ألبوم كايروكي "نقطة بيضا".. عن الصراع مع المجتمع والذات

"لا حرية مع الخوف".. تأتي هذه الكلمات في بداية فيديو أغنية "آخر أغنية" لفرقة كايروكي الصادرة العام الماضي والتي ضمتها الفرقة هذا العام أيضا لآخر ألبوماتها "نقطة بيضا"، ويعرف المتابع الجيد لمسيرة "كايروكي" الغنائية مدى محورية الغناء عن الحرية بالنسبة إليهم، فالفريق الذي تكوّن عام 2003 -عندما كان أعضاؤه بعد في السابعة عشرة من عمرهم- لم يصعد لمصاف الشهرة سوى بمشاركة مغني الفرقة الرئيس أمير عيد لهاني عادل غناء "صوت الحرية" عام 2011. هذا وقد تم تصوير الفيديو كليب الخاص بالأغنية من ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير، وقام أمير عيد برفعه على موقع "يوتيوب" قبل تنحي مبارك بيوم واحد(1).
تغيرت إذن الأجواء المُسيطرة على أغنيات كايروكي الخاصة بالحرية منذ الثورة وإلى اليوم، وفي كل منعطف جديد اتخذته نجد فيها انعكاسا لشعور آلاف الشباب حيال مساحات الحرية الآخذة في التناقص وقد ترجمتها الفرقة إلى أغنيات.
ففي "صوت الحرية" نجد الأمل قد سيطر على المشهد، فهنالك عزيمة من ناحية الثوار على نيل حريتهم وإصرار على عدم الرحيل من دونها "نزلت وقلت أنا مش راجع.. وكتبت بدمي في كل شارع"، أما في "اثبت مكانك" يظل الإصرار سيد الموقف، لكن يتراجع الأمل بعيدا عن المشهد ليحل محله شعور بالاغتراب عن مُجتمع لا يفهم مُطالبة شبابه بحقه الأساسي في الحرية، ويُصر على محاولة كتمانها وإعلاء صوت السُلطة أيا كانت "كلامك مابيتفهمش.. إحساسك مابيتوصفش.. أنت بتقول كرامة وهم يردوا بـمهانة.. أنت بتقول العدل يقولوا عنك ندل". أما في "آخر أغنية" نجد التوجس قد تسلل إلى المشهد، فالفرقة تعلم تمام العلم أنه لا يفصلها عن المنع التام سوى قرار أي شخص في السُلطة، ومع هذا تُصر على ترك رسالة واضحة أنها لن تستسلم "قولوا معايا بصوت عالي، حرية".
نجد أيضا في "آخر أغنية" أن الطرف الذي يتصارع معه جيل الشباب قد اتسع ليشمل المجتمع بأسره "كلامي مش ضد النظام فقط.. كلامي ضد العبيد كمان.. لو مية ألف نظام سقط.. هنفضل برضه في نفس المكان"، ذاك المجتمع الذي تكالب على حلم الشباب بوطن ينعم بالحرية بكافة أوجهها، وأصروا على صم آذانهم دون هُتافاته والتشبث بتقاليدهم البالية التي ترى في الحرية عيبا وجريمة "اسمع مني المفيد، عاهات كتير وتقاليد.. المجتمع اجتمع ضد التجديد".
نُلاحظ أيضا أنه بعد أن غنت الفرقة للحرية بصفتها حقا بديهيا للإنسان ليس بحاجة إلى الشرح في "صوت الحرية" انتقالها للتعبير عن اغتراب من ينشدها في مجتمع يكفر بها في "اثبت مكانك"، لتصل إلى استنتاج في "آخر أغنية" أن فئات عريضة من المجتمع لا تعرف ماهيتها أصلا، لذا قامت بتعريفها في أكثر من مكان بالأغنية. "حرية يعني تغيير.. يعني حرية في التفكير والتعبير.. حرية يعني اختيارك مش اختيار الغير".
بينما كانت أطراف الصدام في السابق واضحة نجد في "هدنة" المعركة أكثر التباسا، وتنقسم فيها الذات على نفسها وتتصارع معها، فنجد أن الذات هنا ليست ملجأ من مجتمع هي غريبة عنه كما في السابق، بل تحولت لجزء لا يتجزأ منه "كل الطرق بتأدي لصدام.. صدام مع شخص جوايا اتزرع.. تربية الزمن والناس والمجتمع".
وفي بقية الأغنية تُشير الفرقة في أكثر من موضع إلى حتمية الصراع مع المجتمع بأفكاره وازدواجيته وتقاليده التي تكفر بها الذات وأيضا إلى ضرورة غسلها منه، فبعد أن التجأت الذات إلى مهادنة نفسها والتعايش مع أمراض مجتمعها ما عاد في استطاعتها الاستمرار في سجون الزيف والاغتراب، وصار لا مفر من القتال "دقت طبول الحرب.. ويا انتصار، يا انتحار، مفيش عندي اختيار".
وتستمر نغمة الصراع في أغنية "نقطة بيضا" وتنتقل فيها كليا إلى الذات، حيث تُصارع نقطة بيضاء لأجل البقاء في وسط سواد النفس، وعلى لسان هذا السواد تأتي كلمات الأغنية فيما عدا المقطع الأخير. كما تستمر أيضا مشاعر الاغتراب عن النفس وعن الآخرين في التسرب للمشهد "ولبست وشوش تانيين، ونسيت فالأصل أنا مين" وسط رغبة في العودة مجددا لزمن البراءة وخلع أردية الزيف الخانقة.
أما في أغنية "السكة شمال في شمال" -التي رافقتها الموسيقى الشعبية بدلا من موسيقى الروك- نجد نغمة الصراع قد اختفت، ويحل محل الكلمات التي توحي بالنزاع أسلوب تقريري يؤكد أن "السكة شمال في شمال واليمين اختفى". وبتهكم حزين ترثي الأغنية لأحلام الحرية والعدالة الاجتماعية، فـ"الواطي بقى عالي والرخيص بقى غالي.. واحنا كده من تاني ملناش مكان"، فبدلا من المقاومة سيطر على المشهد شعور بانعدام المعنى أو الجدوى للاستمرار في القتال، فتتوجه الأغنية للمستمع مُقرة "أنت ملكش عازة، آخرك دمعة وجنازة".
أما السخرية الكُبرى فلا تكمن هذه المرة في إحدى أغنيات الألبوم، بل في الرقابة التي منعته من النزول في الأسواق أو العرض بالإذاعة والتلفزيون، لتُعطي مثالا حيّا على قمع الحرية الذي تحاول أغنيات الألبوم التصدي له. (2)
ورغم انعكاس المناخ السياسي على أغنياتها تُصر فرقة "كايروكي" أنها لا تُقدم أغنية سياسية، وقالوا عن هذا في أحد الحوارات: "نحن مؤمنون أن حقوق الإنسان وكرامته وحاجاته الطبيعية ليست بالسياسة، مؤمنون أن الثورة نفسها ليست سياسة، وأن لا مطالب لها، بل تقع كلها في نطاق الحقوق الطبيعية. فعندما تأتي ثورة ما لتطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فهذه ليست مطالب بل حقوق، ونحن بغنائنا عن تلك الحقوق نغني عن الشارع العادي، ومن هنا فلسنا مؤمنين بتسمية هذا ‘ سياسة'"(3)