إديث بياف.. كيف يمكن للحزن أن يكون جميلا؟
كم كانت المغنية الفرنسية إيديت بياف (Edith Piaf) بعيدة كل البعد عن الصورة الذهنية التي قد يرسمها المرء في رأسه لحسناء أوروبية! فبدلا من الجسد الطويل الممشوق، كان لبياف جسد ضئيل لا يتعدى طوله المتر وأربعة وسبعين سنتيمترا (1)، وبدلا من الشعر الأشقر المُسدل، كان شعرها أسود مفلفلا، وبدلا من الملابس الزاهية الجميلة، دائما ما ظهرت بياف بفستان أسود متواضع طويل الكُمّين مفتوح الصدر، وبدلا من الجواهر والحُليّ الكثيرة، لم يكن يزين بياف سوى عُقد طويل يتدلى منه صليب كبير أعلى صدرها.
لكن، وبالرغم من هذا، فقد أحب الناس بياف وخلّدوا ذكراها كما لم يفعلوا مع أي حسناء فرنسية. الأسباب لذلك كثيرة، فبالرغم من أنها لم تكن يوما جميلة بالمعايير التقليدية، فإن النظر إليها وهي تغني على المسرح يشكل متعة خالصة، فأثناء غنائها لا تشعر أن حنجرتها فقط هي التي تغني، بل إن كل ذرة في كيانها وكل عضو في جسدها يغني معها، تشعر أنها كفت عن كونها إيديت بياف وتماهت تماما مع كلمات الأغنية.
فحين تغني أغنية "الزحمة" (La Foule)، تصير بياف الفتاة التي تاه عنها حبها في زحمة الناس، وأثناء غناء "سيّدي" (Milord)، تصير أخرى فقيرة تشاهد من بعيد اللورد الذي تحبه وهو يَرثي رحيل حبيبته الشقراء، أما في أغنية "الحياة الوردية" (La Vie en Rose) تغني لنا إيديت ما يدور في أعماق امرأة عاشقة. وإلى يومنا هذا، تظل قدرة بياف الهائلة على التعبير عن مختلف المشاعر بالصوت وحركة الجسد واليدين عصيّة على التكرار، وهكذا، امتلكت بياف نوعها الخاص من الجمال غير التقليدي.
(أغنية "الزحمة")
لم يُعرف الكثير من التفاصيل المؤكدة حول حياة إيديت بياف وطفولتها، فقد نُسجت حولها من الأساطير ما يفوق الحقائق، هذا وقد ساهمت بياف نفسها في الترويج لتلك الأساطير (2). من التفاصيل المؤكدة التي نعرفها أنها وُلدت في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1916 بحيّ "بل فيّ" بباريس، وسماها أبواها "إيديت جيوفانا جاسيون" تيمّنًا بالممرضة الفرنسية "إيديت كوبول" التي أعدمها الألمان لمساعدتها الجنود الفرنسيين أثناء الحرب العالمية الأولى.
عَمِل أبوها لوي ألفونس جاسيون كفنان أكروبات متجول وأمها أنيتّا جاسيون كمغنية بارات. لم يجن أي منهما الكثير أبدا، وعاشا في فقر مدقع، بالإضافة إلى إدمان أنيتا الكحول ولوي المخدرات. عندما ذهب أبوها إلى الحرب، تركتها أمها عند جدتها الفرنسية من أصل جزائري "عائشة"(3). لم تكن حالة الجدة بأفضل من حالة الابنة، فعاشت هي الأخرى حياة فقيرة انعكست على إيديت الصغيرة التي لم تجد أبدا الكثير لتأكله.
عندما عاد أبوها من الحرب، وأصابه الذهول لرؤيته إيديت هكذا هزيلة، أخذها لتعيش عند جدتها لأبيها في الماخور الذي امتلكته بمدينة نورماندي. هناك، غمرتها الفتيات اللاتي يعملن في الماخور بالحب والعطف (4). أثّرت سنوات طفولة إيديت التي قضتها في بيت جدتها عليها كامرأة بالغة، فتقول في أحد الحوارات إن ضعفها تجاه الرجال جاء كنتيجة لنشأتها بماخور، فشبّت وهي تعتقد أنه عندما يدعو رجل امرأة إليه فلا تملك المرأة أن ترفض أبدا (5).
تركت تلك السنوات أيضا أثرها الواضح في أغانيها، فقد تناولت في كثير منها قصصا لفتيات فقيرات اضطررن لبيع أجسادهن لقاء كسرة خبز. وتُعدّ أغنية "في شارعي" (Dans ma Rue) إحدى أجمل هذه الأغاني.
