شعار قسم ميدان

"الزحف نحو الضوء".. الأغنية كصوت للفقراء والمهمشين

midan - music

الهامش، مكان دُفع إليه الكثير عبر التاريخ. فحيثما تم تسليط الأضواء على جماعة ما، يقبع آخرون في الظل. يسكن الهامش كل من حالت الظروف دون امتلاكه صوت مسموع، والفقراء أماكنهم محفوظة هناك بالطبع، لكن، وبالرغم من الصعاب، هنالك من يهربون من الهامش، يزحفون إلى الأضواء. تُعيرهم الأغاني صوتها المدوي، فيصيحون بها مُفصحين عن آلامهم وآلام المهمشين الكثيرة. 

 

في هذا التقرير، نستمع لمجموعة من الفنانين الذين ولدوا بالهامش وشقوا طريقهم بعيداً عنه، منهم من نعرف اسمه، ومنهم من أضاعته السنين عنا. أتي أولئك الفنانون من أماكن وأزمنة مختلفة، لكن شيء واحد جمع بينهم: أسمعنا كل واحد منهم عبر أغنياته صوت من لا صوت لهم.

 

 

لحن الشيالين: أمل رغم الصعاب

لم تكن حياة الفقر والحاجة بغريبة يوماً عن سيد درويش، المولود بكوم الدكة بالإسكندرية عام 1892. ابن لنجار، لم يملك أبوه ما يكفي من المال لإرسالهِ للمدرسة، فاكتفي بتعليمه بأحد الكتاتيب التي تخرج منها لمعهد أزهري. دأب والده على أخذه معه لدكانه الصغير حيث قضى سيد درويش الطفل وقته وسط العمال والصنائعية الفقراء، وصار واحداً منهم عندما توفي والده واضطر هو لترك المعهد والعمل كبنّاء. في أغانيه الكثيرة، يمكننا إلى الآن سماع أصواتهم جلية.

 

بدلاً من الأمراء والباشوات، سلطت أغاني درويش الضوء على الشعب الفقير، وبدلاً من اختصار وظيفة الأغنية في الطرب والإمتاع، جعل درويش الأغنية وسيلة للتعبير عن الهموم والأزمات الاجتماعية والسياسية.  فغني ساخراً من ارتفاع أسعار البترول إبان الحرب العالمية الأولى في "لحن البترول":

 

استعجبوا يا فندية لتر الجاز بروبيه"

وبقاله اليوم شنه ورنه واللي يبيعه بقى له كلمه

ياما ناموا كتير ناس فى الضلمه وصبح أغلا من الكولونيا"

 

وغني عن الأشخاص الانتهازية في "لحن الوصوليين:

"أول شرط نطاطي البصلة … لسيدنا الوالي ونستعبط له

مهما تسمعوا تهجيص … اعملوا روحكم بلاليص

مهما نسمع تهجيص … نعمل روحنا بلاليص

عشان ما نعلا ونعلا ونعلا … لازم نطاطي نطاطى نطاطى"

 

ويبقى "لحن الشيالين" الشهير بـ"شد الحزام"، من أشهر أغانيه. بالرغم من وصف الأغنية لشقاء الشيال الفقير، إلا أنها تحتفظ بنغمة مرحة، ساخرة، و تنتهي بالكثير من الأمل.
 

"لا تقوللى كتير وقليل

عمر الشـدة ما تطـــوّل

عمر الشدة ما تطـوّل

بكرة نهيص زى الأول

هيلا هيلا هيلة هــيلة "

السقوط في الهاوية


"هنالك بيت بنيو أورلينز

يسمونه ‘ الشمس الساطعة’
أهلك من الصبية الكثير
وأنا واحد منهم"

بهذه الكلمات، استهل "إد برتون"، المغني الرئيسي بفرقة ذا أنيملز (The Animals)، أغنية هوس أوف ذا ريزنج سن (House of The Rising Sun)، التي صدرت عام 1964. شهد التسجيل نجاح ساحق أدخل الأغنية في قائمة الـ"رولينج ستونز" لأعظم 500 أغنية على الإطلاق، كما جاءت أيضاً بالمركز الرابع في استطلاع رأي أجري عام 2005 لأكثر الأغاني المحببة للبريطانيين. فما هي القصة من وراء الأغنية؟ وما هو منزل "الشمس الساطعة"؟

 

أغنية هوس أوف ذا ريزنج سن (House of the Rising Sun) من أغاني الفلكلور البريطاني التي سافرت مع الإنجليز أثناء هجرتهم لأمريكا واستقرت هناك بولايات الجنوب. وكعادة أغاني الفلكلور، فليس هناك مؤلف لها بالمعنى التقليدي، بل أخذت الأغنية في الانتقال الشفهي بين الناس من مكان لمكان، وفي كل مرة، تأخذ معني مختلفاً قليلاً. وقد قام بأداء الأغنية عشرات الفنانين، لكن تبقى نسخة ذا أنيملز (The Animals) الأشهر على الإطلاق.

 

في بعض الأحيان، تُغني الأغنية على لسان فتاة سقطت ضحية للاتجار الجنسي في بيت دعارة، وأحياناً أخري، تكن عن امرأة محبوسة بأحد السجون. عندما تُغني الأغنية على لسان فتى، يكن مقامر ضاعت أمواله. في كل التنويعات، يحكي المغني عن فقر عائلته، عن سراويله المقطعة التي خاطتها والدته، وعن أبيه الذي لا يجد راحته إلا في الشراب. ثم في النهاية، يوصي والدته بنصيحة إخوته ألا يكونوا مثله، ويضيعوا حياتهم في الخطيئة والبؤس بمنزل "الشمس الساطعة".

