فذهب إلى ألمانيا الشرقية) ليواصل مسيرته متخذًا الفن سلاحه وعزاءه.
المسرح التسجيلي اعتمد على المنهج الجدلي، أسلوبه؛ البساطة في الديكور والاعتماد على بعض الدلالات الرمزية، ويختار مادته من المقالات الصحافية، والخطب والسجلات والمحاضر والأحداث الموثقة المتعلقة بموضوع المسرحية.
كتب ريشتر حوالي 17 مسرحية حتى الآن، غير الدراما الإذاعية، وترجمت أعماله لأكثر من عشرين لغة، ومن أشهر مسرحياته: مدينة إلكترونية، حالة استثنائية، تحت الجليد وسبع ثوان. وقدمت عروضها على أشهر مسارح العالم، وهو نفسه قام بإخراج بعض العروض بجانب أعمال كتاب آخرين. يرى ريشتر أن المسرح جزء من شبكة عالمية كل واحد من ضمنها، والعولمة الرأسمالية بالنسبة لها أسلوبُ حياةِ نظامٍ غير مناسب لأغلب الناس، وأننا ننتظر حركة احتجاج واسعة ضد كل ما هو قائم تحت مسمى العولمة التي لا تتوقف عن تأكيد الشعور بالعجز، والاستسلام لما يفرضه وحش العولمة.
يمكن وصف مسرح ريشتر بالـ(farce) "الكوميديا المرعبة"، يفضح بنعومة وسخرية حقيقة الوعي بالتكنولوجيا، والحدود بين المستفيدين وضحاياها. ويقول فريد كرومان عن عوالم ريشتر المسرحية: "إنها تتطابق في رؤيتها مع نظرية عالِمِ الاجتماع، ريتشارد سينيت، التي لخص فيها مصطلح المرونة بأنها عبارة عن بنية السلطة في النظام الاجتماعي المعاصر للرأسمالية… والاستهلاك كهدف للحياة، مؤكدًا أن عمليات بلا سيطرة تنتج نظامًا لا يمكن السيطرة عليه، إنه أسلوب جديد لفقدان الذاكرة وفقدان التاريخ".
باول نيمان بطل المسرحية، يعمل مستشارًا في إحدى الشركات المختصة بتصفية المصانع والشركات، ويكتب تقارير لمتابعة مستوى الإنتاج والارتقاء به إلى أقصى حد، بجانب التأكيد على المواصفات الضرورية للعاملين في المؤسسة، وضرورة التنافس والتحلي بالمرونة والمثابرة. يعيش نيمان حياة لاهثة؛ يتنقل ما بين استراحات المطارات ومواعيد العملاء وغرف الفنادق، ليصدر القرارات المهمة بخصوص تسريح العمال أو بقائهم؛ فلابد من تسريح البعض لتستمر الآلة في الدوران، وما المشكلة في ذلك؟ يبدو ذلك قاسيًا! غير إنساني! هناك دول بأكملها لم يعد أحد يحتاجها إن لم تكن قارة بأكملها، كأٌفريقيا مثلًا.
ثم بمرارة يكتشف نيمان أن الدور سيأتي عليه، إن لم يكن قد اقترب بالفعل؛ فهو قد تجاوز الأربعين، وهناك من يراقبه ويكتب عنه التقارير. ليشعر حينها أن وجوده في المؤسسة أصبح مهددًا، وأن الفزع بات يتملّكه ويستحوذ عليه؛ دوره قد انتهي، وها هي الشركة التي أعطاها عمره، تطرده.
لم يعد يلحظ أحد أنه موجود، ولا أحد يرغب في أن يكون معه، رأسه مثقلة وعليه أن يكون كل الناس الذين يرغب أن يكون معهم؛ فصار يتحدث مع نفسه، ويتصارع مع نفسه. العالم يتحلل أمامه، ولا شيء حوله له معنى، كل شيء يتفتت، ولا شيء يبقى كاملًا. وأثناء المونولوج الأخير في المسرحية، يتساقط الجليد، ويتجمد الممثلون ويخيم الصمت، ما يبدو أنه المصير الذي ينتظرنا.
