السيمفونية التاسعة.. خطأ بيتهوفن الذي تحول لأشهر الألحان العالمية
السيمفونية التاسعة والتي تُعرف باسم السيمفونية الكورالية هي آخر سيمفونية كاملة للمؤلف الموسيقار لودفيج فان بيتهوفن، وتعتبر واحدة من أشهر الأعمال على مستوى العالم، حيث يعدها البعض أعظم قطعة موسيقية كُتبت على الإطلاق. لكنها رغم ذلك اعتُبرت في زمانها خطأ جسيما، يجب على صاحبه ضرورة تعديله. فما قصة هذه السيمفونية؟
لا شك أن الحركة الأخيرة للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن تحتوي على واحدة من أشهر الألحان التي كُتبت على الإطلاق. منذ أول ظهور لها في عام 1824، أُعيد استخدام "قصيدة الفرح" أو "Ode to Joy" بطرق لا حصر لها سواء في العروض في حائط برلين أو حتى في الإعلانات الدعائية. وتستند الحركة الختامية في السيمفونية، التي تجمع بين الأصوات البشرية والأوركسترا، إلى قصيدة فريدريش شيلر التي كتبها عام 1786 والتي تُمجّد فكرة إنسانية عالمية.
بدأ بيتهوفن يرسم الأفكار من أجل إعداد موسيقي للنص في أواخر العشرينيات من عمره، وبالنظر إلى الإعجاب الأولي بنابليون، فإنه من المحتمل أنه انجذب إلى نغمات القصيدة الثورية. ومع ذلك، فإن السيمفونية التاسعة ليست عملا من شباب بيتهوفن الثائر، بل إنها عمل "متأخر"؛ فبعد 12 عاما من سيمفونيته السابعة والثامنة (وقبل موته بثلاث سنوات)، مر بيتهوفين بكثير من المعاناة في حياته -ناهيك عن فقدانه لسمعه- حيث انخفض إنتاجه الموسيقي ولم تكن بعض الأعمال ذات جودة عالية، بالإضافة إلى معاناته الشخصية للحصول على الحق في حضانة ابن اخيه، واعتقد حينها أن زمن أشهر موسيقيي فيينا قد انتهى.
فلماذا اختار بيتهوفن إعداد هذا النص؟ هل هو تعبير عن التفاؤل أم علامة على تقبل بيتهوفن لمصيره وتصالحه مع الحياة؟ أم هي محاولة لنقل رسالة قد يفشل كل شيء في إيصالها عدا الموسيقى وحدها؟
بالنظر إلى الأسئلة القوية التي تطرحها الحركة الختامية لهذه السيمفونية، والشعبية الدائمة للحن الشهي، فمن المفارقة أن بيتهوفن ظن حينها أنه ارتكب خطأ، فبعد أدائه الأول، قام بإعداد بدائل مختصرة لقصيدة الفرح؛ فالشكل السيمفوني -كما كان مفهوما آنذاك- لم يكن مجرد أداء موسيقي، بل يمكن القول إنه فئة من الموسيقى ينبغي أن تعلو فوق الأمور التي يمكن التعبير عنها بالكلمات فقط، فتم اعتبار إدخاله للكلمات ضعفا وخطأ جسيما. ومع ذلك، فإن الـ "خطأ" الأكبر ربما كان في عدم الاعتراف بروعتها. ففي الأيام الأخيرة من الفترة التي سُمّيت بالفترة "الكلاسيكية"، كانت السيمفونية عادة نحو 30 دقيقة، ومع ذلك تحدى بيتهوفن الجماهير ليظلوا منتبهين هنا لأكثر من ساعة بلا كلل أو ضجر.
بالإضافة إلى ذلك لم تكن الأوركسترا حينها قد بلغت أوجها، وكانت الكتابة لعازفي آلات النفخ ناهيك عن الخطوط الصوتية العالية خارجة عن نطاق الكثيرين. وعلى الرغم من قيام جمعية لندن الفيلهارمونية بتكليفه (مقابل 50 جنيها إسترلينيا) بكتابة السيمفونية عام 1817، فإن العرض الأول كان في فيينا في 7 مايو/أيار 1824.
وجاء ذلك في أعقاب عريضة تُصرّ على أن تكون المدينة أول من يسمع العمل الجديد، وحتى مع حضور العديد من المعجبين، لم يكن العرض بتلك الجودة حيث كان بيتهوفين لا يسمع الأوركسترا ويسبقهم بالإشارة. وفي لندن في العام التالي، استقبلت الصحافة السيمفونية التاسعة بعدائية كبيرة قالت إن صَمَم الملحن وشيخوخته قد دفعه إلى الضلال وكتابة هذا العمل الفوضوي.