 

اختلف الباحثون عن ماهية منزل "الشمس الساطعة"، ولم توصِّلهم المعلومات المتوفرة لحقيقة أكيدة. سواء ما كان بيت دعارة، سجن نساء، أو وكر قمار، فمنزل "الشمس الساطعة" هو في النهاية رمز للضياع والهاوية التي كثيراً ما يسقط بها أبناء الطبقة الكادحة، بحثاً عن مال، أو هرباً من واقع عجزوا عن تغييره.

 

أغنية الأحلام الضائعة


في إحدى أيام ديسمبر 1915، جاءت إيديت جيوفانا غاسيون إلى عالمنا. ابنة للاعب أكروبات متجول مدمن على الشراب ومغنية مقاهي لم تلق حظا من الشهرة، لم يكن منتظر منها الكثير. لكن، بعد سنوات، كبرت الفتاة الصغيرة لتصبح "إيديت بياف"، واحدة من أهم مغنيي فرنسا على الإطلاق.

 

قبل أن تنفتح لها أبواب الحظ، قاست بياف الكثير من الفقر والبؤس. تخلت عنها أمها وذهب أبوها للحرب. مكثت فترة مع جدتها لأمها الفقيرة بدورها والتي تركتها طفلة هزيلة نتيجة لسوء التغذية. انتقلت بعدها لجدتها لأبيها التي كانت تعمل على إدارة ماخور تمتلكه. بعد إنتهاء الحرب، أخذها أبوها لتتجول معه في الشوارع وتؤدي بعض الفقرات. في سن الخامسة عشر، تركت بياف أباها وأخذت في التجوال والغناء في الأزقة مع صديقة لها. هناك، اكتشفها أحد أصحاب المقاهي الشهيرة بالصدفة.

 

تنوعت أغاني بياف طوال مسيرتها الفنية الطويلة، لكن بقي الأسي كتيمة مشتركة بين معظمها. غنت كثيراً عن الفقراء التي نشأت كواحدة منهم، ومن بين تلك الأغاني، تعد لاكوغديونيست (L’Accordeoniste) الأشهر.

 

تبدأ أغنية لاكوغديونيست (L’Accordeoniste) بمشهد لفتاة فقيرة تحب لاعب أكورديون. في الليل، يعزف لها وترقص هي على أنغامه. تأتي الحرب لتأخذ حبيبها بعيداً، فتقضي الأيام وهي تحلم ببيت يجمعهم ومتجر صغير يمتلكونه، تعمل فيه كموظفة ويكون هو المدير. تمر السنوات، حبيبها لم يرجع، والنقود صعبة المنال. في النهاية، ترقص الفتاة رقصة حزينة على نفس الموسيقى التي كان يعزفها لها حبيبها، وإلى الأبد، تودع أحلامها الوردية.

 

 

الفول واللحمة: انتفاضة الخبز

 

"يا ساكنين القصور الفقرا عايشين في قبور

يا حاكمنا في عابدين فين الحق وفين الدين

سيد مرعى يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه"

 

بهذه الهتافات، خرج العمال والطلبة المصريون إلى الشوارع في الثامن والتاسع عشر من يناير 1977. في اليوم السابق، كان عبد المنعم القيسوني نائب رئيس الوزراء للشئون المالية قد أعلن عن مجموعة من القرارات أمام مجلس الشعب. اشتملت هذه القرارات على رفع الدعم عن مجموعة كبيرة من السلع الأساسية، منها الخبز والسكر والشاي والأرز والزيت والبنزين، مما يعني ارتفاع كبير في أسعارها. أصيب الكثيرون بالصدمة. لسنوات مضت، وعد السادات بتحقيق الرخاء الاقتصادي بعد حرب 1973، وقام بالفعل بتحويل مصر من النظام الاشتراكي للرأسمالي. لكن إذا بالشعب يستيقظ يوم السابع عشر من يناير على غلاء لا طاقة له به.

 

لم يغب الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، المعارضين الأكبر لنظام السادات والذين اكتووا بسجونه لسنوات طويلة، عن "انتفاضة الخبز". كتب نجم قصيدة "الفول واللحمة" تهكماً على الطبقة الحاكمة، التي لم يفُتها كالعادة الزج به في السجن لعام كامل بعدها.

 

تتناول الأغنية "الدكتور محسن"، الطبيب المسئول الذي يسرد منافع عجيبة للفول وأضرار أعجب للحمة تنفيراً للفقراء منها، في إشارة صريحة للسلطات المضللة. يقول الدكتور محسن أن الفول يعطيك طاقة وصحة وقوة "تجعل من بني ادم غول"، أما اللحمة فتصيبك بالكسل والأمراض ووجع البطن، وكل من يأكلها "حيخشم جهنم تأبيد".  في النهاية، بعد أن استمع لأكاذيبه الكثيرة، يرد الشيخ إمام علي لسان الشعب:

"ما رأي جنابك وجنابهم
فيه واحد مجنون بيقول
احنا سيبونا نموت باللحمة
وانتوا تعيشوا وتاكلوا الفول
ما رأيك يا كبتن محسن
مش بالذمة كلام معقول؟"

 

بالرغم من مرور أعوام طويلة على كل تلك الأغاني، إلا أنها لا زالت تستطيع اختراق حاجز الزمن والتعبير بكل صدق عن حال كل سكان الظل مسلوبي الصوت. لا زال إلى الآن يسكن وسطنا الشيال الفقير، من ضاعوا في الهاوية، الفتاة المكسورة، والجماهير الساخطة. ولا زلنا لم نفعل شيئاً بعد لتغيير واقعهم البائس. فإن كان الفن قد أسمعنا معاناتهم، أما آن الأوان بعد لإنهائها؟ 

المصدر : الجزيرة