وفي إحدى رحلاته ينسى رمز رحلته ويخطئ المكان، لم يعد يعلم أين هو، ولا كيفية مواصلة الطريق، لتصبح متعته الوحيدة، مشاهدة الأفلام الإباحية على القنوات المتكررة في الفنادق، بعدما أًصبح بعيدًا عن حبيبته جوي (الشخصية الثانية في المسرحية) والتي تعمل في مطار ما، بعدما تخلت عن دراستها بسبب عدم قدرتها على تحمل المصاريف، وفي عدة أسابيع، كانت قد عملت في حوالي 27 وظيفة، بداية من بيع الكوكاكولا مرورًا بسير اللحوم والوقوف خلف خزينة أحد مطاعم الأكل السريع.
لا فرصة للتواصل رغم التطور، هو مشغول ليل نهار في التنقل بين بلد وآخر، وهي مشغولة ليل نهار خلف خزينة المطعم. تقول جوي له: "نحن نعيش في زمن يائس، زمن تعيس، يستحيل فيه أن أنتمي إليك، يستحيل فيه أن أجد مكانًا بجوارك". (3)
يصبح الحب مستحيلًا، وتفقد الحياة معناها، وينحصر أملهما في أن يحدث خطأ يتيح لهما أن يتلاقيا مرة أخرى. ومع الوقت يبدأ كل واحد منهما في التفكير بفردية، ليهتم بنفسه لا غير، ويبدأ كل واحد منهما يبتعد عن الآخر ويخافه، يبتعد ويخاف من الحب نفسه، الكل فارغ تمامًا ولا يعرف من يكون، في النهاية تقول جوي: "أحبك"، يرد طوم: "هذه الكلمة تخيفني".
يتشدق براد أنه يؤمن بالله فعلًا، وبالرئيس، وبأن الله نفسه هو الذي يختار أهدافه، كما اختار السيد الرئيس، وهو لا يعرف أصلًا من يقتل أو ماذا سيضرب ضمن أهدافه التي تُـحدَّد له، هو فقط يُنفذ ما يؤمر به، والذي لابد أنه الصالح.
على حاملة طائرات تحمي أمريكا في مياه بعيدة عن سواحلها، يخدم براد، حاملة الطائرات اسمها "في الرب نثق/ in god we trust"، وينتظر الأوامر مع رفاقه للهجوم في أي لحظة على أي مكان، ويبقون على اتصال مع القاعدة، حيث يتحلّق المراقبون حول طاولة اجتماعات، يتابعون التطورات بشحنة عالية من التوتر، ويسيطر عليهم أداء الإعلانات في التلفزيون. حاملة الطائرات تتبع الحياة الأمريكية الطراز؛ القاعات المختصة بالأكل السريع، المول، المركز الرياضي، بجانب الممرات التي تخدم هدف الحاملة الأساسي.
الأهداف تظهر على الشاشات مجرد نقاط كما ألعاب الفيديو. الأهداف التي تهدد أسلوب حياة الأمريكيين، هؤلاء الذين لا يؤمنون بما يؤمن به الأمريكيون ويكرهونهم. وهم عليهم أن يحموا أنفسهم وعائلاتهم، وأن يهاجموهم في عقر دارهم، في محاولة لتفادي مجيء أحد الأشرار إليهم بقنبلة ذرية، أو "جمرة خبيثة، أو طبق معملي مليئ باليورانيوم سوف يقوم بإلقائه في مترو نيويورك، أو سياتل، أو لوس أنجلوس".(4)
الخوف من الآخر هو تيمة مسرحية "حالة استثنائية"، حيت تعرض المسرحية العلاقة المتوترة بين زوجين بعد أن تحقق حلمهما في النهاية بالانتقال للعيش في كومباوند يخضع لأقصي درجات الحراسة، ليكونوا في أمان.