(أغنية "في شارعي")
تغني إيديت "في شارعي" على لسان فتاة فقيرة تعيش في أحد أحياء باريس الرثّة، مع أب عاطل مدمن للشراب، وأم مسكينة تضطر للعمل في غسيل الملابس لتغطي نفقات أسرتها. تصور لنا إيديت الفتاة الصغيرة، جوعى ومريضة ومفتقدة للدفء. كل ليلة، تسند رأسها إلى النافذة وتحلم بأماكن بعيدة، لكن سرعان ما ينتزعها ضجيج الشارع من هدأتها، ويتركها عزلاء أمام برودة الخوف.
تكبر الفتاة ويخبرها أبوها أنهم ما عاد في استطاعتهم الإنفاق عليها، ومن ثم فعليها الرحيل والعمل كبائعة هوى. تمضي الأغنية، وتُترك الفتاة فريسة للشارع، بلا زبائن ولا مأوى ولا طعام ولا دفء. منكسِرة، تجول الشوارع وهي تبكي. جسدها الضئيل يتألم من البرد والمطر، ولا تجد في كل هذا العالم من يحنو عليها للحظة. في النهاية، تأتي رحمة الله لتنقذها من قسوة هذه الدنيا، فتحمل الملائكة روحها للسماء، وللأبد ينتهي ألمها (6).
لا يملك المرء عند استماعه لإيديت وهي تغني "في شارعي" سوى أن يشعر أنها والفتاة في الأغنية الشخص نفسه. ليس في إمكاننا التأكد، لكن بطريقة أو بأخرى، فكل من غنّت عنهم إيديت يمثلون أجزاء من حياتها وشخصيتها، وربما لهذا السبب نشعر بمشاعرها الحارة تتدفق خلال صوتها في كل ما تغني. هذا ويُعدّ تسليط إيديت الضوء على الفقر والفقراء في أغانيها أحد أسباب انتشار تلك الأغاني الواسع بين الناس، حيث رأوا أنفسهم عبر ما غنّت بياف.
كبرت إيديت وتركت أباها، وجالت الشوارع مع صديقتها "مومون" تغني وتَجمع المال. أثناء غنائها عند أحد الأزقة، سمعها لوي ليبليه، صاحب ملهى ليلي، وتبنى موهبتها. وكان ليبليه هو من أطلق على إيديت اسم "لا موم بياف" (La Mome Piaf) والتي تعني "العصفور الصغير" نظرا لضآلة جسدها.
(إيديت تغني "الحياة الوردية" أشهر أغاني الحب على الإطلاق)
انقلبت حياة إيديت رأسا على عقب، فمن الغناء في الشوارع والحواري للشحاذين والمارة، صارت تغني لجمهور حقيقي يقدر جمال صوتها، ومن الفقر المدقع، صارت تمتلك من المال ما يكفي حاجتها ويزيد (7). شيء واحد لم يتغير: لم تعدم إيديت قط أسبابا للحزن والتعاسة.
غنت بياف للحب كثيرا وطويلا، تغني عن السعادة والفرح في الحب تارة، وعن ألم الفقد وعذاباته تارة أخرى. يمكننا رؤية أغاني بياف عن الحب كانعكاس لحياتها العاطفية، فبياف أحبت الكثير من الرجال، لكن يظل حب حياتها الأكبر هو الملاكم الفرنسي "مارسيل ساردين".
وقعت إيديت في حب مارسيل بالرغم من كونه رجلا متزوجا له أطفال، وبالرغم أيضا من ولائه الشديد لأبنائه الذي منعه من ترك زوجته والعيش مع بياف. اشتعلت جذوة الحب بين الاثنين، ولم يطفئها سوى موت مارسيل في حادث طائرة أثناء سفره لمقابلتها بنيويورك. لم تتجاوز بياف صدمتها قط، وبدأت عندها رحلتها مع الإدمان (8).
مرت السنوات، وإيديت تزداد شهرة وحزنا. أوهنها الكحول والمرض، حتى صارت تبدو كعجوز ستينية وهي بعد في الأربعينيات من عمرها. وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 1963 ماتت بياف عن عمر سبعة وأربعين عاما. خرج الآلاف من محبيها في الشوارع لتوديعها (9). والآن، يكون قد مر أكثر من خمسين عاما على رحيلها، لكن يظل صوتها حيّا في أغانيها، يواسي أولئك الذين لم يحالفهم الحظ في الحياة، ويشارك المُحبين نخب سعادتهم.