ووصفت مجلة هارمونيكان الموسيقية بلندن أداء السيمفونية أنه "مخيف" وأنه بلا شك "اختبر صبر الجمهور بقسوة". وقال البعض إنه يمكن اختصار العمل كثيرا وأنه ممطوط بلا طائل أو مبرر، في حين كتبت المجلة الموسيقية ربع السنوية مراجعة رافضة تماما تقول إنها "هيجان جامح للهوس الحديث" في الفن.
ولكن خلال عقد من الزمن، بدأت الآراء حول السيمفونية تتغير. وأدخلت فرق الأوركسترا المحترفة والعازفون والمغنون المتخصصون -مثل مندلسون وبرليوز وفاغنر- النظام في الأداء، فأصبح طوله الكبير غير ملحوظ، وأصبح اللحن أكثر الألحان المفضلة عالميا. ومع ذلك، فإن السيمفونية التاسعة، التي تتألف من أربع حركات متنوعة، بها جمال وبهاء لا ينحصر في الخاتمة فقط.
يشتهر افتتاح السيمفونية بشكل يظهر موضوعها الرئيسي القوي، الذي وصفه البعض بالغموض السافر.
عندما يعود هذا الجزء في وقت لاحق من السيمفونية، يتم إطلاق العنان للغضب، مع إعطاء نبرات أعلى للآلات الموسيقية المنخفضة للأوركسترا بشكل أساسي وإدخال اللونية الشاملة للحركة.
وكما هو الحال في موسيقى بيتهوفن، فإن المقطع الختامي للحركة الأولى طويل، ويمثل ربع طولها تقريبا. وقد اعتبرت إحدى الفقرات وكأنها مسيرة في جنازة.
تتبع الحركة البطيئة في العادة سيمفونية تقليدية، لكن بيتهوفن يمدنا بدلا من ذلك بـ "Scherzo" فكاهي (يعني حرفيا "نكتة" باللغة الإيطالية). حيث في البداية، يبدو أن الضربات الأوسع تُحسب في مجموعات من أربعة…
ومع تقدم الحركة، يلعب بيتهوفن حيلة صغيرة وتظهر النغمات الآن في "فيجورو" أي ثلاث ضربات..
تأخذ الحركة البطيئة التالية لهذه شكل "مزدوج"، حيث يتداخل موضوعان موسيقيان في شكل متنوع باستمرار.
في ذلك، يقدم بيتهوفن "تمهيدا" لأحد التحولات اللونية التي ستدعم لحظة مهمة وحيوية في الحركة النهائية. إنها حركة فريدة من نوعها، حتى إن تحليلها ما زال مستمرا لعصرنا هذا وبعيدا كل البعد عن الإجماع. وهي تبدأ بتنافر قوي (والذي وصفه فاغنر بأنه "ضجة رعب") فيستقبل المستمع تقديما مزدوجا تعزفه الأوركسترا أولا ثم مغنيين سولو (منفرد) ثم الجوقة (الكورال الغنائي).
وربما يكون التباين الأكثر إثارة للدهشة في هذه المعزوفة الأسطورية هو التصميم التركي، فالآلات الإيقاعية فيه هنا تعزف بشكل يذكّر بالفرقة العسكرية العثمانية. وقد جادل البعض بأن هذه الموسيقى الهادئة قليلا هي تعليق ساخر على الاحتفال الجاد بالنص والسخرية منه في بداية الأمر.
وقد أضاف بيتهوفن كلمات إلى القصيدة نفسها من كلماته يقول في أحدها: "إنه وراء النجوم اللامعة، لا بد وأنه يسكنها بالتأكيد"، ومع العزف المصاحب تبدو هذه الجملة كما لو كانت لحظة مشعة خارج الزمن، ولكن هل هي بيان أم سؤال؟ وكما هو الحال في أعمال بيتهوفن السابقة العظمى تقدم كلمات وألحان السيمفونية التاسعة لمحات عن الجانب الإنساني للمؤلف.
غير أن أعظم ما في الموسيقى (وهذه الموسيقى على وجه الخصوص) هو الطبيعة "غير القابلة للديمومة" فيها واستمرارية التغيير ودخول الأصوات والآلات ومن ثم التجدد المستمر. وهي مجرد سيمفونية أخرى، ولكن في الوقت نفسه، قدم بها بيتهوفن كيانا مستقلا بذاته، وهو كيان يستمر في التطور في السياق والمعنى مع تواتر الأجيال واستكشافها له. وأيا ما كانت الرسالة التي تقولها القصيدة والمعزوفة -خاصة في جزء "هذه القبلة للعالم بأكمله"- فإن السيمفونية تتقدم دائما أبعد من مبدعها الأصم الذي أبهر العالم، ولا تفقد حقيقتها الخلابة.
—————————
مترجم عن "ذا كونفرزيشن"