يحيط المجمع السكني سور مكهرب وكاميرات مراقبة وحراس مسلحون، لإبعاد أي تهديد عنهم؛ "تأمين السلامة الشخصية هو الهم الأٍساسي، فهم في حالة خوف دائم، يراقبون كل شيء: مراقبة سلوك الجيران، لا يريدون غرباء وسطهم، يريدون تجنب الفوضى، تجنب التعدي على ممتلكاتهم، وتجنب التهديد الخارجي، والخصوصية والاستقرار" (5). (هناك أكثر من 28 مليون أمريكي حصّنوا أنفسهم داخل أحياء تحرسها شركات حراسة خاصة، يتجاوز إنفاقها إنفاق الشرطة). (6)
ينعكس هذا الهاجس على حياتهم، تصبح حياتهم مليئة بالمشكلات، ويزداد تأزم الزوج وعجزه (يصل ذلك للعجز الجنسي مع زوجته)، وينعكس ذلك على عمله ويصبح مهددًا بالطرد من عمله، وبالتالي طرده من المكان الذي يعيش فيه، والذي كانت الشركة قد وفرته له، سيطرد ليأتي مكانه من هو أفضل وأكفأ وأحق، بعدما ظن أن هذا الذي فيه، هو أفضل ما يمكن الحصول عليه.
تكشف المسرحية، وهمَ الحلمِ الذي يخضعان لكل شيء من أجل الحصول عليه، فتتسرب الحياة من بين يديهما، وفي نهاية المطاف، يتملكهما الخوف والخواء ويصبحان أسرى في سجنهما الداخلي الخاص. وأثناء ذلك، ابنهم الصبي المراهق (الذي يمثل بصورة ما أمل ريشتر) يعيش في عزلة عن حياة أبويه، ويشوش هو ورفاقه على كاميرات المراقبة، ويحاولون القفز فوق السور وفتح البوابات بحثًا عن الحياة خارجها.
يكتب ريشتر الدراما بطريقة جديدة، لغة لاهثة، مترددة، متدفقة، تعتمد على السرد السريع لتخدم فكرة مسرحياته. الحياة السريعة، تقترب من أن تكون رؤية شاملة تحتوي اللحظة والمرحلة التاريخية والنظام القائم والحلم الإنساني. الكومباوند هنا في حالة استثنائية، قد يرمز لدول غرب أوروبا التي تحاول أن تعزل نفسها عن محيطها، دول شرق أوروبا صاحبة الاقتصاد الضعيف، ودول إفريقيا المعدمة، وما يمكن تفسيره أيضًا؛ الخوف من اللاجئين الذين أًصبحوا "مشكلة" عالمية الآن، الخوف من الآخر القادم إليهم.
كما يمكن اعتبار ريشتر قد تنبأ بمخاوف المستقبل التي هي واقع الآن؛ الخوف والقلق (insecurities) والخوف من الحب والارتباط بشخص آخر. لا يشيّد ريشتر عوالمه يائسًا من التغيير أو لمجرد الوصف والتسجيل، بل يحاول أن يخلق النموذج ويقدمه لكي نتجنبه، نتجنب الحياة اللاهثة المفتقدة للجدوى والتي تعزلنا عن الآخر وتخيفنا منه.
يخلق ريشتر عوالمه بجماليات خاصة -وإن كانت لاذعة أحيانًا-، لا يعتمد على الحدث ونموه فقط، بل يعتمد على العاطفة الإنسانية وكشفها. يكتفي بشخصيات قليلة لتكون صورة من صورة المواجهة، كل واحد يقابله واحد يتعامل معه كـ"آخر" يتوجس منه، أو يخشى من مصير يجمعهما معًا، ما يقود إلى تفسخ المجتمع الإنساني في غياب الانسجام. يبحث ريشتر عن الطابع الإنساني للحياة، بعيدًا عن هوس الاستهلاك وروتينية العمل وسيطرة الميديا. غاية مسرحه أن يضيء طريقًا للحلم، والتمهيد لبناء عالم حقيقي لا مصطنع، عالم جديد لا زال ممكنًا.
______________________________________________________
(*): هناك إشارة في كتاب "الأزهر وقضية حمادة باشا" لـ سيد على إسماعيل والذي صدر في سلسلة تراث المسرح المصري، إلى أن المسرحي المصري حسن مرعى (1880) كان أسبق في كتابة المسرح التسجيلي حيث سجل في مسرحيات له حادثة دنشواي ورفض الأزهريين لقانون الأزهر الجديد وقتها. حمادة باشا كان مشهورًا وقتها بأنه جلاد الخديوي وكان مسئولًا عن قمع تمرد الأزهريين.